تحولت ظاهرة الحد من النسل وضبط الزيادة السكانية إلى حاجة اقتصادية لدى كثير من العائلات السورية. وكان الموضوع قبل سنوات قليلة، حكراً على الجهات الرسمية وشبه الرسمية والأهلية التي تدير حملات وبرامج توعية بهدف إقناع العائلات في المناطق الشعبية والريفية خصوصاً بتنظيم النسل. وبلغ معدل الزيادة السكانية 3،3 في المئة أواسط عقد التسعينات من القرن الماضي. والاتجاه نحو خفض الولادات وتفضيل "العائلة الصغيرة" أو المتوسطة الحجم، يعلن عن نفسه سريعاً في أحاديث السوريين وبخاصة الأزواج الجدد الذين تلاحقهم أسئلة تصل درجة الإحراج. "أحياناً نُسأل عن سبب التأخر في الإنجاب"، تقول منى 29 عاماً، مضيفة: "هذا الجانب يستوي فيه سكان المدينة والريف وأصحاب الوظائف العليا أو الدنيا لا فرق". وتقول منى، خريجة كلية الصيدلة والعاملة في أحد مصانع الأدوية: "انتمي إلى أسرة عدد أفرادها 10 أشخاص، وما لا أنساه أن والديّ شقيا من أجل تأمين أساسيات حياتنا وتعليمنا وحتى تزويجنا". وتشير إلى ان لديها طفلاً واحداً، "ولا أفكر بالإنجاب مرة ثانية قبل أربع أو خمس سنوات، أنا وزوجي متفقان حول عدد أفراد عائلتنا مستقبلاً رغم تدخلات أهالينا وإلحاحهم المستمر كي ننجب". العامل الاقتصادي ويلعب العامل الاقتصادي دوراً أساسياً في الاتجاه الى تحديد عدد أفراد العائلة. وتفرض المصاعب المعيشية تقليل عدد أفراد الأسرة لتأمين حياة كريمة "حرمنا منها"، كما تقول فريال 33 عاماً العاملة في إحدى الدوائر الحكومية. وتضيف: "منذ أن تزوجت قبل 7 سنوات اتفقت وزوجي - زميلي في العمل - على إنجاب طفلين أو ثلاثة على الأكثر، وبالفعل تمكنا من تحقيق ما نريد على رغم تدخل أهل زوجي في كل مناسبة داعين إلى إنجاب المزيد من الأطفال". تلك القناعات المستجدة لدى شرائح واسعة، ومعظم أصحابها من الحاصلين على شهادات عليا، تعود في منبتها إلى الريف أو حتى الأحياء الشعبية حيث الزيادة الهائلة في عدد السكان. وتدعم أرقام الإحصاء الرسمية هذا الاستنتاج، إذ تظهر أن معدل النمو السكاني خفض من 3.3 في المئة في السنوات 1990 - 1994 إلى 2.7 في المئة خلال الفترة 1994 - 2000، والى 2.45 في المئة ما بين 2000 و2002. وانعكس اتجاه العائلات إلى ضبط الانجاب، خفضاً في خصوبة المرأة السورية من 6.1 طفل عام 1980 إلى 3.7 طفل عام 1999، فيما ازداد عدد السنوات التي يتضاعف فيها عد السكان من 21.3 عام خلال الفترة 1981 - 1994 الى 26 عاماً. وتتوقع الدراسات الرسمية أن يصل الرقم خلال السنوات الخمس المقبلة إلى 30 عاماً. ويؤكد مدير مركز الدراسات السكانية في جامعة دمشق الدكتور موسى الضرير، ان "نقطة التحول في الموضوع السكاني تعود إلى عام 1994، حينما وجّه الرئيس الراحل حافظ الأسد رسالة مشهورة إلى مؤتمر السكان في المكسيك أشار فيها إلى الربط بين المؤشرات الديموغرافية والتنموية، وقد وجد ذلك التوجيه صداه مباشرة في البرامج التنموية وخطط الدولة كما أدخلت وزارات عدة ومنظمات شعبية موضوع التثقيف السكاني في صلب أولوياتها مما أحدث الطفرة في السيطرة على التكاثر السكاني". لكن للمسألة جوانب أخرى لا تخفى على أحد ويتلمسها كثيرون بمن فيهم أصحاب العائلات الكبيرة الحجم، وتكمن بالاكتظاظ الكبير للسكان في مساحات ضيقة جداً يتردى فيها مستوى الخدمات بشكل واضح ويصبح تأمين مياه الشرب، مثلاً، عبر شبكات نظامية ومأمونة، صعب التحقيق ويحتاج الى مبالغ ضخمة جداً. والاكتظاظ المذكور يداهم زائر دمشق فوراً ومن معظم جهاتها حيث تتراص الكتل الاسمنتية إلى بعضها البعض في الضواحي القريبة والملاصقة للعاصمة. وبالتالي تزداد وطأة الأزمة السكانية مع احتضان دمشق نحو 4.5 مليون نسمة أي ربع سكان البلاد. ويقول الحاج أبو قاسم 55 عاماً: "لقد أتينا إلى منطقة السيدة زينب 12 كم جنوبدمشق قبل نحو 35 سنة، كان عدد السكان قليلاً جداً ولا يتجاوز ال20 ألفاً"، مضيفاً: "الآن تضاعف العدد أكثر من خمس عشرة مرة، جاء الناس من مختلف المحافظات بل ومن دول عربية وإيران واستأجروا هنا أو بنوا كيفما اتفق على مدى العقود الماضية إلى أن وصلت المنطقة إلى ما هي عليه الآن من اكتظاظ وتشويه معماري وجمالي". بدوره لا يبرئ أبو حمزة 65 عاماً المجتمع من هذا الوضع المكتظ بالسكان: "لدي عائلة مكونة من 11 شخصاً يعيش معي الآن منهم 5 يدرسون في المرحلتين الثانوية والجامعية". ويضيف الرجل الذي لا يزال يعمل إلى اليوم "ناطوراً" في إحدى الشركات الخاصة، "إن عدد أفراد عائلتي كبير ولا أجد حرجاً في قول ذلك على رغم أن لأبنائي جواباً مختلفاً عندما يسألهم أحد ما عن عددهم". ويوضح: انهم عندما ولدوا "لم تكن الأوضاع المعيشية بهذا المستوى، بل ولم يكن أحد يفكر بهذا الجانب على الإطلاق". ويشير الرجل الذي بدأ عملاً جديداً في القطاع الخاص قبل نحو 10 سنوات بعد تقاعده من عمله الأساسي في الدولة، إلى أن عمله الحالي سيئ، وصحته لا تساعده كثيراً لكنه مضطر من أجل مساعدة أولاده على مواصلة الدراسة لعلهم يجدون فرصة عمل مناسبة مستقبلاً. هذا الجانب الاقتصادي وراء ازدياد التفكير بخفض النسل يؤيده الدكتور الضرير، "لكنه ليس السبب الوحيد إطلاقاً". ويشرح أن "ثمة جوانب أخرى حاضرة بقوة منها ارتفاع مستوى الوعي والتعليم"، مشيراً إلى "أن معظم العائلات في الريف تحديداً تقدم على تزويج أبنائها مبكراً وقبل نحو عقدين كان يندر وجود من تجاوز العشرين عاماً وهو أعزب في مختلف أنحاء الريف السوري". سوق العمل الضاغط الأبرز للزيادات السكانية يجد ترجمته في ازدياد عدد العاطلين عن العمل الذي قدرت المعطيات الرسمية نسبته ب9 في المئة عام 2001، فيما تشير احصاءات أعداد العاطلين المسجلين في مكاتب التشغيل إلى ارتفاعها من 440 ألفاً عام 2001 إلى 800 ألف عام 2002، وهذه الأعداد مرشحة للارتفاع أكثر في ظل تقديرات الاقتصاديين بدخول ما بين 250 الى 350 ألفاً سوق العمل سنوياً. ويبدو من الواضح أن هذه المعضلة تعرقل جهود الحكومة لتحقيق التنمية المرجوة وتعرقل دور هيئة مكافحة البطالة التي وضعت لدى تأسيسها خطة لتأمين 50 ألف فرصة عمل في السنة الأولى و90 ألفاً في الثانية و110 آلاف في الثالثة و120 ألفاً في الرابعة. وفيما يتحدث بعض الاقتصاديين السوريين عن ضرورة تحقيق زيادة سكانية تعادل 2 في المئة، ونمو اقتصادي بنسبة 4 في المئة، يؤكد الضرير أن الرقم الثاني يجب أن يكون أكبر من ذلك مع ضرورة خفض الأول أيضاً.