ما هي العلاقة التي تربط الثقافة العربية المعاصرة بآخرها؟ تيسيراً للجواب عن هذا السؤال الذي يسمح لنفسه بأن يتحدث عن الثقافة العربية وعن آخرها، وعن العلاقة بينهما، بصيغة المفرد، لنقم برصد تاريخي، ولنتوقف عند لحظة زمنية أخرى، لحظة حضارية أخرى، ولنتساءل عن العلاقة التي ربطت الثقافة العربية قديماً بغيرها من الثقافات، ولنستئنس في الاجابة عن هذا السؤال الثاني بنصين أساسيين، أحدهما مأخوذ من المناظرة المشهورة التي نقلها أبو حيان التوحيدي في الامتاع والمؤانسة والتي جرت بين المنطقي متى بن يونس والنحوي أبي سعيد السيرافي، والآخر مأخوذ من شذرات لشليغل. نقرأ من المناظرة: "قال السيرافي: أنت إذاً لست تدعونا الى علم المنطق، انما تدعو الى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا الى لغة لا تفي بها؟ وقد عفت منذ زمن طويل، وباد أهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم بتصاريفها، على أنك تنقل من السريانية فما تقول فيم عان متحولة بالنقل من لغة يونان الى لغة أخرى سريانية، ثم من هذه الى أخرى عربية؟ قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها، فإن الترجمة حفظت الأغراض وأدت المعاني وأخلصت الحقائق. قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت... وان كان هذا لا يكون، وليس هو في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني فكأنك تقول: لا حجة الا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه. قال متى: لا، ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه... وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ ما نشأ من أنواع العلم وأصناف الصنائع، ولم نجد هذا لغيرهم. قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى، فإن علم العالم مبثوت في العالم بين جميع من في العالم". يطرح هذا النص مجمل القضايا التي عاشتها الثقافة العربية الكلاسيكية في تعاملها مع غيرها من الثقافات، خصوصاً الثقافة اليونانية. فهو يبرز الأهمية التي لعبتها اللغة في التواصل مع الآخر والدور الذي لعبته الترجمة في ذلك، وما تمخض عن تعدد الوسائط اللغوية. كما يظهر تشككا في جدوى التفتح على ثقافة بعينها، وتخوفاً من الوقوع في أحضانها والتعصب لها ويدعو الى النهل من معين جميع الثقافات المبثوثة في العالم. قبل أن نتوقف عند تفصيل هذه القضايا والتساؤل عما إذا كنا نحياها نحن على هذا النحو، لنقرأ النص الثاني الذي أقترحه عليكم مقتبساً من شذرات ل. ف. شليغل. يقول: "يتسم العرب بطبع مجادل الى أبعد الحدود، فهم، من بين الأمم جميعها، أكثر الأمم قدرة على النفي والإتلاف. ما يميز فلسفتهم في روحها هو ولعلهم المرضي بإتلاف الأصول والقضاء عليها بمجرد أن تتم الترجمة". لا يهمنا هنا، بطبيعة الحال، الوقوف عند هذا النص في محتواه الايديولوجي، ولنكتف بالتساؤل عما إذا كانت النتائج التي تتمخض عما يثبته تفصح عن العلاقة الفعلية التي ربطت الثقافة العربية الكلاسيكية بالثقافات التي تعاملت معها؟ لتحديد تلك النتائج لنتساءل في البداية عما يعنيه شليغل بإتلاف الأصول، أو كما يقول هو: "إتلافها والإلقاء بها جانباً"؟ انه يعني أن الثقافة العربية الكلاسيكية كانت تتعامل من موقع قوة مع غيرها من الثقافات. كانت عندما تنقل الأصل الى لغتها وتتمثله في ثقافتها، كانت تؤقلمه وتضمه اليها، كانت ترضخه وتقضي على عنصر الغرابة فيه فتبتلعه وتدخله في دائرة الأنا شعوراً منها أنه لم يعد آخر، لذا فسرعان ما تنفيه وتعمل على اتلافه والاستغناء عنه كأصل بعد أن "ترقى" به الى لغتها. في اطار علاقة القوة هذه، والتي يقهر فيها كل اختلاف، نفهم أن تولد الترجمة مكتملة منذ الوهلة الأولى، كما نفهم ألا يتم التفاعل إلا من جانب واحد، وألا يتم نقل النصوص إلا نحو العربية وليس العكس. هذا ما يؤكده الجاحظ في نص مشهور من كتاب الحيوان حيث يقول: "وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونانية وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنا وبعضها ما انتقص شيئاً. ولو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعانيهم وفطنهم وحكمهم". المعنى الأساس لهذا النص، ليس كون الشعر لا يترجم كما قيل مراراً، وانما أن العجم ليسوا في حاجة الى أن تنقل اليهم النصوص العربية، ويقول الجاحظ حكمة العرب، ان النص العربي ليس في حاجة الى أن ينقل، على عكس الحكم اليونانية وكتب الهند وآداب الفرس التي نرتقي وتزداد حسناً، أو على الأقل لا تفقد شيئاً عندما تنقل الى لغة الثقافة، أي لغة الضاد. ان الجاحظ يضع مسألة التفاعل الثقافي ضمن علائق القوة التي تربط الثقافة العربية بغيرها من الثقافات، وهذا يتجلى أساساً في عملية النقل التي يتم عن طريقها التثاقُف، أي الترجمة. فهذه العملية تكون ذات مفعول ايجابي، أو على الأقل مفعول محايد عندما تتم في اتجاه لغة الثقافة، أي اللغة العربية، وهي لا تكون ذات مفعول، أو ذات جدوى في الاتجاه الآخر. ذلك أن الثقافة الكلاسيكية كانت تعتبر أن لغة الثقافة هي العربية. لذا فإن القدماء، الذين كان حملة العلم فيهم "أكثرهم العجم" و"ان كان منهم العربي في نسبه فهو عجمي في لغته" كما قال ابن خلدون/ ان القدماء كانوا يشعرون أنهم لم يكونوا يخاطبون إلا قراء يتقنون العربية، وانهم بالتالي، عندما ينقلون النص الى هذه اللغة، فانهم "يرقون" به الى لغة الثقافة. لا عجب اذن أن يصبح النص في العربية هو النص، وان تتم عملية الإتلاف التي تحدث عنها شليغل، ولا غرابة أن تعتمد الترجمات العربية في ما بعد كنصوص أصلية، كأصول، ويكفي، مثالاً على ذلك، أن نذكر بأن الترجمة العربية ل"كليلة ودمنة"، هي التي ستعتمد كأصل عند ترجمة الكتاب الى اللاتينية والانكليزية والفرنسية، بل حتى الى الفارسية الحديثة كما يؤكد محمد عابد الجابري. لسنا في حاجة الى برهان طويل كي نؤكد ان علاقة القوة التي تربط الثقافة العربية الآن مع غيرها من الثقافات، وتربط اللغة العربية بالنصوص التي تتعامل معها علاقة مخالفة لهذه، إن لم نقل مناقضة، بل ان لم نقل مقلوبة. فنحن لا نشعر أننا نرقى بالنص عندما ننقله الى العربية ونزيده جمالاً كما قال الجاحظ، بل اننا نحس، على العكس من ذلك، اننا نرقى بالنصوص العربية عندما نترجمها، اننا نشعر أننا نرتقي عندما نترجم، نلمس ذلك في ظاهرة أخذت تنتشر في ثقافتنا العربية، وكانت قد عرفتها الثقافة الروسية في القرن التاسع عشر، وهي لجوء بعض كتابنا الى الكتابة أولا بغير اللغة العربية. كي يعملوا، وفي غالب الأحيان ليعملوا هم أنفسهم على نقلها الى لغة الضاد، هنا يغدو المرور عبر لغة الآخر هو الطريق المضمون، الطريق الموصل، الطريق المشرف لبلوغ القارئ العربي. لكي يتلقى القارئ العربي النص يحسن، بل ينبغي أن يصله مترجماً، ينبغي أن ينقل إليه عبر لغة أخرى، معنى ذلك أن المعني بالنص، حتى عندما يكتب بلغة أجنبية هو دوماً القارئ العربي فكأن المثقف العربي اليوم لا يتكلم لغته إلا عبر لغة أخرى، لا يعترف بذاته إلا إذا اعترف به الآخر. مقابل علاقة القوة التي اثبتناها مقدما نتبين هنا أن الثقافة العربية اليوم لم تعد تدرك ذاتها، ليس فقط إلا عبر آخر، وانما عن طريق الادراك الذي للآخر لها، انها لا تدرك ذاتها إلا في مرآة الآخر، فهي اذن لا تعيش التثاقُف كحركة تأليف ونشر، كتفاعل فكري، وإنما كأسلوب عيش ونمط وجود، وهي لا تيعشه كتفاعل وتثاقُف، وانما كانفعال وإثقاف. لعل ذلك هو ما يجعلنا لا نقرأ انتاجنا الفكري اليوم الا مقارنين موازنين مترجمين، وتجد القارئ عندنا سرعان ما يربط النص العربي، بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنص آخر. أو لنقل بالأولى، والمبالغة مقصودة، انه لا يطلع على النص العربي إلا بعد أن يربطه بنص آخر، إلا ليبحث فيه عن النص الآخر. لا يقرأ حي به يقظان إلا بحثاً عن روبنسون كروزو، ولا المقدمة إلا بحثاً عن أ. كونت، ولا اللازوميات إلا لربطها بشوبنهاور. ولا المنقذ إلا بحثاً عن ديكارت، ولا التهافت إلا بحثا عن هيوم وكنط، ولا رسالة الغفران إلا تقصياً لدانتي. ها نحن كذلك ننسى "ان علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم"، إلا أن وضعيتنا مغايرة، وعلائق القوة التي تربط ثقافتنا بغيرها مخالفة، وهي لا تسمح بطبيعة الحال، لا بالتعامل المنتج، والترجمة الاستثمارية للنصوص الأجنبية فحسب، بل انها تحول دون التعامل المنتج، التعامل المبدع حتى مع النصوص العربية ذاتها، ان المرور الى الذات عبر الصورة التي يعكسها الآخر يحجب الآخر ويحجب الذات معاً، هذا النوع من التفاعل الثقافي، من التثاقُف يسيء أيضاً الى ما يمكن أن نسميه التثاقُف الذاتي: L'auto-acculturation. لا يمكننا والحال هذه ان نؤسس لتثاقُف فعلي يخرج الثقافة العربية من حالة الاثقاف التي هي عليه، إلا إذا حاولنا أن نقلب علائق القوة التي تربطنا بغيرنا، وهذا لن يتم إلا بتملك فعلي لثقافته، أي تكسير مرآتها أولاً، ذلك أن التملك في الميدان الثقافي لا يعني الملكية، لا يعني الاعتناق والتقمص والاقتراب، وانما الابتعاد والتحرر وخلق المسافات وإنتاج الأسئلة. وهذا يعني أننا لا يمكننا أن نؤسس لثقافة عربية مغايرة إلا بتوليد الآخر كآخر، ولكن أيضاً بالتحرر من الرغبة في التحول الى أصل، والتخلي عن افتراض أي مفهوم مطلق عن الخصوصية في الميدان الثقافي. ذلك أن المتاح اليوم لأية ثقافة ليس خصوصية مميزة، وانما كيفيات خاصة وطرق نوعية للمساهمة في الثقافة الكونية والانخراط في المعاصرة واقامة ثقافة حوارية تستثمر الأصول وتعيد انتاجها فتنعش الفكر وتشق له دروباً أخرى وتفتح له آفاقاً مغايرة.