توقع تثيبت سعر الفائدة الأوروبية اليوم    إسقاط 17 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل    نائب أمير عسير: الخطاب الملكي يعكس ثقل المملكة السياسي وتجسيدها للإنسانية    نائب أمير منطقة عسير يتوّج المنتخب السعودي تحت 19 عامًا بكأس الخليج في نسخته الأولى    أرامكو تصدر صكوكاً دولارية دولية    إسهاماً في تعزيز مسيرة القطاع في السعودية.. برنامج لتأهيل «خبراء المستقبل» في الأمن السيبراني    «الفطرية»: برنامج لمراقبة الشعاب المرجانية    المملكة تعزي قطر في وفاة أحد منسوبي قوة الأمن الداخلي جراء الاعتداء الإسرائيلي الآثم    وزير الدفاع لرئيس وزراء قطر: نقف معكم وندين الهجوم الإجرامي السافر    200 شخص اعتقلوا في أول يوم لحكومة لوكورنو.. احتجاجات واسعة في فرنسا    السعودية ترحب وتدعم انتهاج الحلول الدبلوماسية.. اتفاق بين إيران والوكالة الذرية على استئناف التعاون    وزير الداخلية لنظيره القطري: القيادة وجهت بتسخير الإمكانات لدعمكم    إثارة دوري روشن تعود بانطلاق الجولة الثانية.. الاتحاد والهلال يواجهان الفتح والقادسية    هوساوي: أعتز برحلتي الجديدة مع الأهلي    الدليل «ترانسفير ماركت»    أكد أن النجاحات تحققت بفضل التعاون والتكامل.. نائب أمير مكة يطلع على خطط طوارئ الحج    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يستقبل رئيس فريق تقييم أداء الجهات الحكومية المشاركة في تنفيذ الخطة العامة للطوارئ    منافسة نسائية في دراما رمضان 2026    معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2025.. موروث ثقافي يعزز الأثر الاجتماعي والحراك الاقتصادي    حساب المواطن ثلاثة مليارات ريال لمستفيدي شهر سبتمبر    الفضلي يستعرض مشروعات المياه    فيلانويفا يدافع عن قميص الفيحاء    باتشيكو حارساً للفتح    سكان غزة.. يرفضون أوامر الإخلاء ومحاولات التهجير    العراق: الإفراج عن باحثة مختطفة منذ 2023    هيئة الشرقية تنظّم "سبل الوقاية من الابتزاز"    الكشافة السعودية تشارك في الجامبوري العالمي    مبادرات جمعية الصم تخدم ثلاثة آلاف مستفيد    نائب أمير المنطقة الشرقية: الخطاب الملكي الكريم خارطة طريق لمستقبلٍ مشرق    اليوم الوطني.. نبراس للتنمية والأمان    "التعليم" توقع اتفاقية "الروبوت والرياضات اللاسلكية"    «آسان» و«الدارة» يدعمان استدامة التراث السعودي    «سلطان الخيرية» تعزز تعليم العربية في آسيا الوسطى    «الحج والعمرة» تُطلق تحدي «إعاشة ثون»    التأييد الحقيقي    "الشيخوخة الصحية" يلفت أنظار زوار فعالية العلاج الطبيعي بسيهات    إنقاذ حياة مواطنَيْن من تمزّق الحاجز البطيني    2.47 تريليون ريال عقود التمويل الإسلامي    59% يفضلون تحويل الأموال عبر التطبيقات الرقمية    الهجوم الإسرائيلي في قطر يفضح تقاعس واشنطن ويغضب الخليج    هل توقف العقوبات انتهاكات الاحتلال في غزة    المكملات بين الاستخدام الواعي والانزلاق الخفي    مُحافظ الطائف: الخطاب الملكي تجسيد رؤية القيادة لمستقبل المملكة    الأمير فهد بن جلوي توَّج الملاك الفائزين في تاسع أيام المهرجان    تعليم الطائف يعلن بدء استقبال طلبات إعادة شهادة الثانوية لعام 1447    السبع العجاف والسبع السمان: قانون التحول في مسيرة الحياة    فضيلة المستشار الشرعي بجازان: " ثمرة تماسك المجتمع تنمية الوطن وازدهاره"    نائب أمير منطقة تبوك يستعرض منجزات وأعمال لجنة تراحم بالمنطقة    ختام بطولات الموسم الثالث من الدوري السعودي للرياضات القتالية الإلكترونية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس وأعضاء جمعية الوقاية من الجريمة "أمان"    البرامج الجامعية القصيرة تمهد لجيل من الكفاءات الصحية الشابة    أمير المدينة يلتقي العلماء والمشاركين في حلقة نقاش "المزارع الوقفية"    أحلام تبدأ بروفاتها المكثفة استعدادًا لحفلها في موسم جدة    نيابة عن خادم الحرمين.. ولي العهد يُلقي الخطاب الملكي السنوي لافتتاح أعمال الشورى في الدور التشريغي 9 اليوم    "التخصصي" يفتتح جناح الأعصاب الذكي    إنتاج أول فيلم رسوم بالذكاء الاصطناعي    مجلس الوزراء برئاسة ولي العهد: سلطات الاحتلال تمارس انتهاكات جسيمة ويجب محاسبتها    أهمية إدراج فحص المخدرات والأمراض النفسية قبل الزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصور والتماثيل ومصائرها في عراق ما بعد العام 1958
نشر في الحياة يوم 06 - 05 - 2003

تذكرت حديثاً مع شاب في الثلاثين وصل إلى لندن تواً من العراق، ينظر إلى الجدران والساحات بدهشة أوشك أن أرى صورة صدام حسين حتى هنا في لندن، إنها أمامي وبين عيني.
زرعت هذه الصورة في المخيلة خلال عمل يومي دائم يهدف إلى إشباع الأجيال التي ولدت وكبرت مع حكم صدام بالحضور الكلي للرجل الواحد الذي يحيط كل مجالات حياتها. وقد ورثت القيادة البعثية تقاليد الربط بين الصورة والسلطة في الحياة العراقية. فمن أوائل ما يفعله الانقلابيون عادة إزالة صور ممثلي السلطة السابقة. في صبيحة 14 تموز يوليو 1958 كانت تماثيل الملوك الهاشميين هي أول ما أسقطت الجماهير المؤازرة للثورة للتعبير عن سقوط سلطتهم، وبدأت صور عبدالكريم قاسم وتماثيله تزداد وللمرة الأولى وتنتشر بمقدار ما تتنامى ديكتاتوريته وتفرده في الحكم، في عهده تقام للرئيس تماثيل في مداخل المدن وهو لا يزال حياً. وقد أظهر البعثيون اهتماماً مشدداً بالعلاقة بين الصورة والسلطة ، فاصدروا منذ بداية وصولهم الى السلطة قراراً يمنع أجهزة الإعلام من نشر صورة أي رئيس أو ملك سابق للتشديد على وحدانية سلطتهم. منذ البداية اهتموا بكيفية ظهور صور القادة في أجهزة الإعلام، وما كانوا بحاجة الى دراسة تشريح الصورة لمعرفة مدى تأثيرها في الجمهور. تكفيهم السليقة لمعرفة المزاج شبه الفلاحي الذي يقيس الأمور من مظهرها الخارجي.
وأبدى صدام حسين نفسه اهتماماً مشدداً بالصور التي تنشر له، فقبل أن يتسلم السلطة كاملة من البكر، كانت توجيهاته من خلال مكتب الإعلام تؤكد وضع صورة البكر الى اليمين وصورته الى اليسار بحجم وارتفاع متساويين للدلالة على شراكة الاثنين. وإذا بقيت صورة الأول فبقرار من صدام كتقدير معنوي لرجل سلم سلطته بهدوء، الا ان هذه الصورة اختفت بعد تسليم السيف والراية للتدليل الى سلطة رجل واحد.
وعلى رغم مهامه الكثيرة كرئيس للدولة والحزب حرص صدام على متابعة الصور والاشرطة الوثائقية التي ستظهر في اجهزة الاعلام. ويعرف الذين عملوا في الصحافة العراقية ان هذه الصور كثيراً ما تستبدل في اللحظات الأخيرة بصور أخرى وقد أجريت عليها تعديلات حساسة جداً لأن في الصورة شخصاً ثانوياً أطول من الرئيس، أو يرتدي بدلة فاتحة تجذب النظر عن الرئيس، أو لأن واحداً من الحماية ملتفت في حركة تشتت انتباه المشاهد بعيداً من الرئيس.
واعتمدت الاجهزة الحزبية والاعلامية على الانتشار الكمي لصور صدام، وديمومة وجودها بالتوافق مع تغلغل سلطته في كل شؤون الحياة، ومع تنامي قوته وفردانيته وحضوره الدائم في الوعي الجمعي. فثلث مدة البث التلفزيوني البالغ 12 ساعة يومياً على القناتين الأولى والثانية مكرس لتغطية نشاطات القائد وأحاديثه التي تعاد بالكامل خلال النشرات الإخبارية الأربع، أو لإظهار صوره مع الأغاني المكرسة له أو لحروبه. أي مسؤول في الدولة حين يظهر في مقابلة صحافية أو تلفزيونية سيضع صورة صدام إلى يمينه للتدليل على وفائه للقائد. وتحتل صورة الرئيس ثلاثة أعمدة من وسط الصفحات الاولى في الصحف اليومية والأسبوعية حتى لو لم يكن هناك أي خبر عنه. إنها تعبير عن استمرارية حضوره، فغيابه عن أجهزة الإعلام ليوم أو يومين يحيل المواطن مباشرة إلى تأويلات حول صحته أو صحة سلطته. وتتصدر اثنتان من مقولاته اعلى الصفحة الأولى . وقد اخترت لا على التعيين عدداً من جريدة "الثورة"، وهو العدد المؤرخ في 18-4-1984، فوجدت أن اسم صدام مع ألقابه تكرر 147 مرة في صفحات الجريدة، وتكررت صورته 27 مرة. وفي العدد نفسه أخبار عن إزاحة الستار عن خمس جداريات جديدة تحمل صورته نصبت في مداخل مدن ومؤسسات... وهناك خبر عن افتتاح دورة صدام للمصارعة تقام في قاعة صدام الرياضية يشرف عليها مرافق صدام صباح مرزه نيابة عن ابن صدام رئيس اللجنة الأولمبية عدي صدام... وتحتل جداريات تحمل صورة صدام بالحجم الكبير كل مرافق الحياة اليومية: مداخل المدن والقرى وحتى المحال، الساحات العامة، الشوارع العامة. جيل من الرسامين الشعبيين وخريجي معهد وأكاديمية الفنون الجميلة لم يجدوا مجالاً للرزق والعمل غير رسم صور الرئيس للدوائر والمؤسسات والمدن. وقد انحدر إلى هذا الدرك فنانون لهم دور الريادة في تأسيس الفن العراقي...
ومن المضحك التصور إن هدف هذا التكرار إعلام الذين لا يعلمون في بلد وصلت صور القائد ابعد قرية في الهور. الهدف الأكيد هو التذكير به في كل لحظة وعدم ترك أية فسحة للنسيان: إنه هنا حاضر في لا وعيكم بحضور سلطته. التكرار كوَّن شكلاً من المجال المغناطيسي حول الجيل الشاب الذي صحا على هذا الحضور الكلي لرجل واحد وقائد واحد وأب واحد ورمز واحد. وبالكم المتكرر يحدث نوع من الاغتصاب حتى من دون أن يكون هناك حب. انه نوع من فرض قوة يطلب تواطؤاً داخلياً حين يتعذر الفكاك منه. وقد نشرت جريدة "العراق" في 18 تشرين الثاني نوفمبر 1984 قصة ذات دلالة عن تأثير هذا التكرار في لا وعي فتاة أسمها غادة جلال الدين الرومي صدمتها السيارة أثناء عبورها الشارع. وخلال خضوعها للبنج كانت تكرر في لا وعيها صدام بابا صدام ، بابا صدام!.
من خلال الكم والديمومة تطابقت الصورة في النهاية مع سلطة صاحبها... لذلك كانت هذه الصور موضوع تحد حتى الموت بين السلطة والمعارضة... فكلما ازداد انتشارها وكبر حجمها ازدادت اقترانًا بالحضور الرمزي والفعلي للسلطة... وكانت عناصر انتحارية من المعارضة تقوم بتشويه هذه الصور في ظلمة الليل. فتشويه الصورة يهدف إلى إسقاط رهبة سلطة صاحبها في نفوس الآخرين. وفي المقابل يعاقب الفاعل بحسب التوجيهات الأمنية معاملة المتآمر الفعلي ضد هذه السلطة، بإطلاق النار فوراً على كل من يشاهد وهو في حال تلبس عملية تشويه هذه الصور... هذا الحكم الفوري يعادل عقوبة مطلق النار على صاحب الصورة... وقد كان إطلاق النار على الجداريات هو بمثابة ساعة الصفر في انتفاضة 1990... فأول ما فعله الجنود العائدون من الهزيمة العسكرية عام 1990 هو إطلاق النار على صورة صدام في البصرة... هذه الرصاصات كانت البيان الأول الذي يعني أن حاجز الخوف الذي تجسده هذه الصور المحفورة في ذهن المواطن سقط، وأن الانتفاضة قد بدأت. لا يملك أبناء هذا الجيل، الذي عاش شبابه تحت القمع او في الخنادق، قاتلاً أو قتيلاً، الإحساس المسترخي بالنكتة بحيث يكتفي بتشويه الصورة والسخرية من صاحبها... ففي لحظة الهزيمة المرة أخذت الكراهية مكان النكتة في سلوك جيل مجبول على العنف... وبعصبية تشبه لحظة القتل الفعلي اطلقوا على الصور صليات طويلة ومتتابعة. وفي لحظة الضعف الوحيدة لسلطة كانت على الدوام قوية عليهم، أطلقوا النار للمرة الأولى في وضح النهار. وفي المقابل دخلت الدبابات الحكومية التي استباحت المدن المنتفضة وهي تحمل صور صدام على فوهات مدافعها، فصاحب الصورة هنا هو رمز قوة بمقدار ما هو مطروح كرمز وحدة. وكان أول عمل بعد استتباب السلطة في المدن هو تشكيل لجنة برئاسة وزير الإعلام لطيف نصيف جاسم لترميم صور القائد المنتصر قبل ترميم الجسور وشبكات المياه. حين وقعت الواقعة لم يصمد الورق ولا الحديد، فخلال ساعات الحرية الأولى لمت الناس التي تحررت من خوفها الصور والتماثيل بين الأصابع والاقدام.
* كاتب عراقي مقيم في لندن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.