في بادرة لا سابقة لها أفردت جريدة "تشرين" الرسمية السورية صفحة كاملة في كلٍ من عددي 1/3 و1/4/2003 لرسوم مما نشرته قبيل هذه الحرب وأثناءها، جريدتا "الوطن" الكويتية و"أخبار العرب" الإماراتية للفنان السوري المرموق علي فرزات. وكتبت رغداء مارديني الصحافية في جريدة "تشرين" على هامش الرسوم الكاريكاتورية: "في الوقت الذي انبرى مفكرو العالم ومثقفوه وفنانوه للتنديد والاحتجاج والاستنكار... ترانا نستغرب - بل نستنكر مع الكثير من الرسائل الواردة إلى جريدتنا - أن يقوم الفنان السوري علي فرزات بالاستهزاء والسخرية من صمود الشعب العراقي وإرادته ودفاعه المستميت عن وطنه وتراب أرضه الغالي، مؤكداً خطاب الإعلام الأميركي المضلل الذي يبرر العدوان الآثم الذي يستهدف في مخططه العرب جميعاً... فهل أصبح الدولار والدينار أغلى من الدم ودموع الأطفال؟". وأصدر علي فرزات بياناً يوضح أن الرسوم تتعلق بحرب الخليج السابقة، وأن الجريدتين الكويتية والإماراتية نشرتا الرسوم من الأرشيف، وأن سبب حملة الجريدة السورية عليه هو نقد جريدته "الدومري" للأداء الحكومي. ولئن كانت هذه الواقعة شكلت فرقعة ثقافية مدوية للحرب، وبدا فيها علي فرزات خارجاً على الإجماع الثقافي السوري على معارضة العدوان، فالأهم هو التدقيق في ما تحت الإجماع الذي رأى أكرم البني فيه انجراراً لكثير من المثقفين الديموقراطيين مع التيار الشعبي، بين متحصّنٍ بنظرة قومية متطرفة، وبين رؤية دينية، فيما ظلت قلة مصرة على طرح قيم الديموقراطية، ربطاً مع مقاومة الاحتلال والعدوان. لم يكن للمثقفين في سورية إزاء حرب الخليج السابقة مثل إجماعهم ضد هذه الحرب، بيد أن صوتهم جاء هذه المرة خافتاً في البيان الذي ضمهم إلى مثقفين عرب، ضد حرب "تحرير العراق". وقد يكون من المهم هنا الإشارة إلى ما جاء في البيان من رفض مبدأ تغيير الأنظمة العربية بقرار أميركي، والتوكيد على أن التغيير من حق ومسؤولية الشعب. ومن بين موقعي البيان السوريين كان وليد إخلاصي وحيدر حيدر ونزيه أبو عفش وجمال شحيد ورزق الله هيلان وعبدالرزاق عيد ومحمد جمال باروت وكاتب هذه السطور انظر "الحياة" 19/3/2003. من حرب إلى حرب علا صوت المثقفين في الشأن العام، وبخاصة في ما اشتهر ب"ربيع دمشق"، ثم خفت الصوت وارتبك حتى اقتراب العدوان الراهن على العراق، فابتدائه. وكان مجلى ذلك - دعك من البيانات - في تدافر الصحف المحلية وغير المحلية على استطلاع أو استكتاب كثرة من المثقفين عن العدوان. وعلى الرغم من أن الوقت لا يزال مبكراً، ومن أن ما يقال وما يكتب، ليس براءً من الآثار النفسية والإعلامية الحادة للعدوان، على الرغم من ذلك، يتنوع، بقدر ما يتقاطع، تأسيس المناهضة الشديدة للولايات المتحدة. فمحمد جمال باروت يشبهها ب"شريف فوق عالمي" تطور إلى إمبراطور قادر، ويرى أن البيان الأول للإمبراطورية الجديدة أطلقه بوش الأب في 2/3/1991 وسماه على نحو غامض بالنظام العالمي الجديد. كما يرى باروت الذي يشبه بوش الابن بالإمبراطور الروماني يوليوس قيصر، أن المفهوم الإمبراطوري الجديد يقوض مفهوم الحق الدولي، وأن مفهوم الحرب العادلة المرتبط عضوياً بالأنظمة الإمبراطورية القديمة، تحول بعد حرب الخليج السابقة إلى مفهوم - مبدأ الحرب الاستباقية. أما قاسم مقداد فيمضي إلى أن فكرة أميركا قامت على استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة، ولا ينسى حلفها الوطيد مع الديكتاتوريين ومنتهكي حقوق الإنسان. وبالدخول في الملموس، أي في هذه الحرب - العدوان، يرى الأب الياس زحلاوي أن ما يجرى الآن في العراق ليس سوى طلائع الحروب الآتية التي تنوي الولاياتالمتحدة القيام بها من دون تردد، لإخضاع العالم كله لهيمنتها المطلقة والدائمة. أما محمد ملص فيذكّر بالاس الصهيوني في هذه الحرب - العدوان، بينما يشير ريمون بطرس إلى تواطؤ النظام العربي، فيقارن في زاويته الفنية "حال الأمة" في جريدة "النور" بين تأميم قناة السويس 26/7/1956 وبين مصر الآن، حيث تعبر حاملات الموت والقرصنة القناة ذاتها، لقاء سنتٍ أميركي واحد عن كل قطرة دم عراقية، والمناقصة مستمرة. إلى ذلك، يتنابذ الخطاب الثقافي في قراءة ما هو آت، وفي ربطه بما تقدمه. ومن ذلك تعليل أنطون مقدسي للعجز بتدمير الأنظمة التسلطية للمجتمع وللإنسان، وبالدعم للديكتاتوريات، وتوكيد مقدسي، على رغم ذلك، على أن الإنسان يدافع عن وطنه إذا هوجم، أياً كان نوع حكمه، وأن الشعب يثور ويحرر وطنه من الأجنبي، أياً كان نوع حاكمه. أما هيثم حقي الذي يسخر من محترفي الكلام التلفزيونيين، ومن تبادل المثقفين للاتهامات، فيرى أن "الديموقراطية الامبريالية قادمة، وثرواتنا نهبت وستنهب، وسيمر وقت طويل حتى نستطيع استعادتها. وهذه الاستعادة تبدأ بخطوة حرية الإنسان". ويضيف حقي رافضاً أن يكون خيارنا بين جورج بوش وطالبان أو بن لادن وصدام حسين. وبينما يعلق هيثم حقي الأمل على العراقي الذي يتصدى اليوم للاحتلال، وبخاصة من كان على خصام مع النظام وهب للدفاع عن بلده، يعلق قاسم مقداد الأمل - بعد مقاومة الشعب العراقي للغزاة - على وعي الدول العربية لمدى الخطر عليها، ويرى أن الوقت لم يفت لاتخاذ قرارات حاسمة. وإذا كان مثل هذا الأمل ضعيفاً بين المثقفين بعامة، فهذا هو موفق نيربية، ومن دون أن ينسى فرح الأنظمة بالحل الأمني الأميركي الذي يوطد خيارها الأمني مع شعوبها، يقول: "أرجلنا وأرجل أنظمتنا ذاتها قيد الفلقة الواحدة. نحن مقتنعون بذلك، وهم أصحاب المصلحة المباشرة أكثر غير مقتنعين بعد. عساهم يفعلون". وفي هذا السياق يأتي توكيد أنطون مقدسي على أن لا مستقبل لأمة طالما أن شعبها تحت الوصاية، أياً كان الوصي، كما يرجو محمد ملص أن تكون حرب بوش بداية نهوض الشارع العربي، أمام جحافل الغزاة والأنظمة العربية التي أخصت هذا الشارع منذ رحيل جمال عبد الناصر. ومع حنا مينة وأدونيس وشوقي بغدادي وأسامة محمد وعمر أميرلاي وسواهم، فضلاً عمن تقدم ذكرهم، يلفت تراجع خطاب التخوين الذي هاج لدى "هوجة" التطبيع. لكن الإجماع الثقافي السوري على معارضة العدوان لا يخفي الاختلاف. فإذا كان اليميني واليساري والمؤيد والمعارض والمتدين و... يقف ضد الاستعمار الأميركي - البريطاني الجديد، ولا ينسى إسرائيل، فثمة من يذكّر بالشعار الشهير: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، لكأن فصول المعركة وعقودها المتعاقبة لم تعلّم أن أسّ الهزائم المبكرة والمتأخرة والتي قد تلي، هو في غياب الديموقراطية أو في هشاشة حضورها وزيفه. وهكذا، فالعين لا تغمض عن الباطن الديني لحرب بوش، ولا تغمض عن فعلات صدام حسين - كما كتب أدونيس - والإجماع لن يكون أغنى وأقوى إلا بالاختلاف والتعدد والتنوع، لعل الوقوف ضد العدوان هذه المرة يختلف عما سلف.