في سنة 1882 جلست إمرأة تبلغ الرابعة والعشرين من العمر في بيت ريفي هادئ في إحدى قرى الشمال السويدي وشرعت تكتب رواية. حملت الرواية عنوان "حكاية غوستار لينغ" وهي تحكي، بأسلوب رومانسي وحنون، عن الحياة الفلاحية في شمال السويد. في تلك السنة بالذات شقت الصمت الصرخات الأولى لطفلة نروجية معلنة رغبتها في الانتساب الى الحياة. كان والدها عالم آثار نروجياً شهيراً وأمها امرأة دنماركية تهتم بالأساطير والحكايات. بعد أربع وعشرين سنة، أي في عام 1907، تشرع هي أيضاً في كتابة رواية. الرواية تحمل عنوان "السيدة مارتا" وتروي سيرة بطلة الرواية "مارتا" بأسلوب رومانسي، أيضاً، في أجواء الريف النروجي. بعد عامين من ذلك، في 1909، ستحصل المرأة السويدية على جائزة نوبل للآداب. وهي ليست أول سويدية تحظى بالجائزة بل أول امرأة على الإطلاق. في ما بعد وبعد انصرام نحو عقدين من الزمن على ذلك، في عام 1928 تنال المرأة النروجية، أيضاً، الجائزة ذاتها لتصير، بدورها، أول امرأة نروجية تفوز بها. المرأة السويدية تسمى سلمى لاغروف. أما النروجية فتدعى سيغريد أوندست. كان والد سلمى لاغروف ضابطاً في الجيش وكان هذا يستدعي انتقاله من مكان الى آخر للالتحاق بقطعات الجيش الحديث المنشأة. أصاب الطفلة حادث جعلها تلزم البيت منعزلة، منطوية على ذاتها، تجلس وحيدة في البيت، بعيدة عن أقرانها فتضع رأسها في الكتب وتقرأ. في البيت كانت تصغي الى أمها تروي القصص والحكايات الخرافية والأساطير وتخبر عن عوالم الجن والفروسية. لم تمنعها تربيتها الدينية من الانفتاح على مذاهب الفنون ومدارس الكتابة وهي تركت نفسها تتأثر بالذين تقرأ لهم من سرفانتس الى روديارد كيبلنغ. وهي حين بدأت تكتب كان رأسها مملوءاً بالجمل والعبارات والأوصاف التي تتأرجح بين الواقع والخيال. انصرفت الى أعماق الأساطير الاسكندنافية ثم ملأت كتاباتها بحنين عميق الى طفولة حرة ومنفلتة. حين بلغت من العمر ما يسندها في الالتفات الى العالم انطلقت في أسفار متتالية الى ايطاليا وصقلية ومصر وفلسطينوالبرتغال. في عام 1901 كتبت روايتها الشهيرة "القدس"، وتتناول رحلة مجموعة من الفلاحين الى الأرض المقدسة في فلسطين. مع الرواية طارت شهرتها في الآفاق. أثناء الحرب العالمية الأولى كتبت "قيصر البرتغال" وهي رواية هائلة عن الحب والكذب والشهوة والجموح. وغالباً ما يشار الى هذا النص واحداً من أفضل الأعمال التي كتبت في تلك الفترة. إنها رائعة عالمية حولت الى فيلم سينمائي حول علاقة أب بإبنته وعشقه لها. في الرواية يختلط الواقع بالأسطورة ويتجاور الخيال والجنون وتتشابك عوالم الإنس والجن. كانت رواية "السيدة مارتا" لسيغريد أوندست خلقت صدمة في الوسط الأخلاقي النروجي. لقد تحدثت عن الخيانة الزوجية وأظهرت العلاقة الأسرية في هيئة مؤسسة هشة عرضة للاختلال. لقد تلفظت بطلة الرواية بعبارة "لم أكن صادقة مع زوجي"، وكان ذلك كافياً لإحداث صدمة في الذهنية المحافظة التي كانت تسود الحياة الزوجية. "جيني" لم تكن روايتها الأخرى "جيني" 1911 أقل هتكاً. بطلة الرواية "جيني" تتأرجح بين الإخلاص للزوج والوفاء للحب. وهي تغادر زوجها وتنجذب الى والده الرسام الذي يترك، هو بدوره، زوجته من أجلها. لم يكن من الممكن تصور أمر كهذا، لا في الواقع ولا في الرواية، ولهذا فإن "جيني"، المتمزقة بين نزوعين، تنتحر. أما روايتها كريستين لافرانستادر فقد كانت بمثابة نذير للأزمة الروحية التي عاشتها المؤلفة نفسها على أثر زواجها. في عام 1912 تزوجت من الرسام النروجي اندرس سفارستاد الذي التقته في روما، وكان يكبرها بثلاث عشرة سنة. عاشت معه حياة مضطربة تركته على أثرها مكرهة. انطوت سيغريد على نفسها وارتدّت الى حياة دينية كاثوليكية صارمة. لم تتزوج سلمى لاغروف قط وهي عوضت عن هذا بنسج روايات حارة عن الطفولة والصداقة. وأقامت علاقة حميمة مع صديقتها الكاتبة صوفي آلكان التي بقيت بالنسبة إليها حباً أبدياً. الحرب الثانية حين اندلعت الحرب العالمية الثانية هبت كل من سلمى لاغروف وسيغريد أوندست لمساعدة الكتاب الألمان الهاربين من الاضطهاد النازي. وفي وقت ك ن كنوت هامسون، الروائي النروجي، الحاصل على نوبل أيضاً، يصافح النازيين في أعقاب احتلال الألمان للنروج عام 1940، التحقت سيغريد اوندست بالمقاومة ثم هربت الى السويد. وتبرعت سلمى لاغروف بميداليتها الذهبية من جائزة نوبل للفنلنديين الذين قاوموا الغزو الروسي لبلادهم. لم تلبث أوندست في السويد طويلاً. بل رحلت الى الولاياتالمتحدة حيث لاقت محاضراتها الإعجاب من لدن الكثيرين باستثناء الحركة النسوية التي انتقدت آراءها المحافظة عن المرأة. في 1949 لفظت أنفاسها الأخيرة. أما سلمى لاغروف فماتت عام 1940 تاركة وفرة من الروايات والقصص وكنزاً من الرسائل الى صديقتها التي قالت عنها: علمتني أن أكون حرة.