يشترون بطاقة المترو، هؤلاء الذين يغنّون في مقصوراته، لأنهم يعرفون أنهم الاكثر عرضة للتفتيش ولمواقف تضطرهم الى إبراز بطاقتهم. وفي حال لم يحملوا بطاقة، ينالون غرامة لا يملكون ثمنها. موسيقيو المترو الباريسي لا يبحثون عن الشهرة او الملايين، لأنهم يعرفون انهم بالنسبة الى الجميع ليسوا سوى مشردين أو شحاذين. فهم يعزفون في مقابل بعض القروش. يعزفون ثم يمدون يدهم أو قبعتهم أو كوباً بلاستيكياً. المسافرون في المترو يتجنبون الموسيقيين، كما يتجنبون المشردين الذين يعيشون في المحطات اتقاء للبرد الباريسي. لا أحد ينظر الى موسيقيي المترو حينما يغنون او يعزفون. يقفون بين المقاعد وحولهم بعض الذين لم يجدوا مقاعد شاغرة، ثم يبدأون بالغناء والعزف وسرعان ما ترتسم على وجوههم ابتسامة تجعلهم فجأة أشبه بفنانين ومطربين على خشبة المسرح أو أمام عدسات التلفزيون. يبتسمون كأن الابتسامة هذه تأتي تلقائياً مع الغناء والعزف، وإن كان المشردون الفقراء قليلي الابتسام، الا انهم حينما يبدأون بالغناء، تختفي عن وجوههم ملامح التجهم والتشاؤم. حتى ان وقفتهم تتغير. فعلى رغم ضيق المقصورة وكثرة الناس فيها، يعطون لوقفتهم مساحة مسرحية. يقفون كأنهم وحدهم على مسرح او منصة عالية على بعد أمتار من الآخرين. يتصرفون كأنهم أمام مشاهدين فعليين لا مسافرين وكأن الجميع ينظر اليهم. حتى ان شاباً منهم قال "قد يراني مُنتج صدفة وأعجبه". لكن في الواقع لا أحد ينظر اليهم خلال تأديتهم عرضهم، حتى ان صوتهم وأغانيهم تبدو كأنها لا تصل الى آذان المسافرين. يتجنبون الموسيقيين كما يتجنبون المشردين أو المجانين الذين يصرخون في المترو ويعاكسون المارة. موسيقاهم وابتساماتهم غير مسلية، وهي لا تزعزع ملامح الوحدة والضجر عن وجوه المسافرين. أغانيهم التي غالباً ما يجيدون تأديتها، شؤم بالنسبة الى السامعين، والمشهد غريب الى حد السوريالية أحياناً. فيدخل الى المقصورة شاب أو فتاة مع آلة موسيقية ويبدأ الغناء. لا يرفع الجالسون رؤوسهم لينظروا ولو بحشرية الى القادم الجديد. وسرعان ما تبدو على وجه المسافر الأقرب الى المغني ملامح "التأفّف" والانزعاج لحظ عاثر جاءه بمن يضج ويعكّر مزاجه وهو المتأخر عن موعد عمل، أو المتأخر بكل بساطة. وما عاد مشهد مغني المترو العازف على الأكورديون مشهداً خرج لتوِّه من فيلم رومانسي ليساعد العشاق على العناق في برد باريس القارس. فالعشاق كغيرهم يتجنبون الأكورديون وصوته كما يتحاشون بائعي الورود الذين لا يبيعون شيئاً. واصبح هذا المشهد نفسه ىُعرض يومياً على شتى القنوات المحلية الفرنسية في إعلان يقول: "الدقيقة وقت طويل"، أي أن الدقيقة التي يعيشها هذان الشخصان في المترو مع عازف أكورديون جاء يعزف بقربهم، طويلة مضجرة ومتعبة. تماماً كما في إعلان آخر من السلسلة نفسها يصور امرأة في مصعد مع رجل ينظر اليها نظرة من سيفقد السيطرة. ينتهي الاعلان ب"الدقيقة وقت طويل". سبب كل تلك السلبية التي تحيط بمغني المترو هو تلك القبعة التي ينزعها عن رأسه بعد انتهاء عرضه ويمدها ماراً بين الجميع طالباً منهم بعض القروش. وعلى عكس ما قد يبدو، هذا هو الحدث الفعلي في المشهد كله. الأحداث الباقية كلها تدور حوله. من الغناء الى الابتسامات الى التجاهل التام. الغناء ليس اذاً سوى حجة لطلب المال، وطلب المال بدوره أكثر من حجة لتجاهل المغني. وعندما يلاحظ المغني أن أحد المسافرين ينظر اليه، يمارس عليه مهنته الحقيقية، فيبادله النظرة ويزيد عليها ابتسامة ويعلو صوته حتى يبدو كأنه بات يغني ويعزف له حصرياً. فيصبح الموقف محرجاً بالنسبة الى المسافر الذي نظر للمرة الاولى بدافع الحشرية فوجد نفسه مجبراً على متابعة النظر، لأن تجاهل رجل يغني له خصيصاً ليس سهلاً. وهذا كفيل بجمع بعض القروش في قبعة الشاب الموسيقي. هكذا تحدث الأمور كما يقول أحدهم: "المحفز هنا ليس الرقة بل الخجل". ولذلك فإن المعتادين على التنقل في المترو يعرفون ان نظرة واحدة قد تكون قاضية، فلا ينظرون. ويعرفون أيضاً ان الأغنية ليست مجانية، فلا يسمعون. الغناء يبهت حين يصبح مهنة للفقير، والموسيقى تفقد رونقها حينما تكون رخيصة...