تقول صحافية انكليزية عاشت في هامبورغ: "لطالما كانت هامبورغ بالنسبة إليّ مدينة عادية الى حدّ الابتذال احياناً، وهي المكان الذي عرف فيه فريق البيتلز أول نجاحاته العالمية. عرفت هامبورغ بأنها مدينة متسامحة ومزدهرة وهي مدينة ساحلية اسكندينافية تقريباً في شمال المانيا الهادئ وتملك تقاليد ديموقراطية قوية. انها مدينة لا يمكنك ان تحبها او ان تكرهها. هامبورغ بالنسبة لي مدينة جميلة لكنها عقيمة وكانت صدمة لي ان أكتشف انها المهد السري لأخطر هجمات ارهابية في تاريخنا الحديث". برزت هامبورغ في التسعينات من القرن الماضي على انها مركز ثان ل"القاعدة" بعد افغانستان، وفيها عاش عطا والشحي والجراح. الجراح سكن في مكان أنيق في شارع مشجر. أما عطا فعاش في ضاحية صناعية من ضواحي هامبورغ هي هاربورغ. على جدران كثير من المنازل في هاربورغ لوحة كتب عليها: "دمّر في 1944 وأعيد بناؤه في 1953". هذه النقوش التي اسودت بفعل خمسة عقود من الأمطار تحتفل بإعادة ولادة المدينة التي سحقها طيران التحالف خلال الحرب. فهل فكر عطا في تاريخ هذه المباني التي سكن وعاش فيها. محمد عطا، الرجل ذو جوازات السفر الثلاثة، عرفت شقته في ضاحية هاربورغ بأنها "بيت الأنصار" وحالياً هي الشقة الوحيدة التي تلفت النظر في المبنى كونها بلا ستائر. والسكان وأصحاب المحال المجاورة يقول معظمهم انهم لا يذكرون عطا ورفاقه وتصعب معرفة ما اذا كان ذلك حقيقياً أم لا، لكن يمكنك ان تعيش في هامبورغ لسنوات من دون ان يصادقك أحد او ان يلاحظك أحد طالما انت تدفع الايجار في الوقت المحدد وطالما لا تتسبب بمشكلات. في هامبورغ يمكنك ان تكون غير مرئي. عند إحدى الزوايا في المدينة، صاحب محل احذية، وهو رجل ستيني، يقول: "أذكرهم، أتوا الى هنا بضع مرات والشخص هنا يلاحظ الغرباء وأحياناً يأتون ويقولون لي عليك ان تتحول الى الاسلام". لكنه لم يكن يتحدث عن عطا ومجموعته "ليس هؤلاء". عبر الانترنت دخل عطا الى عناوين تتعلق بحلب في سورية. لم يعط عنوانه البريدي لأحد لكنه حصل لاحقاً عام 1999 على عنوان بريدي من خلال الجامعة، كما حصل هو وزملاؤه، على غرفة للصلاة فيها سجادة وكومبيوتر. طالب مجهول كتب على الكومبيوتر: "كنت في لقاء كانون الثاني يناير عام 1999 حيث تمت مناقشة تأسيس خلية اسلامية وأؤكد انه وعلى رغم ان محمد الأمير عطا كان متديناً لكنه بدا طبيعياً. في الاجتماع انتقدت فكرة خلية اسلامية، فبرأيي ان الجامعات يجب ألاّ تكون تجمعاً دينياً. التركيز يجب ان ينصب على مكان للصلاة وعلى الناس ادراك الفروق الدينية. المسلم يصلي خمس مرات في اليوم، وإذا أراد الذهاب الى المسجد كل مرة للصلاة فلن تكون دراسته طبيعية. على غرفة الصلاة ان تسمح للطلاب بروتين جامعي طبيعي. عطا كان متديناً بقوة لكنه لم يبدُ متطرفاً ولم يكن ملاحظاً أبداً ان غرفة الصلاة استعملت للقاءات تآمرية". اختيار الكلمات يعكس ان لدى عطا قدرة على ان يكون مقنعاً من دون ان يلفت الأنظار. لقد سلك طريقه عبر اقناع الطلاب الألمان بحاجة المجموعات الإثنية الى معاملة عادلة من خلال غرفة الصلاة. ولاحقاً بدأت مجموعة عطا في جذب مسلمين من خارج الجامعة وتنظيم محاضرات اسلامية. انخرط عطا عام 1992 في الجامعة في هامبورغ وعاش قربها في منزل للطلاب. لم تكن لديه مشكلة في تكوين صداقات مع ألمان طالما هم ذكور. فولكر هاوث، عرف عطا عن قرب وسافر معه الى مصر وسورية خلال الدراسة، قال: "لم تكن لديه خبرة بالنساء، كان غريباً وحاداً مع النساء حتى ان كثيرات اعتبرنه فظاً. لكن قد يكون هذا ينطبق فقط على النساء غير المسلمات، فقد سبق أن اعجب بفتاة في حلب". يعتقد هاوث ان عطا كان عذراء حتى النهاية. كانا يتحدثان غالباً عن الدين، فهاوث بروتستانتي وشعر بأن هذا ساعده على فهم جدية معتقد صديقه، ويؤكد انه "كان ذكياً وديبلوماسياً ويعرف كيف يحادث الناس وأن يحوز انتباههم وهو متدين للغاية. حين يتعلق الأمر بالاسلام لا يعود لديه حسّ النكتة وعلى مدى السنوات أصبح اكثر عزلة ومرارة وطوّر رؤية داخلية. لا أراه متطرفاً بل أراه شخصاً متمسكاً بقناعاته التي نمت يومياً. كان يهتم بالعدالة وبالفقراء وينتقد بشدة سياسة حكومة الرئيس حسني مبارك، وفي احد الصفوف تحدث عن سياسة مصر الداخلية وهاجم الحكومة كونها غير ديموقراطية وعسكرية. وقال لنا ان النظام يقسم البلد الى اصدقاء وموالين ولا مكان لمعارضين ومنشقين. كان عطا معنياً بالأمر ولكنه كان تحليلياً ومقنعاً". وأضاف: "في هامبورغ لم يشعر بأنه في وطنه. في دول عربية كمصر وسورية كان اكثر ارتياحاً وحيوية وظرفاً. في المانيا كان صارماً وجاداً وهادئاً ومع الوقت كنت أشعر دائماً ان مشاعر اليأس تغلبه على الصعيد الداخلي". عام 1994، ذهبا الى سورية وأمضيا 3 اسابيع في حلب في فندق البستان وكان هناك توتر بينهما. "أنا كأوروبي شمالي شعرت بالحاجة الى أن اكون وحدي احياناً وعطا لم يتفهم ذلك. كان الأمر إهانة بالنسبة اليه وكان يطلب قرباً دائماً. تجادلنا حين قلت له في النهاية انني قررت ألاّ أكتب الاطروحة. لقد شعرت كغربي انها ليست منطقتي وانني لم أتمكن من المساهمة بأي فكرة مفيدة. كان الأمر صراعاً بين البناء التقليدي الشرق أوسطي والنفوذ الغربي". خلال بحثهما التقط هاوث صوراً لحلب وفيها عطا، وقال عن عطا: "كان يحب ان يتصور لكنه طلب ان يأخذ الصور كلها وأعتقد انها انتهت في اطروحته". عام 1995 حصل عطا على منحة لقضاء 3 أشهر في مصر ليكتب عن السياسة العامة في الدول النامية. وفي ورقته كتب: "منذ بدأت أعيش في المانيا حاولت واعياً، ومن دون وعي، ان أفهم كغريب كيف ينظر الينا ما يسمى بالعالم الأول وكيف يعامل عالمنا الثالث". وقد قوّمت ورقته بأنها "ممتازة". بدأ عطا اطروحة حلب عام 1994 لكنه لم يعمل عليها فعلياً إلا عام 1999 وقضية حرية الالتحاق بالجامعة من دون دوام فعلي هي خصوصية في جامعات ألمانيا وحدها. واصل عطا متابعة المحاضرات ولم يبدُ مستعجلاً التخرج. ويقول اصدقاؤه انه غالباً ما كان يختفي لفترات طويلة مبرراً انها لأسباب عائلية. ديتمار ماشويل أشرف على اطروحة عطا ويقول عنه انه كان ذكياً ويقظاً ومخلصاً وجدياً. ماشويل أدرك تديّن عطا الذي كان يوقف اي محادثة للذهاب الى الصلاة. حتى ان ماشويل كان يفكر "إن هذا المتدين قد يعود يوماً الى بلاده كنوع من سفير بين المجتمع العلماني الغربي وبين الشرق المتدين ويمكنه ان يشرح اختلافات ثقافتينا". في كل المسارات، لم تكن لعطا حياة واحدة بل حياتان. كان يبدل الأسماء والجنسيات والشخصيات. في مصر ولاحقاً في الولاياتالمتحدة كان اسمه محمد عطا، أما في الجامعة التقنية في هاربورغ فكان محمد الأمير. بالنسبة الى المسؤولين في الجامعة كان عطا مصرياً، لكن بالنسبة الى صاحب الفندق كما بالنسبة الى السلطات الأميركية، كان من الامارات العربية المتحدة. الفارق بين الاثنين، محمد عطا ومحمد الأمير هو ما دفع، ربما، والده لأن يصرّ على ان هوية عطا سرقها زعيم الخاطفين. هذه النظرية اعطتها الصحف الألمانية بعض الصدقية ولم تنفها الحكومة، فقد أبلغ هو وشخصان آخران من المشتبه بهم في هامبورغ ان جوازات سفرهم سرقت عام 1999. على اي حال فإن التقرير نفسه يقول ان وزارة الداخلية اعتبرت ان السبب هو رغبة الثلاثة في الحصول على جوازات جديدة خالية من الأختام التي قد تعرض فرصهم في الحصول على تأشيرات الى أميركا الى الخطر. ما كشفته تحقيقات صحيفة "الأوبزرفر" هو ان محمد الأمير عوض السيد عطا بحسب اسمه الكامل والذي تسجل به في المانيا خضع الى مسار مرئي من الراديكالية. قد يكون عاش حياتين لكنه لم يكن "نائماً". بالتأكيد ان محمد الأمير الطالب كان اصولياً في شكل علني مقارنة بمحمد عطا الظل. هاوث الذي سافر معه الى مصر لاحظ ان عطا قدم من تلك الاجواء الغاضبة والمشككة بالانفتاح على الغرب التي أطلقها الرئيس المصري أنور السادات قبل اغتياله عام 1981. وحين وصل عطا الى هاربورغ للدراسة وإعداد الماجستير في التخطيط المدني خلّف وراءه بلداً غارقاً في دوامة من التطرف. وفي تشرين الأول اكتوبر من العام 1992، وهو الشهر الذي التحق فيه عطا بالجامعة الألمانية، أعلن في القاهرة ان الارهابيين سيحولون الى محاكم عسكرية. هذا القرار أرسى مرحلة من المحاكمات القاسية تخللتها هجمات وحشية من ناحية ومن ناحية اخرى تعذيب وسجن للآلاف من دون تهم او محاكم. لم يجعل عطا تعاطفه مع الاسلاميين في بلده أمراً سرياً. إذ تخرج في كلية كانت خلية للتجييش المتطرف وانخرط في نقابة المهندسين، وهي أحد الاتحادات المهنية التي يسيطر عليها "الاخوان المسلمون". يقول هاوث ان صديقه كان مصدوماً مما رآه واعتبر انه خلق طبقة جديدة من "القطط السمان". "واحدة من أهم النقاط التي كان ينتقدها هي التناقض بين شريحة من الأغنياء وجموع الناس الذين بالكاد لديهم ما يجعلهم يعيشون". في المانيا تمكن عطا بسرعة من تأمين عمل بدوام موقت في "بلانكونوتر" وهو مكتب استشارات وتخطيط في هامبورغ في ضواحي اوتنسن. هيلغا رايك، وهي واحدة من الشركاء في الشركة تتذكره كشخص "باطني ومتحفظ جداً"، لكنه أيضاً كان "مرناً وذا ضمير حي". أضافت: "كان يصلي في المكتب. لم يسبق أن فعل أحد ذلك قبلاً". في منتصف النهار كان الرجل الذي عرفوه باسم محمد الأمير يوقف أي شيء يفعله ليصلي قرب مكتب الرسم الخاص به. "كان نقدياً في ما يتعلق بمخططات التطور الرأسمالية الغربية". يقول شريك آخر وهو ماثياس فرنكين: "كان ينتقد الفنادق الكبيرة وأبنية المكاتب الضخمة". لكن كان هناك القليل في شخصيته ما يجعل المرء يفترض ان هناك فارقاً بين عطا والملايين الآخرين من المتدينين المسالمين. البروفسور ماشويل الذي عرفه أيضاً بالأمير قال: "في البداية كنا نتحدث عن امكان تعايش الأديان. كان معنياً بهذه المشكلة". في صورة اخذت في رحلة طلابية الى اسطنبول في صيف 1994 ظهر عطا نظيفاً حليقاً، لكن بعد سنة وحين عاد من مصر كان لعطا تلك اللحية المميزة التي تغطي الذقن لكن تبقي ما فوق الشفة حليقاً. في حزيران يونيو عام 1997 تم صرف عطا من شركة "بلانكونوتر". الشركاء احضروا نظاماً لم تعد معه خدمات عطا ضرورية او مفيدة. "حين تم اعطاؤه آخر مستحقاته من المال أخذ الكثير منا لكنه اعاد المال الينا". ويتذكر فرنكين: "لقد قال انه لا يستحق المال كله وهو لا يريد المزيد". ويقول ماشويل ان عطا اخذ اجازة طويلة من دراسته في العام 1997 استمرت 15 شهراً لأسباب عائلية كما ذكر. وكان مفاجئاً ان غياب عطا تصادف مع اندلاع هجمات عنف ضد الاجانب في مصر قامت بها مجموعات متطرفة كالجماعة الاسلامية. وما يثير الصدمة ان ضحايا الهجمات الأولى كانوا من الألمان. حين عاد عطا الى هامبورغ كان رجلاً مختلفاً. هانيلور هايس الذي يملك محلاً عند زاوية الشارع الذي تقاسم فيه عطا شقة مع عربيين آخرين يتذكر الرجال الثلاثة وهم يرتدون اللباس التقليدي من السراويل الواسعة والقفطان الطويل. شيريلا ويندت، مساعدة ماشويل، تقول انه حين كان لعطا لحية كثيفة "كان أكثر جدية". هاوث الذي فقد اتصاله بعطا بعد مغادرته الجامعة أواخر العام 1995 عرفه رجلاً يمكنه أيضاً ان يضحك لنكت عن الديكتاتوريين العرب. لكن ويندت تقول عنه: "لا استطيع ان أتذكره ضاحكاً". كان لويندت الكثير من الفرص لتدرس عطا عن قرب لأنها وافقت على مراجعة اطروحته معه وتصحيح لغته الألمانية. ومع بداية حزيران من العام 1999 كانا يلتقيان مرة في الأسبوع على الأقل في مكتبه الضيق وكانا يجلسان جنباً الى جنب على مكتبها. لكن حين وصلا الى مرحلة مراجعة الفصل الأخير رفض عطا ان يكمل الأمر وتعتقد ويندت ان عطا وجد تقاربهما الجسدي أمراً لا يحتمل. انتهت الأطروحة لكن قبل تسليمها أضاف عطا صفحة جديدة على المقدمة، كانت عبارة عن آية من القرآن الكريم: "إن صلاتي وتضحيتي وحياتي وموتي هي لله رب العالمين". ماشويل فوجئت بالأمر، لكن ما كان يهمها هو الأطروحة وهي كانت أطروحة ممتازة. لقد حصل عطا على أعلى علامة ممكنة. تتذكر ويندت انه حين انتهى الفاحصون من مهمتهم مشى ماشويل لتهنئة عطا وقد لحقته سيدة مدققة ومدت يدها لكن عطا رفض ان يمسكها. وعلى رغم انه بقي مسجلاً لا يبدو ان أحداً في الحرم الجامعي رأى عطا بعدها. ذكر المحققون الألمان ان الدليل الأهم على وجود علاقة بين محمد عطا والطيارين الانتحاريين الذين دمروا مركز التجارة الدولي وجزءاً من مبنى البنتاغون بطائرات ركاب مدنية هو الكشف عن الفترة التي قضى فيها عطا فترة تدريبية في احد معسكرات "القاعدة" في افغانستان. وقال رئيس المكتب الاتحادي لمكافحة الجريمة كلاوس اولريش كيرستن ان محمد عطا بقي هناك من أواخر 1999 وحتى مطلع العام 2000. وخلال الفترة نفسها كان أربعة رفاق له من هامبورغ يقضون دورة تدريب مماثلة.