لم يكن ينقص السلطة الفلسطينية، بعد كل ما أمطرتها به قوات الاحتلال الإسرائيلي من نيران، إلا ازدياد حدة التنافس بين بعض كبار موظفيها. وأسوأ ما في هذا التنافس هو أنه يدار أحيانا بأسلوب يشبه، في شكل ما، سلوك "أمراء المماليك" الذين استولوا على الحكم في مصر عام 1250. والأسوأ من كل شيء هو أن يتصرف ضباط بعض أجهزة الأمن الفلسطينية كما لو كانوا "مماليك" موالين لأمرائهم. فهذا سلوك لا يليق بهيئات يفترض أن تكون نواة لدولة تنشأ في مطلع القرن الواحد والعشرين، وليس في القرن الثالث عشر. وفضلا عن أنه يعطي انطباعا سيئا إلى العالم، في لحظة من اللحظات الأكثر خطرا في تاريخ الكفاح الفلسطيني، فهو يدعم الاعتقاد في وجود فراغ أمني يحتاج الى من يملؤه. وهنا، تحديدا، تبدو أهمية التحذير الذي وجهه الأستاذ محمد حسنين هيكل، في حديثه التليفزيوني عبر قناة "دريم" المصرية قبل أيام، من أن تقوم مصر بمهمات أمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد تحدث هيكل عن معلومات تلقاها من مسؤول بريطاني كبير تفيد أن هناك تفكيرا في اضطلاع مصر بمسؤولية أمنية في المناطق الفلسطينية لضمان استقرار الأوضاع في مرحلة الإعداد لاستئناف المسار السلمي. ومن مجمل ما قاله، يمكن استخلاص أن هذا التفكير مرتبط بالوضع الراهن على الأرض من ناحية وبالتزام مصري قديم يعود الى فترة مفاوضات كامب ديفيد الأولى في أيلول سبتمبر 1978 . أما الوضع على الأرض فقد وصفه المسؤول البريطاني الذي التقاه هيكل في لندن، بقوله إن "السلطة الفلسطينية قواتها منهارة". وأما الالتزام المصري فقد قيل أنه ورد في رسالة بعث بها الرئيس الراحل أنور السادات الى الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر عقب توقيع إطار كامب ديفيد. غير أن هذين العاملين اللذين بدا هيكل مقتنعا بأنهما يمكن أن يدفعا مصر الى القيام بدور أمني في الضفة والقطاع، أو يدعما ضغوطا تتعرض لها في هذا الاتجاه، هما نفسهما اللذان تستطيع القاهرة أن تستند عليهما للاعتذار عن الاضطلاع بهذا الدور، الى جانب عاملين آخرين، يتعلق أحدهما بتداعيات محتملة لا يرغب فيها أحد بما في ذلك الولاياتالمتحدة، ويرتبط الآخر بموقف مصري ثابت تجاه إرسال قوات الى الخارج. فإذا بدأت بما يقال إنه التزام مصري قديم، فالحقيقة أن خطاب السادات الى كارتر تضمن كلاما عاما غير محدد يختلف عن النص الذي ورد في حديث هيكل وهو : إذا لم تدخل أطراف عربية لتؤدي مهماتها في حفظ الأمن في الضفة والقطاع، فإن الحكومة المصرية سوف تكون على استعداد للقيام بمهمات أمنية فالنص الذي ورد في خطاب السادات كان كالآتي : "الحاقاً بإطار السلام في الشرق الأوسط، اكتب لكم هذه الرسالة لأحيطكم علما بموقف مصر بشأن تطبيق التسوية الشاملة من أجل ضمان تنفيذ البنود المتعلقة بالضفة وغزة ومن أجل حماية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى. وعلى هذا الأساس ستكون مصر على استعداد للاضطلاع بالدور العربي الذي تحدده هذه البنود، وذلك بعد المشاورات مع الأردن وممثلي الشعب الفلسطيني". وقد بعث السادات هذا الخطاب بعد أن رفض الأردن المشاركة في مفاوضات الحكم الذاتي التي نص عليها إطار السلام في الشرق الأوسط الموقع في كامب ديفيد، الأمر الذي خلق فراغا لأن هذا الإطار تضمن امكان مشاركة الأردن في الترتيبات الانتقالية للحكم الذاتى. وإذا رجعنا الى نص الإطار، نجد أن هذه المشاركة أشير إليها باعتبارها ممكنة لا بوصفها أمراً قاطعاً: "سيتم تشكيل قوة بوليس فلسطينية ربما تضم مواطنين أردنيين، كما يمكن أن تشترك القوات الإسرائيلية والأردنية في دوريات مشتركة وفي تقديم الأفراد لتشكيل مراكز مراقبة لضمان أمن الحدود". وحين تحفظ الأردن على اطار كامب ديفيد، اتخذت حكومة مناحم بيغن الإسرائيلية حينئذ ذلك ذريعة لغلق المف الفلسطيني. وعندئذ وجه السادات هذا الخطاب الى كارتر لإبطال حجة بيغن، مبدياً الاستعداد لأن تقوم مصر ب "الدور العربي" الوارد في "إطار السلام"، من دون أن يشير صراحة الى مسؤوليات أمنية، فضلا عن أن ما ورد في هذا الإطار كتب بصيغة أقرب الى الاحتمال منها الى التأكيد. والأهم من ذلك أن الظروف تغيرت جذريا تقريبا من 1978 الى 2002 . فقبل 24 عاما، لم تكن إسرائيل وأميركا تقبلان التفاوض مع الطرف الفلسطيني منفردا. فكانتا تصران على التعاطي مع الفلسطينيين عبر الأردن الذي لم يكن قد فض ارتباطه بعد بالضفة الغربية. أما الآن، فقد أصبحت هناك سلطة فلسطينية تبادلت مع إسرائيل الاعتراف، وصارت عنوانا وحيدا للشعب الفلسطيني، الأمر الذي يعني أن خطاب السادات عام 1978 لم يعد له أي مغزى، فضلا عن أن المرجع الذي ارتبط به هذا الخطاب إطار كامب ديفيد لم يعد قائما. فالشق الأول فيه والخاص بالقضية الفلسطينية سقط بعد فشل المفاوضات التي دارت على أساسه بين مصر وإسرائيل، ثم تقادم بعد توقيع اتفاق أوسلو. أما الشق الثاني - الثنائي بين مصر وإسرائيل - فقد انتهى عندما أفضى الى معاهدة السلام التي وقعت في آذار مارس 1979 . ولذلك لم يعد ثمة أساس تعاقدي لاضطلاع مصر بدور أمني في الضفة والقطاع. ولكن ماذا عن الأساس الواقعي على الأرض، أي ما يقال عن انهيار قوات السلطة الفلسطينية؟ هذا، بدوره، قول لا سند له لأن أزمة أجهزة الأمن الفلسطينية تعود الى تواصل الاعتداءات الإسرائيلية، وضعف أداء السلطة وارتباكها، وغياب أي أفق لحل سياسي. وفي مثل هذا الوضع، لا يمكن لأي قوة أن تنجح فيما فشلت فيه أجهزة الأمن الفلسطينية. كما أن هذه الأجهزة لا ينقصها رجال، بل على العكس يوجد لديها فائض منهم. فقد وصل عدد المعينين في هذه الأجهزة، وفق قوائم الرواتب الشهرية، الى 51 ألف ضابط وجندى ومخبر سري. وهذا عدد كبير، خصوصا إذا قورن بالرقم الذي تمسك به رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين في بداية عملية أوسلو، وهو سبعة آلاف، قبل أن ينجح عرفات في زيادته تدريجيا الى أربعين ألفا، ثم وصل الآن الى 51 ألفا. ولذلك فإن السلطة الفلسطينية لا تحتاج الى مساعدة أمنية من مصر أو غيرها، بقدر ما تشتد حاجتها الى كف يد شارون عنها والى سياسة أميركية أكثر مسؤولية. وفي هذه الحال تستطيع مصر، ودول عربية أخرى، أن تساعد في تسريع ودعم الاصلاحات الضرورية في هذه السلطة، والدفع باتجاه حوار وطني جاد بين مختلف الفصائل يقود الى تفاهم على استراتيجية متفق عليها تضع حدا للعشوائية السائدة في العمل الفلسطيني، الأمر الذي ييسر الوصول الى وضع أمني ملائم. وعندئذ ينتفي أي أساس للحديث عن قيام مصر بمسؤوليات أمنية في الضفة والقطاع. فهذا دور لا يفيد أحدا، بل ربما يعم ضرره. فلا يقتصر هذا الضرر على مصر والفلسطينيين على النحو الذي عبر عنه الأستاذ هيكل بقوله: "لا أتصور أن تأتي لحظة يصاب فيها طفل فلسطيني أو إمرأة أو رجل بضربة حجر أو ضربة عصا ثم تكون في ذلك مسؤولية على مصر". فالضرر ربما يطول الوضع الإقليمي برمته، إذا حدث احتكاك لا يمكن استبعاده ابتداء بين القوة الأمنية المصرية وقوات الاحتلال الإسرائيلي، بما قد يؤدى إليه ذلك من تداعيات يمكن أن تجر المنطقة الى حرب لا يرغب فيها أحد. ويصعب تصور أن لا تكون الولاياتالمتحدة منتبهة الى هذا الاحتمال، بالرغم من أن الصلف الذي تتسم به الإدارة الحالية في واشنطن يوقعها فى أخطاء كبيرة. ولكنها تظل، رغم ذلك، حريصة على تجنب حرب إقليمية تقوض مصالحها في المنطقة. ومن هنا كانت استجابتها السريعة الى تحذير مصر من التداعيات الخطيرة لاجتياح قوات الاحتلال قطاع غزة، حين تصبح هذه القوات على مرمى حجر من الحدود المصرية في لحظة توتر لا سابق له منذ توقيع معاهدة 1979. وهذا سبب ثالث لاستبعاد قيام مصر بدور أمني في الضفة وغزة، الى جانب غياب التزام مصري بمثل هذا الدور وعدم حاجة السلطة الفلسطينية اليه. ويبقى بعد ذلك السبب الأخير، وهو حذر مصر الشديد تجاه إرسال قوات تابعة لها الى خارج حدودها، والذي عبر عنه الرئيس حسني مبارك مرات كان أخرها خلال الحرب الأخيرة في أفغانستان. وإذا كان هذا الموقف يخص القوات العسكرية فى الأساس، فمنطقى أن يتسع ليشمل قوات الشرطة عندما يكون ميدان المهمة المطروحة في قلب ساحة حرب بشكل أو بآخر. وهكذا تتعدد الأسباب التي تدفع الى استبعاد تورط مصر في مثل هذه المهمة. ومع ذلك يبقى التحذير من أي ميل الى هذا التورط ضرورياً... وواجباً. * نائب رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجة في "الاهرام".