بدأتُ هذه المقدمة مرات عدة: - المحاولة الأولى: في مثل هذا اليوم من العام الماضي، كان جوزيه بوفيه ينجز زيارته الأولى إلى فلسطين. وهو ترأس وفداً ضم، من بين من ضم، ممثلي "الحركات الاجتماعية"، والتعبير يشير إلى تلك الاطر الحديثة النشأة التي ليست أحزاباً ولا نقابات ولا جمعيات، وإنما هي أشكال جديدة من العلاقات التنظيمية وأساليب العمل، وشبكات تتكون حول الحاجة الى مجابهة الظواهر التي يفرزها ما يسمى اختصاراً "العولمة"، أي التعديلات الجوهرية الجارية على أسس الانتاج وتداول الثروة في العالم، والنتائج السياسية والفكرية والثقافية التي تتبعها أو تحيط بها. - المحاولة الثانية: في مثل هذا اليوم من العام الماضي، انطلقت أول بعثة شكلتها "الحملة المدنية العالمية لحماية الشعب الفسلطيني"، وهي مبادرة تدعو إلى التدخل المباشر للمواطنين من كل العالم في الصراع، متجاوزة بذلك فكرة أن أحزاباً أو هيئات بعينها هي من ينظم ويقنن العلاقة مع الالتزام السياسي أو النضالي، في كل الساحات ومنها فلسطين. وتتلاقى هذه الدينامية مع الأسس نفسها التي تحكم الاطر الجديدة للعمل السياسي التي تقود حركة مناهضة للعولمة الليبرالية، وتعبر عن مصالح الفئات المتزايدة الاتساع التي يهمّشها نمط العلاقات الانتاجية وتداول الثروة والقيم العامة السائدة الجديدة. لذلك، فإن ترؤس جوزيه بوفيه هذه البعثة الأولى لم يكن مصادفة بأي حال من الأحوال، بل كان فعلاً رمزياً مُنبئاً بهذا الطابع. - المحاولة الثالثة: هناك مصادفة لا يمكن إلا التوقف أمامها، وقد يجدها البعض مسلية فحسب، بينما تذهب طباع البعض الآخر بهم إلى رؤية علامات قدرية في معانيها. ففي يوم السابع عشر من حزيران يونيو الجاري، تسلم جوزيه بوفيه أمر الالتحاق بالسجن في حكم صدر عليه لأنه هجم ورفاقه من الكونفيدرالية الفلاحية على ورشة بناء أحد مطاعم ماكدونالدز الجديدة، وقام بتفكيك المنشآت كشكل رمزي من أشكال الاعتراض على الهيمنة الأميركية على العالم. وذلك اليوم، السابع عشر من حزيران، هو التاريخ ذاته، بعد عام كامل، يوماً بيوم، الذي وصل فيه بوفيه إلى فلسطين، وكانت تلك زيارته الأولى إليها، كما هي المرة الأولى التي يزور فيها بلداً عربياً أصلاً. وهناك مصادفة ثانية في هذا التاريخ، إذ أنه يختتم العام الأول لانطلاق أول بعثة مدنية فرنسية تطالب بتوفير حماية دولية للشعب الفلسطيني. وقاد جوزيه بوفيه تلك البعثة الأولى التي تشكلت وقتها من ممثلين لما يسمى "الحركات الاجتماعية"، عادت إلى باريس في الثلاثين من حزيران الفائت لتطلق حركة لم تتوقف مذاك عن الاتساع. لم أثبت المحاولات الثلاث هذه هنا لأنني ضنينة بإلقاء بعضها إلى المزبلة كما أفعل بيسر ومن دون تردد عادة، وإنما لأنني وقفت فعلاً حائرة أمام أفضل المداخل لما سيلي، فقررت التخفف من عبء الاختيار وإلقاءه على من سيقرأ هذه المقالة، فيختار ما يلائم هواه. وإذ تتقاطع المقدمات الثلاث في نقاط معينة فيحدث تكرار، فهي في نقاط أخرى تتكامل. ولا شك أن شيئاً من الرغبة في اللعب قد خامرني ودفعني إلى قراري هذا. وها أنا اعترف، قبل ان اكمل بجدية أكبر ما يصلح كتتمة على أية حال، أو كمقدمة رابعة... اليوم، وفي ختام العام الأول على انطلاق "الحملة المدنية العالمية لحماية الشعب الفلسطيني"، فإن البعثة الفرنسية الثامنة عشرة تتابع ما بدأته تلك المجموعة الأولى. وما بين اليومين، سافر مع البعثات المدنية إلى فلسطين ما تجاوز مجموعه خمسمئة مواطن، من كل المناطق والاصول والأديان والفئات الاجتماعية والعمرية، ومن أحزاب ونقابات وحساسيات فكرية شديدة التنوع، كما هم المواطنون عادة. وامتدت المبادرة إلى بلدان أوروبية أخرى وهي ما تزال تتوسع. وتعتمد المبادرة على شكل أفقي من التنظيم، أو العمل وفق شبكة من العلاقات، وهو ما يوفر في آن واحد الحفاظ على فردية الإنسان أو خصوصية المجموعات الصغيرة، أي احترام التنوع ودرجة عالية من الحرية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، توظيف الطاقة الجماعية، اي الصلة القائمة فعلياً بين أعداد هائلة من الناس والتي تسمح لهم بالمبادرة المشتركة كلما دعت الحاجة الى ذلك، كما حدث في تظاهرات سياتل أو جنوى وما هو على شاكلتهما. وبخصوص البعثات الى فلسطين، فإن أفرادها، حين يعودون من زيارتهم القصيرة تلك، فإن كل واحد منهم يبادر الى اختيار أو انشاء الاطار الملائم له من أجل الانخراط في الشبكة العامة لحركة نصرة نضال الشعب الفلسطيني. وهو - أو هي - يصبح نوعاً من سفير لهذا النضال، يدعى للادلاء بشهادته في مناسبات متنوعة، بحيث ندر ان قام اجتماع عام سياسي خلال هذه السنة ولم يتدخل في برنامجه واحد أو اكثر من أفراد البعثات، يروون ما شاهدوه ويقولون ما التزموا به أمام الناس في فلسطين، ويتناولون الأسباب التي دفعتهم الى المبادرة للالتحاق بالبعثة. واليوم، وفي ختام العام الأول، فإن اكثر من خمسة أفلام تسجيلية نتجت عن هذه الحركة، كما نتج عنها كتاب أول ومساهمة في كتاب ثان قيد الاعداد ووثيقة مشتركة مع "الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان" حول وقائع ما جرى في مخيم جنين، تجد طريقها لتعتمد كوثيقة لدى لجنة حقوق الانسان التابعة للامم المتحدة في جنيف، وعشرات المقالات والمقابلات الصحافية والاذاعية والتلفزيونية، اشهرها البرنامج الذي أعده الاذاعي المعروف دانيال مرميه واستحق عليه ملاحقة قضائية شرسة من هيئات صهيونية فرنسية متطرفة. كذلك مسلسل الوقائع اليومية التي نشرتها جريدة "الموند" على امتداد نيسان ابريل الماضي، معتمدة مقابلات كانت الصحيفة تجريها كل يوم مع واحد من "العالميين"، أي هؤلاء المواطنين من كل أنحاء العالم الذين اعتصموا في مقر القيادة الفلسطينية طوال مدة حصارها خلال عملية "الجدار الواقي" الاسرائيلية، وتولوا من مقر "المقاطعة" مهام الاتصال بالإعلام العالمي بنجاح خاص. وعلى صعيد آخر، تمكنت هذه الحركة، بسبب طبيعتها ذاتها، وايضاً بفعل توجه خاص اعتمدته، من مَفْصَلة القضية الفلسطينية ضمن بنية واهتمام حركة مناهضة العولمة الليبرالية. فهناك عدد من ممثلي "المنتدى الاجتماعي العالمي" الذين باتوا - يعتبرون ان ادراج المسألة الفلسطينية في اهتماماتهم ونشاطاتهم أمر لا بد منه. كذلك اتخذت حركة "أتاك" قراراً بالمشاركة في الحملة العالمية وذلك بعدما تكاثر عدد الأفراد والكوادر من كل الانحاء، الذين بادروا هم الى ذلك، وبعد نقاشات مع قيادة هذه الحركة أثمرت ارسال بعض أبرز ممثليها في الايام الأولى من هجوم نيسان ابريل الماضي الى فلسطين. كذلك قررت المنظمة الفلاحية العالمية "الطريق الريفي" ادراج المسألة الفلسطينية ضمن برامجها، وهي أرسلت وفداً للاحتفال بيوم الأرض، كان جوزيه بوفيه من ضمن أفراده وكانت تلك زيارته الثانية الى فلسطين. وقد صادف ان الهجوم الاسرائيلي الواسع، أي عملية "الجدار الواقي"، فشل في اليوم نفسه، فقرر الوفد الدخول الى مقر الرئيس عرفات ولعب أفراده دوراً اساسياً داخل مجموعة "العالميين" تلك. وبين الزيارتين، كان بوفيه قد ساهم في أعمال اجتماع بيروت لمناهضة قمة الدوحة التي دعت اليها منظمة التجارة العالمية، ثم توجه الى الدوحة نفسها. ها قد عدنا الى بوفيه الذي يقبع في سجن في جنوبفرنسا اليوم، بينما اصدقاؤه أقاموا مركزاً دائماً للتضامن معه أمام بوابة السجن. وهو مركز سيستمر طالما بقي هو هناك. وفي برنامج المركز عدة أوقات مخصصة لفلسطين. وتلك ليست الا محطات مسيرة الرجل، كما ان المشاركة في احدى البعثات ليست سوى لحظة من لحظات دينامية عامة متجددة للتضامن مع نضال الشعب الفلسطيني.