ماذا يربط بين روايتين ايطاليتين حديثتين عرفتا انتشاراً واسعاً في الربع الأخير من القرن العشرين، وبين نصوصٍ تراثية عربية يرقى بعضها الى القرن العاشر للميلاد؟ الناقد العراقي سعيد الغانمي يبحث هنا عن خيوطٍ دقيقة تصل "اسم الوردة" و"جزيرة اليوم السابق" لأمبرتو ايكو، بحكايات في "ألف ليلة وليلة" و"حي بن يقظان" و"مروج الذهب". حين علم أُمبرتو إيكو بأن العرب قرأوا الحدث المتعلق بتسميم مخطوطة الجزء الثاني من كتاب "الشعر" لأرسطو في روايته "اسم الوردة"، في ضوء حكاية "الملك يونان والحكيم رويان" في "ألف ليلة وليلة"، قال إنه لم يطلع على هذه الحكاية العربية، وأن الأمر بالنسبة إليه لا يتعدى أنه اشترى قبل سنين بعيدة طبعة قديمة من كتاب "الشعر" بسعر زهيد، لأن أوراقها كانت متضررة بزيت من نوع ما، اضطرّ إيكو معه أن يحتفظ بالنسخة في مكان فوق المكتبة. وحين أراد كتابة "اسم الوردة"، عاد إلى تلك النسخة فأوحى له الكتاب المزيّت بفكرة الكتاب المسموم. وقد تكون هذه واقعة شخصية حقيقية، فليس من قارئ مولع بالكتب إلا واشترى ذات يوم كتاباً قديماً مزيّتاً، أو مدهوناً، يضطر إلى إبعاده من كتبه حتى لا تنتقل عدواه الزيتية إلى البقية. لكن هذا الحل، في تقديري، يعقّد القضية نظرياً وعملياً أكثر بكثير مما يحلها. ففي الدرجة الأولى هل يمكن الاحتكام إلى نيات المؤلف في تأويل نص ما، أم أن للقارئ دوراً ليس بأقلَّ من دور المؤلف فيه؟ ومن الواضح أن صاحب "دور القارئ" و"العمل المفتوح" ينحاز نظرياً إلى وجهة النظر التي تميل لمصلحة القارئ. وقد يرضي هذا الرأي قراء إيكو الغربيين الذين لا يريدون له أن يكون متأثراً بنص عربي، لكنه يستهين بقرائه العرب ويستخفّ بتوقعاتهم الأدبية. وأي عمل أدبي يخاطب "أفق توقع" ثقافي لدى القارئ. كل ثقافة تُعد قراءها لاستقبال النصوص بطريقة ما. ومن ناحية أخرى فإن القارئ العربي لا يستطيع أن يفصل حدث تسميم مخطوطة الجزء الثاني من كتاب الشعر المعني بالضحك، وهو الحدث الذي تتمحور حوله رواية "اسم الوردة" بأسرها، عن تراثه الطويل المتعلق بالكتاب المسموم ليس فقط في "ألف ليلة وليلة"، بل في مجمل تراثه الأدبي قبلها وبعدها. ولعلّ الأولى بنا أوّلاً أن نشير إلى أننا لا نقصد بالمصادر حكاية بذاتها، بل بنموذج حكاية قد تتولّد عنه سلسلة من الحكايات. وفكرة الكتاب المسموم نموذج قديم في الثقافة العربية منذ أقدم عصورها، ربما كانت حكاية "الملك يونان والحكيم رويان" أبرز مثال أدبي على هذا النموذج. لقد أراد الحكيم رويان شفاء الملك في البداية، وحين أدرك أن الملك قاتله لا محالة فقد احتال عليه بأن يثأر لنفسه منه بعد الموت. لذلك عمد إلى دهن كتاب بالسم، وأهداه الى الملك قائلاً إنه هديته للملك، وأقلّ ما فيه من الأسرار أنه "إذا قطعت رأسي وفتحته وعددت ثلاث ورقات ثم تقرأ ثلاثة أسطر من الصحيفة التي على يسارك، فإن الرأس تكلمك وتجاوبك عن جميع ما سألته عنه". قطع الملك رأس الحكيم وظلّ يقلب صفحات الكتاب، من دون أن يعلم أن الحكيم قد انتقم منه بعد موته. فكلما ازداد تقليبه أوراق الكتاب سرى فيه السمّ أكثر. في رواية "اسم الوردة" تتعلق سلسلة الجرائم التي تحصل في الدير بكتاب مسموم، بل بكتاب مترجم عن العربية هو الجزء الثاني المفقود من "فن الشعر" لأرسطو. لقد كان أمين مكتبة الدير يورج مقتنعاً بأن من شأن الضحك أو الهزليّ على العموم أن يدمّر الكنيسة وصرامتها المقدسة، لذلك حرص على معاقبة كل من يفكر بقراءة هذا الكتاب، بدهنه بدهان سام، تماماً كما فعل الحكيم رويان. كانت الجرائم تتّابع من دون أن يكون لها فاعل، حتى استطاع الأب غوليالمو، وهو أول أو آخر مفتش بوليسي من العصور الوسطى، فكّ غموضها. غير أن سخرية الأقدار أرادت أن ينقلب السحر على الساحر، وبدلاً من ان يقضيَ امين المكتبة على الهزليّ فقد قضى عليه الهزلي، إذ اضطر إلى التهام الكتاب المسموم بنفسه، كما أن اضطراب الوضع في المكتبة، والجو السري المشحون فيها تسببا في اندلاع النيران التي امتدت إلى رفوف الكتب، فأحرقت المكتبة، بل أحرقت الدير كلّه. هنا أيضاً نلاحظ وجه تشابه آخر مع حكاية الحكيم رويان، فالكتاب المسموم لا يختار ضحاياه إلا من الأشرار. في الحالين ينقلب الشر على أصحابه. الملك الذي أراد قتل حكيم أسعفه، هو الذي انتقم منه الكتاب الأول، والنظام الفكري الذي أراد تحريم الضحك هو الذي انتقم منه الكتاب الثاني. ويصحّ هذا الرأي نفسه على "جزيرة اليوم السابق"، رواية أمبرتو إيكو الأخيرة، التي نقلها عن الإيطالية أحمد الصمعي أيضاً، وصدرت عن دار أويا للنشر. وهي رواية ضخمة تقع في أكثر من 530 صفحة. لكن الحدث المحوري فيها هو التأمل في طبيعة الوجود والزمان في جزيرة نائية ليس فيها بشر. لقد اختار إيكو أن يبدأ من حدث وصول روبارتو إلى سطح سفينة دافني. كان روبارتو شارك في الحروب المتواصلة بين الفرنسيين والإيطاليين والأسبان، ومل منها، وهناك التقى الأب إيمانويل، الذي اخترع آلة أرسطوطاليّة للتفكير بالمقولات العشر عند أرسطو. ولم يكن روبارتو ليتخيّل أن هيامه بليليا سيفضي به إلى مغامرات خارج الزمن الإنساني، على مشارف جزيرة سليمان، غير قادر على الوصول إليها حيث يمكنه التحكم بالزمن، لأنها ليست جزيرة اليوم بل جزيرة اليوم الماضي، وغير قادر على العودة إلى الزمن الإنساني المشترك. لم تكن له يد في ما وصل إليه. لقد وجد نفسه هناك، مثلما يجد السندباد نفسه بعد كل عاصفة بحريّة، على لوح خشب. وعلى سطح دافني أخبره الأب كسبار أنهما منفيان خارج الزمن الإنساني وخارج الأبد أيضاً. ولذلك لا بدّ من وسيلة للمغامرة بالهبوط على أرضها. فمن هذه الجزيرة مياه الطوفان، وفيها كنوز النبي سليمان، والوصول إليها يعني اكتشاف لغز الزمن. ولحسن الحظ فقد كان الأب كسبار عبقرية رياضية وميكانيكية ومؤمناً بالله إيمانا قوياً، فعزم على تجريب آلة كان قد اخترعها للغوص تحت الماء. أخبر روبارتو بأن ينتظره بعد نصف ساعة، وأنه سيلوّح له من على سطح الجزيرة. لكنه لم يظهر. فكر روبارتو بأن الزمن هناك غير الزمن هنا، وأن اليوم على سطح السفينة هو الأمس على الجزيرة. لذلك لا بد من انتظار يوم كامل. غير أن أياماً مرّت ولم يظهر الأب كسبار. فأيقن روبارتو أنه فقده إلى الأبد. منذ الآن سيعيش روبارتو منفاه خارج الزمنين: الإنساني والأبدي. وسيعيد تشكيل العالم من جديد. لم يعد لديه آخر يكتشف من خلاله ذاته، ولذلك لا بد من اختراعه. في البداية ينتقم من أخيه وشبيهه السري فيرانتي. يتخيل كيف اختطف حبيبته ليليا، التي انخدعت به ظنّاً منها أنه روبارتو. وإذ يغري الطمع فيرانتي باستباق روبارتو للوصول إلى جزيرة اليوم السابق، يحتال روبارتو بأن يضلله. والآن بعد أن قرر روبارتو مصائر أعدائه، صار بوسعه التفكير في الآخر. كان الآخر كلَّ شيء ولا شيء، كان العالم كله من دون أن يكون أيَّ شيء منه على وجه التحديد. وفي غمرة تأملات روبارتو، اكتشف أن لكل شيء في الوجود طريقة تفكير معيّنة. حتى الحجر له تفكير وله روح. هكذا يخرج روبارتو من التفكير بذاته إلى التفكير في الآخر ثم إلى التفكير بالميتافيزيقا. لعلّ القارئ لا يستطيع منع نفسه من استدعاء "حيّ بن يقظان" لابن طفيل. من ناحية الموقع الجغرافي للجزيرة، لقد وضع إيكو جزيرته بمحاذاة خط الاستواء، وأطلق عليها اسم جزيرة سليمان، وكذلك اختار ابن طفيل جزيرته، لكنه جعلها أقرب إلى الهند بدلاً من غينيا. يقول ابن طفيل: "ذكر سلفنا الصالح أن جزيرة من جزر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولد بها الإنسان من غير أم ولا أب، وبها شجر يثمر نساء، وهي التي ذكر المسعودي أنها جزيرة الوقواق، أعدل بقاع الأرض هواء، وأتمُّها لشروق النور الأعلى استعداداً، وإن كان ذلك على خلاف ما يراه جمهور الفلاسفة وكبار الأطباء". هناك إذاً موقع سردي مماثل في الجزيرتين. لكن التماثل لا يقتصر على هذا الحد، بل يتعداه إلى الطريقة التي وصل بها البطلان إلى الجزيرة. لقد وصل روبارتو على لوح خشبي بعد أن غرقت سفينة العلماء القراصنة، أما حي بن يقظان فقد وصل إلى جزيرته "في تابوت أحكمت أمه زمه، بعد أن أروته من الرضاع". والتابوت واللوح كلاهما وسيلة سرديّة للوصول إلى لغز الجزيرة المستحيلة. ومثلما كان الأب كسبار أوّل آخر بالنسبة إلى روبارتو في عزلة جزيرته، كذلك كانت الغزالة بالنسبة إلى حيّ بن يقظان. بعد موت الغزالة بدأ حي بن يقظان التفكير بالميتافيزيقا، وبعد غرق الأب كسبار بدأ روبارتو التفكير بها أيضاً. والميتافيزيقا في الحالين متشابهة، كلتاهما أرسطيّة البداية، عرفانيّة النهاية. ولا يكاد تعدد العوالم عند روبارتو يختلف عنه عند مثيله حي، لولا أن ابن طفيل يمسك عن الخوض في المعارف العلويّة. بل إن استنطاق تفكير الحجر موجود ضمناً في "حي بن يقظان" حين يتأمل حي مفهوم الثقل: "إن قُسِم الحجر نصفين انقسم ثقله نصفين، وإن زيد عليه آخر مثله زاد في الثقل آخر مثله. فإن أمكن أن يتزايد الحجر أبداً إلى غير نهاية كان يتزايد هذا الثقل إلى غير نهاية". لا نعني أنّ أمبرتو إيكو أخذ موضوعة جزيرة الذات التي تستدعي التفكير بالآخر وتفتح المجال واسعاً أمام إعادة صوغ الميتافيزيقا من حي بن يقظان، فمثل هذا القول يتسم بالمجانيّة والخفّة، لأن تعقيد "جزيرة اليوم السابق" أوسع بكثير من هذه الموضوعة وحدها، بل نعني أن هذه الجزيرة هي النموذج البدئي الذي يرتدّ إليه النصّان. "حي بن يقظان" نفسها يمكن إرجاعها إلى نصوص أخرى، من بينها حكاية "قصة ذي القرنين وحكاية الصنم والملك وابنته" التي عثر عليها مرسيه غومس في احدى مخطوطات مكتبة الأسكوريال. وفيها ألقت ابنة الملك ابنها في اليم فحملته الأمواج إلى جزيرة نائية حيث ربته غزالة انظر تعليقات أحمد أمين في طبعته لحي بن يقظان. بل يمكن العودة بهذه القصة إلى بحث المسعودي عن هذه الجزيرة في الفصول الأولى من "مروج الذهب". وليس من شك في أن نموذج هذه الجزيرة الحلميّة قد تولّد عنه عدد من الحكايات في "ألف ليلة وليلة".