الشباب سيطر والعلا والرياض يقتسمان قمة البومسي    منتدى (كايسيد) للحوار العالمي يجمع النخب السياسية والدينية في منتدى جديد    8 محاور رئيسية تناقشها القمة العالمية للذكاء الاصطناعي    إغلاق منشأة لصيانة السيارات في محافظة الأحساء وتصفية نشاطها التجاري لارتكابها جريمة التستر    قطر.. 80 شركة سعودية تدفع بمنتجاتها للعالمية    نمو الإيرادات والمشتركين يقفز بأرباح "الكهرباء" 87%    أولويات الهلال يصعب كسرها.. أرقام تاريخية    حجازي على مشارف الرحيل.. و 3 خيارات أمام الاتحاد    644 مليوناً صادرات التمور ب3 أشهر    المملكة تدشن مبادرة "طريق مكة" في مطار جناح الدولي بكراتشي    وزير الخارجية المصري: اتفاقية السلام مع إسرائيل «خيار إستراتيجي»    الراجحي بطلاً لرالي تبوك    سكان الأرض يتأملون الأضواء القطبية نتيجة "العاصفة الشمسية"    أمير تبوك يطلع على تقرير عن إنجازات واعمال فرع وزارة التجارة    مستشفى دله النخيل يوفر برامج علاجية حديثة لاضطرابات السمع والنطق    ضبط مخالف لنظام البيئة لارتكابه مخالفة رعي ب"محمية الإمام عبدالعزيز"    «البلسم» تحتفي بفريقها بعد إجراء 191 جراحة ناجحة    عقد اجتماع اللجنة التوجيهية للسوق العربية المشتركة للكهرباء.. غداً    الكويت: ضبط 24 شخصاً بتهمة ممارسة الرذيلة ومخالفة الآداب العامة    سمو أمير منطقة تبوك يترأس اجتماع لجنة الحج غداً    هيئة الصحفيين بمكة تنظم ورشة أدوات الإعلام السياحي غدا الاثنين    البديوي: دول الخليج تضع نفسها كمركز رقمي تنافسي    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير فرع الهيئة العامة لعقارات الدولة    "التخصصات الصحية" تطرح مشروع تحديث التقويم التكويني المستمر    التنوير وأشباه المثقفين الجدد    القوات المسلحة تشارك في تمرين "الأسد المتأهب"    الأدوية وأفلام الرعب تسببان الكوابيس أثناء النوم    الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول الأمطار على عدد من المناطق    استقبال طلائع الحجاج بالهدايا وحزمة البرامج الإثرائية    محافظ الزلفي يزور فعاليه هيئة التراث درب البعارين    القبض على مقيمين لنشرهما إعلانات حملات حج وهمية    اكتشاف قدرات الأيتام    كنو: موسم تاريخي    براعم النصر .. أبطالاً للدوري الممتاز    الأزرق يعادل بطولات الأندية مجتمعة    مؤسس فرقة «بيتش بويز» تحت الوصاية القضائية    النزل التراثية بالباحة .. عبق الماضي والطبيعة    "هورايزون" و"بخروش" يفوزان بجائزتي النخلة الذهبية    أكبر منافسة علمية عالمية في مجال البحث العلمي والابتكار.. «عباقرة سعوديون» يشاركون في آيسف 2024    انتكاس تجربة «إيلون ماسك» لزرع الشريحة    ميزه للتحكم بالصور والفيديو ب«واتساب»    طريق مكة    الماء    مصادر «عكاظ»: لا وجود ل «المسيار» أمام المحاكم.. تراخيص المكاتب «هرطقة»    طبيبة سعودية تنقذ راكبة تعرضت للصرع على متن رحلة جوية    جمعية مرفأ تنفذ دورة "التخطيط الأسري" في جازان    خبراء صينيون يحذرون من تحديات صحية ناجمة عن السمنة    حذروا من تجاهل التشخيص والتحاليل اللازمة .. مختصون: استشارة الإنترنت علاج مجهول    حملة للتوعية بمشكلات ضعف السمع    الطلبة الجامعيون وأهمية الاندماج في جميع المناطق    الشمري يرفض 30 مليون ريال.. ويتنازل عن قاتل ابنه بشفاعة أمير منطقة حائل    جودة النقد بين نور والهريفي    وما زال التدهور يخيّم في الأفق..!    مساحات ثمينة    القيادة تعزي ملك مملكة البحرين    أمير الرياض يتفقد المجمعة ويدشّن مشروعات تنموية    المدينة أول صديقة للتوحد بالشرق الأوسط    الأمير مقرن بن عبدالعزيز يرعى حفل خريجي جامعة الأمير مقرن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفاصيل ما يحدث في تركيا اليوم ... الاسلام المعتدل يفتح بحذر باب عهد جديد
نشر في الحياة يوم 09 - 11 - 2002

دخلت تركيا مرحلة جديدة من تاريخها بعد الانتصار المشهود لحزب العدالة والتنمية AKP ذي الميول الاسلامية المعتدلة والذي يتزعمه رئىس بلدية اسطنبول السابق، رجب طيب اردوغان، الذي كان يعده الزعيم التاريخي للاسلام السياسي في تركيا نجم الدين اربكان لخلافته قبل ان تطيح المؤسسة العسكرية، عبر مجلس الأمن القومي، بهما معاً خلال اقل من سنة 1998.
لم يكن ظفر حزب العدالة والتنمية في الانتخابات النيابية العامة في 3 تشرين الثاني نوفمبر الجاري عادياً او حتى بارزاً بل كان استثنائياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. اذ لم يسبق ان شهدت انتخابات تركية هذا الكم النوعي من النتائج المثيرة مثل ما اسفرت عنه الانتخابات الأخيرة.
1- شبّه كثيرون وصول حزب العدالة والتنمية بمفرده الى السلطة بسوابق وصول الحزب الديموقراطي في الخمسينات بزعامة عدنان مندريس وحزب العدالة بزعامة سليمان ديميريل عام 1965 وحزب الوطن الأم بزعامة طورغوت اوزال عام 1983. وعلى رغم ان المقارنة جائزة ظاهرياً الا ان حال حزب العدالة والتنمية مختلفة من اكثر من زاوية. فالأحزاب الثلاثة المذكورة كانت احزاباً علمانية تتسم بانفتاح ملحوظ على الشعور الاسلامي، فيما حزب العدالة والتنمية حزب اسلامي منفتح على الفئات العلمانية. وخاضت الاحزاب الثلاثة المذكورة انتخاباتها في ظل ظروف قريبة الى نظام الحزبين او الثلاثة. فيما كان حزب اردوغان يخوض صراعاً شرساً مع احزاب عريقة ومتعددة.
2- أسفر الانتصار الساحق لحزب العدالة والتنمية عن تصفية طبقة سياسية بكاملها بصورة غير مسبوقة بما يمكن تشبيهه ب"إبادة جماعية". وبعدما كان الحزب الخاسر في الحالات التي ذكرناها في الخمسينات والستينات والثمانينات، يدخل البرلمان ويواصل اللعبة السياسية كحزب معارض، فإن انتخابات 3 تشرين الثاني، لم تكتف بهزم هذا الكم من الاحزاب بل اخرجتها من البرلمان. واستتبع ذلك، كما يبدو راجحاً حتى الآن، ان زعماء الاحزاب المهزومة في طريقهم الى التواري بعدما اعلن معظمهم نيته في الاستقالة. ومن هؤلاء دولت باهتشلي زعيم حزب الحركة القومية ومسعود يلماز زعيم حزب الوطن الأم وطانسو تشيلر زعيمة حزب الطريق المستقيم وبولنت اجاويد زعيم حزب اليسار الديموقراطي ورجائي قوطان زعيم حزب السعادة.
3- ولا يمكن القول هنا ان حزب الشعب الجمهوري اليساري العلماني، ومنافس حزب العدالة والتنمية، قد حقق نجاحاً من خلال دخوله الى البرلمان وتحوله الى حزب المعارضة الوحيد. ذلك ان اصوات اليسار العلماني مجتمعة عام 1999 قارب ال31 في المئة توزعت بين حزب اليسار الديموقراطي 22 في المئة وحزب الشعب الجمهوري 9،8 في المئة.
واذا نظرنا الى نسبة الاصوات التي نالها حزب اليسار الديموقراطي اجاويد في الانتخابات الاخيرة وهي 2،1 في المئة فقط، لكان على حزب الشعب الجمهوري ان ينال ما تبقى من اصوات يسار علماني اي حوالى 30 في المئة او اقل منها بقليل. لكن حزب الشعب الجمهوري لم ينل سوى 4،19 في المئة. وهذا يعني ان هذا الحزب لم يستطع ان يكسب ثقة كل ناخبي اليسار العلماني. ولذلك عوامل عدة منها ان زعيمه دينيز بايكال، ليس ذلك الوجه الجديد والديناميكي، وهو في ال65 من العمر، وقد جربه الناخب سابقاً في اكثر من انتخابات وحكومة. بل يمكن القول ان انضمام كمال درويش، الليبرالي والوزير السابق المكلف تطبيق وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الى حزب الشعب الجمهوري، لم يؤدِ الى زيادة اصواته كما كان متوقعاً. ذلك ان شخصية تؤمن بسياسات صندوق النقد الدولي كانت تبدو غريبة على حزب عارض دائماً هذه السياسات وكان يدعو دائماً الى دور مركزي للدولة. وبدا للناخب اليساري العلماني ان الاحزاب التي تمثله لم تعد تحمل افكاره المعتادة ولم تعد تحمل هوية واضحة ومطمئنة ما اصاب الناخب بارباك وشكوك.
4- اذا نظرنا الى ظروف الحملة الانتخابية نفسها نجد انها اتسمت بضغوط هائلة للتأثير على الناخب وعدم تصويته لحزب العدالة والتنمية. وكانت "الدولة" بكل مؤسساتها العسكرية والقضائية والادارية تعرف جيداً ان هالة هذا الحزب هي من هالة زعيمه رجب طيب اردوغان. وكانت ترى ان ضرب اردوغان هو الطريق الوحيد لافشال حزبه في الانتخابات. وكان الاقتناع سائداً من ان "النظام"، وفي مقدمه المؤسسة العسكرية، لن يدع اردوغان يصل الى الانتخابات. وهكذا مارس العسكر، عبر مؤسسة القضاء، لعبة تصفية اردوغان. اولاً عبر القضاء الذي قام في مرحلة ما قبل الانتخابات بدور "رأس الحربة". فمنع اردوغان من الترشح في العشرين من ايلول سبتمبر. ثم فتح مدعي عام الجمهورية صبيح قناد اوغلو دعوى لاغلاق حزب العدالة والتنمية قبل عشرة ايام من موعد الانتخابات، ثم بوشر في النظر في الدعوى قبل يومين فقط من موعد الانتخابات، وذلك للتأثير في الناخب وعدم التصويت لحزب سيحظر لاحقاً فتذهب اصواته سدى.
ومورست "حرب تصريحات" واسعة ضد اردوغان: عبر العسكر الذين كانوا يشككون بنيات اردوغان، وعبر مسؤولين قضائيين شبّهوا اردوغان بهتلر وبأنه يسعى لتغيير النظام في تركيا على طريقة هتلر باستخدام الديموقراطية اداة لاقامة حكم على الطريقة النازية. ولم يتردد كمال درويش، الليبرالي والمشبع بالقيم الغربية، في تشبيه اردوغان بهتلر، بل ذهب الى حد تبرير الانقلابات العسكرية السابقة في تركيا وبأنها كانت لحماية الديموقراطية والجمهورية وبأن هذا هو دور الجيش. بل يفتخر كمال درويش بأن انقلابات العسكر التركي لم تكن فردية من قبل ضابط، كما هي الحال في العالم الثالث، بل كانت انقلاب مؤسسة. وحذر درويش من انه اذا لم تحل الازمة الاقتصادية فستصل "الرجعية" اي الاسلاميون الى السلطة.
ولما كانت "عقيدة الأمن القومي" للعسكر والتي وضعها في ربيع 1997 قد وضعت الاسلاميين ك"خطر أول" على النظام وتقدموا بذلك على "خطر" الانفصالية الكردية. ولما كان رئىس الاركان السابق الجنرال حسين كيفريك اوغلو قد توعد الاسلاميين ب"حرب الألف عام"، ولما كان الرئىس الحالي للأركان الجنرال حلمي اوزكوك الذي خلف كيفريك اوغلو في نهاية آب اغسطس الماضي، اكد مواصلة الحرب على "الرجعية" ب"العزم والتصميم نفسه"، فإنه يمكن القول ان انتصار أردوغان في انتخابات الاحد 3 تشرين الثاني 2002 شكل هزيمة ثقيلة جداً للمؤسسة العسكرية ونهجها وممارساتها، ولمؤسسة القضاء الذي تحول الى دمية وأداة بيد الجنرالات. وتثقل هزيمة الجنرالات مع وصول اردوغان بمفرده الى السلطة، وتزداد ثقلاً مع ضخامة الانتصار الذي حققه 363 مقعداً من اصل 550.
5- وتكتمل هزيمة العسكر مع تحقيق حزب الشعب الديموقراطي DEHAP الكردي تقدماً في الانتخابات الاخيرة وان لم ينجح في دخول البرلمان. اذ نال هذا الحزب 2،6 في المئة متقدماً بنقطتين عن انتخابات 1999، على رغم كل المضايقات التي تعرض لها ومنع ابرز زعمائه من الترشح للانتخابات وفي مقدمهم مراد بوزلاق. اي ان التقدم الوحيد قد تحقق من جانب التيارين "الأخطر" على النظام والأمن القومي: الاسلاميين والاكراد.
لماذا انتصر حزب العدالة والتنمية؟
كثيرون عزوا هذا الانتصار الى رغبة الناخب في تأكيد الهوية الاسلامية لتركيا. ومع ان جزءاً من هذه النظرة ليس خطأ الا ان "تشريحاً" للكتلة التي صوتت لحزب العدالة والتنمية قد توضح عوامل انتصار حزب اردوغان.
أ- نال حزب العدالة والتنمية 3،43 في المئة من الاصوات. واذا نظرنا الى الكتلة التقليدية الاسلامية خلال اكثر من انتخابات سابقة نجد انها كانت بحدود 15 في المئة قد تتراجع بعض النقاط او تزيد تبعاً لظروف طارئة اثناء الحملة الانتخابية وهكذا ارتفعت الى 21 في المئة عام 1995 وتراجعت الى 15 في المئة عام 1999 بعدما كانت 11 في المئة عام 1991.
اذا اخذنا انتخابات 1999 معياراً، اي حصول حزب الفضيلة على 4،15 في المئة. واذا حذفنا منها الاصوات التي نالها حزب السعادة الاسلامي بزعامة قوطان، في انتخابات 3 تشرين الثاني 2002 وهي 5،2 في المئة، يمكن التقدير ان ما تبقى من اصوات اي 13 في المئة قد ذهبت الى حزب العدالة والتنمية. وهما الحزبان اللذان انبثقا من رحم حزب الفضيلة. وعلى هذا فإن هناك كتلة من الاصوات تقدر ب21 في المئة قد نالها حزب العدالة والتنمية من خارج القاعدة التقليدية للاسلاميين.
من الطبيعي ان يذهب الظن للوهلة الاولى الى ان نسبة ال21 في المئة هذه قد نالها الحزب من قواعد الاحزاب المحافظة الاخرى والتي فشلت في دخول البرلمان. وهذا الاعتقاد صحيح الى حد كبير. فمجموع نقاط تراجع احزاب اليمين المحافظ قاربت الى 19 نقطة عن انتخابات 1999. وتشير الارقام الى ان حزب العدالة والتنمية قد نال 38 في المئة من قواعد حزب الحركة القومية و29 في المئة من قواعد حزب الوطن الأم و22 في المئة من قواعد حزب الطريق المستقيم. لكن الارقام تشير كذلك الى ان حوالى 15-20 في المئة من ناخبي حزب اليسار الديموقراطي قد صوّتوا لمصلحة حزب العدالة والتنمية، اي ما نسبته 3-4 في المئة من مجموع ال34 في المئة التي نالها حزب العدالة والتنمية.
واذا نظرنا من زواية جغرافية - طبقية الى الاصوات التي اقترعت لحزب العدالة والتنمية نجد انه حقق نتائج ممتازة في المناطق التي تعيش فيها الفئات مرتفعة الدخل ولا سيما في الغرب التركي حيث نال حوالى ثلث الاصوات وحل ثانياً بعد حزب الشعب الجمهوري، فضلاً عن حلوله اول في المدن الكبرى، ولا سيما في اسطنبول التجارية وأنقرة العلمانية وثانياً في إزمير. ومقارنة مع الاصوات التي نالها حزب الفضيلة في انتخابات 1999 فقد حقق حزب العدالة والتنمية تقدماً ضخماً في كل المناطق، وضاعف اصواته في مناطق الغرب التركي الغنية من 14 في المئة 1999 الى 32 في المئة 2002 وكان التقدم أكبر في المناطق الاخرى ولا سيما في وسط وشمال الاناضول حيث للعلويين حضور قوي. كذلك تضاعفت اصواته في المناطق الكردية من 17 الى 29 في المئة.
من كل ذلك يتبين لنا ان كتلة ناخبي حزب العدالة والتنمية ليست من لون واحد اسلامي بل لم تتعد نسبة الاسلاميين التقليديين ال12-13 في المئة. مضافاً إليها 4 في المئة من اليسار العلماني، وحوالى 15 في المئة من اليمين المحافظ. وناخبو اليمين المحافظ لم يدلوا بأصواتهم لأردوغان وحزبه، على اساس اسلامي، فلو كان الأمر كذلك لأعطوها إما لأحزابهم او لحزب السعادة. بل لتمنعوا عن اعطائها لأردوغان، لو كانت على اساس اسلامي، عندما يقول ان قضية الحجاب ليست من اولوياتنا او ان حزبه ليس اسلامياً. بل قوله ان نعت حزبه بهذه الصفة هو إهانة لحزبه كما للاسلام!
إن سقوط الأحزاب التي كانت في السلطة سقوطاً ذريعاً، هو الوجه الآخر من ميدالية وجهها الأول انتصار حزب العدالة والتنمية. ويمكن القول ان نسبة كبيرة من الكتلة غير التقليدية التي اقترعت لأردوغان وحزبه، انما كانت تصوت ضد سياسة التجويع والإفقار التي مارستها احزاب الحكومة: اجاويد ويلماز وباهتشلي. ففي عهد حكومة "الفرسان الثلاثة" شهدت تركيا أسوأ ازمة اقتصاد في تركيا اسفرت عن نتائج كارثية.
لقد استلمت حكومات السنوات الاخيرة والتي شاركت فيها اجاويد ويلماز ثم باهتشلي السلطة حين كان الدولار يعادل 150 ألف ليرة تركية وعشية الانتخابات الاخيرة كان الدولار يساوي مليون ونصف المليون ليرة. وكان الناتج القومي غير الصافي في بدء سلطة اجاويد - يلماز 194 بليون دولار وبدلاً من تناميه غادروا السلطة وقد تراجع هذا الناتج الى 148 بليون دولار. وكان النمو 3،8 في المئة في نهاية 1997 وسلّموه الآن وقد تراجع الى 4،9 في المئة تحت الصفر. وارتفع عدد العاطلين عن العمل من مليون و363 ألفاً الى مليونين و335 ألفاً. وأغلقت 420 ألف مؤسسة ابوابها. وارتفع الدين الخارجي والداخلي من 6،114 بليون دولار في نهاية ال1997، وسلّموا البلاد اليوم وقد بلغ هذا الدين 205 بلايين مع 5،120 بليون دولار فوائد دين.
لذا كان خيار الناخب "عقاباً جماعياً" لطبقة سياسية بكاملها. وقد يتساءل البعض: إذا كان الناخب يريد معاقبة السلطة على سياساتها الاقتصادية، فلماذا يكون البديل عنده هو رجب طيب اردوغان وليس مثلاً دينيز بايكال او "مايسترو" الليبرالية و"منقذ" الاقتصاد كمال درويش اللذين قادا حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات الأخيرة؟
الجواب ليس صعباً. فأردوغان يحمل معه تجربة غنية وناجحة من العمل الخدماتي عندما كان رئيساً لبلدية اسطنبول، كما يتصف بنظافة الكف. وهو اذا وعد وفى، وهو لا يعد إلا ما يقدر على الوفاء به. لذا يثق الناخب بصدق وقدرة اردوغان على التنفيذ وعلى مكافحة الهدر والفساد الذي كان سمة السلطة البائدة، حيث يقدر مجموع الأموال التي "أفرغت" من المصارف العامة المملوكة للدولة، من جانب احزاب الحكومة، خلال عامين فقط 12 بليون دولار.
ولا نهمل اخيراً، وليس آخراً، العامل النفسي لدى الناخب في التصويت لمن يكونون في موقع "الضحية"، وأردوغان نموذج ل"الضحية" بعدما سجن ومنع من العمل السياسي ثم من الترشح للانتخابات. والمواطن، في دولة قمع وتقييد حريات ونهب المال العام، غالباً ما يقترع لمن قد يكون مؤهلاً وصادقاً للقيام بالإصلاح. وأردوغان هو الجواب على ذلك.
اذا اجتمعت كل الظروف والعوامل: الدينية والاقتصادية والشخصية والاحتجاجية، لتصب في مصلحة تحقيق حزب العدالة والتنمية اكبر انتصار في تاريخ الأحزاب التركية، وليكون اول حزب اسلامي الطابع يصل الى السلطة بمفرده في بلاد العلمانية المفرطة في تطرفها الى حد تكاد لا تنسجم مع العلمانية المتعارف عليها بشيء.
ما الذي سيفعله حزب العدالة والتنمية؟
خرج اردوغان وحزبه في الأساس من رحم الحركة الإسلامية التقليدية التي تزعّمها نجم الدين اربكان على امتداد اكثر من ثلاثين عاماً. وخلاف آباء هذه الحركة حتى، تلقى معظم قادة حزب العدالة والتنمية تحصيلهم العلمي في المعاهد الدينية المعروفة باسم "معاهد إمام - خطيب". بل إن اردوغان نفسه كان يتسم حتى سنوات خلت بتشدد في مواقفه وب"أصولية" ملحوظة وكان يرى ان الإنسان اما ان يكون مسلماً أو يكون علمانياً ولا يمكن ان يكون الاثنين معاً.
لكن حملة الاستئصال التي تعرضت لها الحركة الإسلامية في تركيا منذ 28 شباط فبراير 1997 كانت شرسة وشاملة وطاولت كل مظاهر النشاط الإسلامي اقتصادياً وتربوياً وثقافياً وبالطبع سياسياً وحزبياً، وتركت آثاراً مدمّرة على واقع الحركة الإسلامية ومنها التفكيك المتواصل للأحزاب الإسلامية وتكبيل زعمائها بقيود قانونية ومنع المحجبات من متابعة دراستهن في الجامعات وإغلاق المعاهد الدينية ومطاردة الشركات الإسلامية ولم يسلم حتى المعتدلون امثال فتح الله غولين، من ملاحقة النظام.
في ظل هذا الواقع الضاغط، كان يتبلور اتجاه داخل حزب الفضيلة يدعو الى اعادة النظر بمجمل النهج السابق للحركة الإسلامية والأخذ في الاعتبار الواقع التركي ودور الجيش المركزي في الحياة العامة، والسعي لبلورة خط يحافظ على القيم الإسلامية للمجتمع من دون الاصطدام بالإيديولوجيا المتطرفة للكماليين.
لقد خطا اردوغان ورفاقه، الخطوة الأولى حين اطلقوا خطاباً اقل ما يوصف به انه "معتدل". لم تعد العلمانية مناقضة للإسلام، والحفاظ على علمانية حقيقية تحوّل الى مطلب اسلامي. ويكرر اردوغان ورفاقه رفضهم إقامة دولة دينية. يقول عبدالله غول، نائب رئيس حزب العدالة والتنمية وأحد أبرز الوجوه الإصلاحية في الحركة الإسلامية ان مطلب الناس ليس الدولة الدينية بل الحريات الدينية. وهو مطلب متصل بالمشاعر لا بالسياسة. وكان اربكان يقول: "نحن نطالب بأن تكون للمسلمين في تركيا نفس الحقوق التي يتمتع بها غير المسلمين فيها".
اكد اردوغان "تحوّله" في كل مناسبة. ورفع مطالب وشعارات لا يمكن ان يرفضها الطرف العلماني: الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان.
ولم يصدّق، أو بالأحرى لم يرد العلمانيون المتشددون ان يصدقوه، لأنهم لم يكونوا يريدون له ان يتغير. ولأن تغيّره ينزع من ايديهم ذرائع القيود التي كانوا يفرضونها وذرائع عدم المضي في تطوير النظام.
فاجأ اردوغان الجميع عندما اعلن ان الاتحاد الأوروبي هو اولوية الأولويات في برنامجه الحزبي. وكان جاداً في ذلك لأن انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي هو احد السبل القوية لإزالة كل الشوائب التي تعانيها تركيا في مجال الحريات وحقوق الإنسان. وفاجأ اردوغان العلمانيين بأنه يحترم النظام العلماني الحقيقي ويحترم نمط حياة كل فئات المجتمع التركي. كان يعلن اعترافه واحترامه ل"الآخر"، فيما هذا "الآخر" لم يواجه "الآخر" الإسلامي إلا بنفيه من الدولة والمجتمع.
الحساسيات الداخلية والتوازنات الحساسة، تفرض ايضاً على اردوغان نمطاً جديداً من التعامل الواقعي مع الملفات الحساسة. وحين يقول ان قضية الحجاب ليست من اولوياته فإنما يؤشر الى انه لا يريد الاصطدام بالمؤسسة العلمانية، بعسكرييها وقضاتها، وإنه يريد العثور على حل لهذه القضية بطريقة لا تثير حفيظة او حساسية احد.
لقد نال حزب العدالة والتنمية 363 مقعداً من اصل 550، اي اقل فقط بأربعة مقاعد ليحصد ثلثي المقاعد. ولكنها اكثرية كافية لتعديل الكثير من المواد الدستورية والقانونية. ومع ذلك لن يلجأ اردوغان على رغم قدرة حزبه على ذلك، الى اية تعديلات لا يوافق عليها حزب الشعب الجمهوري. أردوغان وحزبه الآن معنيان بإشاعة مناخ من "الثقة" بهما وتبديد الهواجس والشكوك عبر خطوات هادئة واجماعية. ربما هذا هو الهدف الأول والأساسي لأردوغان على صعيد العلاقة مع المؤسسة العلمانية في المرحلة المقبلة.
لا شك في ان الجيش منزعج جداً من نتائج الانتخابات ولسان حاله الضمني ان تنشق الأرض لتبتلع اردوغان الذي ألحق بالجيش هزيمة لم يحلقه بها حتى اربكان. وعلى رغم ان اردوغان يتبع سياسة "نزع الذرائع" من امام العسكر، إلا ان رهان العسكر هو على العامل الذي تسبب في رفع نسبة الأصوات التي نالها اردوغان وهو العامل الاقتصادي، ويدرك اردوغان جيداً ان بقاءه في السلطة رهن بمواجهة التحدي الاقتصادي، وقدرته على تحقيق وعوده بإنهاض الاقتصاد وتأمين "العيش والعمل والحقوق" كما اعلن حرفياً فور انتصاره.
ان المؤشرات التي سبقت الانتخابات ورافقت الحملة الانتخابية لا تؤشر الى امكان تخلي العسكر عن نظرته السلبية تجاه اردوغان والإسلاميين عموماً، والأرجح ان يتبع سياسة "الوقت" مع بذل محاولات ضمنية مكثفة لإفشال اردوغان على الصعيد الاقتصادي ونزع الهالة التي تحيط به وإعادة تحجيمه ليكون مجرد واحد من الأحزاب الكثيرة الموجودة على الساحة.
لكن مثل هذا النهج، في حال اتبعه العسكر، سيكون خطيراً. ذلك ان اردوغان خطا الخطوة تجاه العسكر العلمانيين وأطلق خطاباً تصالحياً وإيجابياً جداً. وسيكون من الخطأ الجسيم ألا يقابل العسكر هذه الخطوة بخطوة مماثلة. ذلك ان امام تركيا فرصة تاريخية للمصالحة بين اسلامييها وعلمانييها وبين المواطن والدولة، وأية محاولة لتفويت هذه الفرصة لن تخدم الاستقرار السياسي الداخلي ولا النهوض الاقتصادي.
اما على الصعيد الخارجي، فقد جاء انتصار الاعتدال الإسلامي في تركيا "بشرى" سارة لواشنطن التي تأذت صورتها كثيراً من جراء ما تسميه "الحرب على الإرهاب"، لدى العالم الإسلامي. ولعل تأييد واشنطن وتشجيعها حكومة العدالة والتنمية الإسلامية المتوقعة، رسالة الى الرأي العام الإسلامي من انها ليست ضد نموذج اسلامي معتدل يجمع بين الإسلام والديموقراطية. وهذا في الوقت نفسه سيمنحها المزيد من التبرير لضرب الحركات التي تعتبرها اصولية و"إرهابية". كما ان الولايات المتحدة ليست في وارد الاصطدام بأية حكومة تركية في مرحلة التحضير لضرب العراق، وهي التي تعرف ان معارضة ضرب العراق تأتي من العسكر ومن حكومة اجاويد السابقة قبل ان تكون من جانب حزب العدالة والتنمية. علماً ان هذا الحزب يدرك جيداً "سقف" دور الحكومات في رسم السياسات الخارجية والأمنية التي هي سياسات "دولة" وليست سياسات حكومات أو أحزاب. لذا كان من الطبيعي ان يجيب عبدالله غول، نائب رئيس الحزب، عما سيكون عليه موقف الحزب من ضرب العراق، بأنهم سيسألون العسكر!
وفي سياق "السقف" نفسه لا يتوقع ان تسوء العلاقات مع إسرائيل، فهناك اقتناع داخل تركيا، لدى الجميع، ان تحديث السلاح التركي ضرورة ماسة، وأن إسرائيل وحدها القادرة على القيام بهذه المهمة التي لا يمكن التعاون فيها نظراً للأخطار الإقليمية الكثيرة التي تواجه تركيا. كما ان التعرّض لملف العلاقة التركية مع اسرائيل ليس من مصلحة حزب العدالة والتنمية الذي يسعى الى هدفين مهمين: الأول اسقاط الحظر المفروض عليه والقبول به رسمياً جزءاً من الحياة السياسية الداخلية، والثاني الاعتراف بدوره من جانب واشنطن. وتعريض العلاقات مع اسرائيل لأي اشكال لن يسمح ببلوغ الحزب هدفيه المذكورين.
ثم ان التطورات الإيجابية الحاصلة في العلاقات بين انقرة والعالم العربي منذ اكثر من ثلاث سنوات، وبمعزل عن ربط هذا التحسن بتخفيف تركيا علاقاتها مع إسرائيل، تنزل عن كاهل الإسلاميين الأتراك عامل الضغط عليهم من جانب العرب لتخفيف علاقاتهم مع إسرائيل. اما الموقف المبدئي للعدالة والتنمية فهو الموقف الرسمي التركي وهو إدانة الممارسات الإسرائيلية التي لن تبلغ المدى الذي وصل إليه موقف رئيس الحكومة الذكي المستعد للرحيل بولنت اجاويد عندما وصف القمع الشاروني للفلسطينيين بأنه "إبادة".
وفي اطار سعيهم الحثيث وإعطاء الأولوية لانضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي لا يبدو ان حكومة الإسلاميين الجديدة ستولي اهمية "استثنائية" للعلاقات مع العالم العربي والإسلامي، بل سيندرج ذلك في سياق التحسن الطبيعي الذي بدأ في الأساس قبل وصولهم الى السلطة. ويبدو ان اسلاميي حزب العدالة والتنمية يحتفظون بذكرى "سلبية" مذ كانوا اسلاميي حزب الرفاه. فعبدالله غول يصرّح الآن بما يشبه الانتقاد للعرب من انهم لم يتجاوبوا كثيراً مع محاولة حكومة اربكان تحسين العلاقات مع العالم العربي، في اشارة ومؤشر الى ان العلاقات مع العالم العربي ليست في قلب اهتمامات حزب العدالة والتنمية.
مرحلة جديدة، وكما يتمنى رجب طيب اردوغان، مرحلة "بيضاء" كما رسم حزبه "الأبيض" AK في تاريخ تركيا. وهي تجربة جديرة بالتشجيع ودفعها نحو النجاح من زاوية العلاقة بين الإسلام والعلمانية والإسلام والديموقراطية ومن زاوية حوار الحضارات والثقافات بين الإسلام والغرب وساحته الرئيسة، تركيا، الاتحاد الأوروبي.
تركيا، من جديد، حقل اختبار... وآن لهذا البلد ان ينتهي من ان يكون ذلك مرة اخرى.
* كاتب لبناني متخصص في الشؤون التركية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.