كان اللقاء بين دمشقوبغداد من المحرمات أبداً. فقوائم العمل العربي المشترك هي دمشقوبغداد والقاهرة والرياض. وهذه القوائم ايضاً من المحرمات على الاجتماع وعلى التعاون. وإذ لا يجوز في لحظة الحقيقة اليوم ان نملك ترف فتح خزائن الماضي، كما يفعل البعض بحسّ غير مسؤول ازاء ما يقوم به العراقيون من اجراءات وسلوكات تفيض بالعقلانية والانفتاح والواقعية، نقول ان اللقاء بين دمشقوبغداد منتصف التسعينات كان ايضاً، ولا يزال، في خانة المحرمات" وهذا ما يفسّر الضغوط الحالية ومنذ سنتين ايضاً على دمشق. فما يورده الاسرائيليون يتلخص في أن ريتشارد بيرل وداغ فايت، وهما اليوم في أهم المناصب الفاعلة في وزارة الدفاع الأميركية: الاول رئيس المجلس الاستشاري في وزارة الدفاع والثاني نائب وزير الدفاع والشخص الثالث في الوزارة، كلاهما عملا عام 1996 ضمن مجموعة صغيرة طلب منها مساعدة رئيس الحكومة الاسرائيلية السابق بنيامين نتانياهو، وتقدما له بخطة لما سموه اعادة الحكم الملكي الى العراق بمساعدة اسرائيلية. والوثيقة التي تتضمن المسوغات لهذا المشروع الذي بدئ بإخراجه من الدروج وعرضه على القيادة الاميركية اليوم، أعده "المعهد المقدسي - الواشنطني للدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة"، ويمكن من يشاء العودة إليه منشوراً في شكل كامل في موقعه على الانترنت، تقول بشراكة أميركية - اسرائيلية - تركية تقوم على عدم الاعتمادية ومبدأ التبادل، بدلاً من الشراكة التي ترتكز على الصراعات الاقليمية، الأمر الذي يستلزم بحسب بيرل وفايت مدّ الأذرع الى كل أرجاء المنطقة، واعتماد استقرارها في ظل هذا التعاون في صورة أساسية، الأمر الذي يتطلب استقرار العراق و"اعادة تعريفه" من جديد، على ان تشارك تركيا في هذا من خلال المساندة الديبلوماسية والعسكرية والميدانية لعملياتها ضد سورية، اذ ان إزاحة صدام حسين ليست الا وسيلة لإحباط ما يسمونه "تطلعات سورية الاقليمية". والاقتراح الاسرائيلي الذي أصبح اليوم في غرفة عمليات وزارة الخارجية الاميركية التي تهيمن بصورة دراماتيكية على القرار السياسي الاميركي، يكون من خلال الاتصال بالعشائر والقوى الإثنية المعادية لسورية أو التي يمكن تحويلها الى ذلك الموقع. ومع تحويل العراق الى ملكية على أيدي الثالوث الاسرائيلي - التركي - الأميركي يمكن تحجيم دور سورية ومكانتها الاقليمية. اضافة الى اشغال سورية باستخدام المعارضة اللبنانية للوجود السوري في لبنان وتوجيه اهتمام العالم الى اسلحة الإبادة الجماعية الموجودة لدى سورية، بحسب تعبيرهم. ومع التحفظ عن المشاريع النظرية، خارج العمل السياسي المباشر، لا يمكن الا ان نعتبر ان حظوظه من الوضع قيد التنفيذ تصبح أكبر، عندما يصبح القائمون عليه في مركزين حاسمين في القرار السياسي والعسكري وهما واحد اليوم تقريباً في الولاياتالمتحدة. وذلك على اعتبار ان استقرار العراق بعد إسقاط نظامه مطلب أميركي ودولي واقليمي، ومن بين السيناريوات المقترحة لذلك فعلاً قيام ملكية دستورية على رافعة حكم عسكري أميركي في العراق. وما يفيدنا في موضوعنا هنا بالذات ان ما كان بالامس محرماً هو اليوم من الأثافي. ولكن دمشق ومنذ تاريخ اعداد تلك الدراسة بنت علاقتها مع العراق بهدوء، من دون اعلانات واستعراضات. وأقامتها على رسم خريطة مصالح مشتركة تبدأ بالاقتصاد ولا تنتهي بالسياسة بل تتمفصل فيها في وثاقة شديدة التماسك، الأمر الذي أعطى بغداد هامشاً وقدرة على المطالبة بحقوقها في نزع الحصار، ومكن دمشق من الاحتفاظ بعمقها الاستراتيجي ووفر لها تصليب موقفها الاقليمي. وكان من المفترض ان يتفهم الغرب مدى أهمية علاقة تقام بين العاصمتين بتوازن يسير على حدّ الشفرة: فهي ليست موجهة ضد أحد، بل بالعكس تشكل قناة بين الجميع وبين بغداد، وهي تضفي من العقلانية السياسية السورية ما يسمح لبغداد في ظل استرخائها الاقليمي على ممارسة عقلانية موازية. وللدلالة عليها لا بد من ان نقول ان العراق يستحق أيما تقدير على سياساته الاخيرة، لأسباب عدة: أولها، اننا لم نعتد منه على اتباع سياسة "العقلانية الاستباقية"، وثانيها ان لغته خلت تماماً من "العنتريات"، وباتت أقرب الى لغة تطويق الآخرين بخفض كل انفعال، وتقليص كل تمدد. وثالثاً، لأنه أدرك ان مصير العرب، وليس مصيره وحده، مرتبط في صورة أو اخرى، بعدم إنجاح، وقبل ذلك، عدم السماح باعطاء الذرائع لعمل عسكري ضده. فأن يقبل العراق بعودة المفتشين الدوليين من دون قيد أو شرط، فهذه عقلانية عُظمى!. وان يقول على لسان طارق عزيز انه لن يهاجم احداً وخصوصاً دول الجوار، متخذاً، وضعية مُثلى هي وضعية الدفاع، التي تقود الى وضعية المعتدى عليه، وهذه سياسة استباقية تكمل سلسلة "نزع المبررات". ونكاد نستشعر في هذا مسحة العقلانية السورية. وأن يقول العراق ان لا أسلحة لديه - أصلاً - لمهاجمة اسرائيل ولا قدرة عسكرية لديه لذلك مكتفياً بوضعية دفاع الضعيف عن نفسه عندما يُعتدى عليه، فهذا اكثر بكثير مما يتوقعه مراقب لا يريد ان يستدعي صور الماضي في السياسة العراقية. وللدلالة على مدى عقلانية ما سبق لا بد من ان نستدعي مقابلة تلفزيونية ضمت اللواء وفيق السامرائي واستراتيجياً وكاتباً سياسياً، قال فيها السامرائي انه لحظة سماعه أن القيادة العراقية ستعلن عن بيان مهم اعتقد ان الامر سيكون احد احتمالين: الأول ان يكون الرئيس صدام حسين سيعلن عن اجراء تفجير نووي خلال يومين وبالتالي سيقوم بعمل مشابه لما قامت به كوريا الشمالية، فتقطع الطريق على الحرب. أو انه سيعلن عن عفو شامل بالصورة التي حصلت. ومع ارتباك المذيع المقتدر، وهو ارتباك مبرر لأن من يطرح الاحتمال الاول رئيس استخبارات سابق من ناحية ما يعطيه صدقية أقرب الى الحتمية، ومن ناحية يعكس الأمل والنشوة العربية الدفينة بالرغبة بالقوة... ولو من العراق، مع هذا الارتباك انساق الاستراتيجي الآخر الى الدخول في مدى توقيت الاعلان وتم التوافق على ان الاعلان عن وجود السلاح النووي العراقي قد يكون مبكّراً الآن وأنه مرشح قبيل البدء بالمعارك. ولكن مراجعة هادئة للفكرة وطارحها، لا بد من ان تجعل المرء يرتد الى عقلانية الحسابات" فطارح الفكرة كرئيس لجهاز الاستخبارات لاعب استخباراتي، ولكن من موقع مختلف، أعني موقع المعارضة، وبالتالي فمصير النظام يعاكس مصيره، وبالتالي من مصلحته التأليب على النظام وزيادة إشعال النار من حوله، ولكن بطريقة "اللعب الأمني"، فبمجرد الايحاء بأن العراق قد يُعلن عن برنامجه النووي سيعني حقيقة لدى البعض أن هنالك برنامجاً نووياً فعلياً للعراق... ما يهيئ الأجواء وقطاعات من الرأي العام بأن الحملة الأميركية لها ما يبررها. فإذا ما لم يعلن العراق عن برنامجه المزعوم فلا ريب انه سيكون قرر اخفاءه للمرحلة الاخيرة من الحرب. ولا بد من ان نتساءل من موقع الاختصاصيين العلميين: كيف يتأتى للعراق ان يقيم برنامجاً نووياً في مواقع مختلفة وكلها سرية. فنحن لا نسمع عن مثل هذا علمياً على الاطلاق: فأين يمكن المبرد ان يوجد وكيف يمكن الانتقال من موقع الى آخر يبعد منه مئات الكيلومترات كي يتم العمل في المرحلة الثانية وما بعدها... فاذا كان هذا حدث فعلاً فيجب ان يمنح العراق براءة الاختراع! لا شك في أن القيادة العراقية أثبتت انها أذكى مما تصورنا، فهي اعلنت موافقة غير مشروطة على قبول عودة المفتشين ودعت فريقاً اميركياً لزيارة المواقع المدعى انها لانتاج أسلحة الدمار الشامل، وأعلنت ان لا قدرة لديها لضرب أي دولة أثناء الاعتداء المقبل عليها، وان لا برنامج نووياً لها. وفتحت السجون وفتحت معها بوابة هائلة للمصالحة الوطنية وأعلنت على لسان طارق عزيز في بيروت ان خطأ ارتكبته بالتركيز على الخلاف مع اليسار واليمين والعدو الحقيقي هو الاسرائيليون. وما خلا المئة في المئة الاخيرة، والتي تجد تفسيراً مبالغاً به وليس تبريراً، فإننا نستطيع ان نصف السياسة العقلانية بالحكيمة والخبيرة جداً وبتنا على قناعة بأنها تستطيع ان تدير الأزمة بعقلانية وواقعية ومن طراز رفيع فعلاً. صحيح ان عقلانية السياسة السورية قضمت المحرمات، لكنها أقامتها على أساس التوافق الاقليمي - الدولي والاعتماد المتبادل شرط الحفاظ على مبدأ السياسة، وكل ذلك من القواعد العظمى في العمل السياسي. كما ان دمشق لم تستغن بعلاقتها مع بغداد عن علاقتها مع الرياض والقاهرة بل شكلت ايضاً نقطة وصل وتواصل بين هذه العواصم، الامر الذي فسح في المجال أمام المصالحة العراقية - السعودية في قمة بيروت والتواصل من موقع عدم التشنج بين العراقيين والكويتيين، في القمة نفسها، وهو ما شكل انتصاراً للسياسة السورية. وصحيح ان هذه العقلانية وهذا الأداء السوري سيجعلان الاسرائيليين أكثر قلقاً لأن الطرفين لا يقدمان مادة للانسلال بينهما أو لدق إسفين، الا انهما بقدر ما فرضا نوعاً من الارتياح الغربي وحتى الأميركي، الى حين مجيء بوش، بقدر ما يثيران مزيداً من الانزعاج الأميركي بوجود أولئك الذين يشكلون جزءاً من القرار السياسي والعسكري في البنتاغون. وهو ما يبعث على الأسى لأن الولاياتالمتحدة وبدلاً من ان تقيم الروابط على أساس التوافق على رغم الاختلاف ايضاً على العقلانية السياسية طلباً للاستقرار، ها هي تطلب الحرب من دون اي اعتبار للاستقرار. واذ تفكر بالاستقرار بعد الحرب فإنها تطرح مشروعاً لن يطبق بسهولة ولن يمرر كمن يحرث بماء، فضلاً عن ان اسقاط النظام هناك سيكون مكلفاً للشعب العراقي وللأميركيين وللمنطقة. * كاتب سوري.