تشكل العلاقة بين سورية والعراق احدى اهم المحطات في تغيير البني السياسية والاستراتيجية في المنطقة، وبداية مرحلة جديدة من اللغة السياسية المختلفة والاداء السياسي العقلاني. لكن هذه العلاقة ليست علاقة مع العراق وحده، اذ انها تكاد تسم طبيعة الاداء السوري في السياسة في نهايات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، والذي عبر عنه الرئيس السوري بشار الاسد بجملة مختصرة تقول: "لقد تعلمنا اننا نحن العرب مهما اختلفنا فإننا في النهاية سنعود لنلتقي، وانه يجب التركيز على عناصر الاتفاق وليس على عناصر الاختلاف منعاً لمزيد من تفتيت الوطن العربي". وتشكل هذه اللغة الفهم الاستراتيجي الجديد لسورية الذي يمكن اعتباره بمثابة تطوير نوعي للعقلانية السياسية التي انتُهجت فيها وتطورت منذ مطلع السبعينات. ويشكل البعد الاقتصادي في العلاقة بين سورية والعراق اول بادرة لتطوير العلاقات بين البلدين منذ شهر العسل السوري - العراقي اليتيم نهاية السبعينات، والتي انتقلت من التوتر الشديد الى الحذر فالبرود، وصولاً الى التطوير التدريجي. ولهذا التدرج في الفهم السوري اسباب موجبة، اهمها ان تاريخ العلاقة السياسية بين البلدين يستدعي تجذير الايجابيات، حتى لا تتكرر تجربة اطاحة السلبيات بتلك الايجابيات. وهذا ما ينسجم عملياً مع التركيز على عناصر الاتفاق منعاً من ان تطيح عوامل الاختلاف بسابقتها، وهو ما بات طبيعياً في فهم الجميع للسياسة، لعوامل الاتفاق. وفي واقع الحال، ان التقارب السوري - العراقي ليس الا حلقة في لعبة استراتيجية يمارسها الرئيس بشار الاسد، وتعكف الديبلوماسية السورية الرصينة للوزير فاروق الشرع على تنفيذها، وتتمثل في اعادة تشكيل المنطقة بصورة استراتيجية. فالعراق يشكل عمقاً استراتيجياً لسورية، فيما يهيئ الخط الاستراتيجي الذي يمتد من دمشق الى بغدادفطهران، في حال تطوره، الى ارساء عامل توازن اقليمي رفيع، حتى اننا يمكن ان نعزو تراجع اللغة الاستفزازية التركية لكل من سورية والعراق، وحتى ايران، في الفترات الاخيرة الى ظهور ملامح "قوس قزح" استراتيجي يربط العواصم الثلاث، وهو الامر نفسه الذي يتكرر مع اسرائيل، ويذكرنا بأن اسرائيل لم تقم بأي عمل عسكري ضد كل من سورية ومصر طيلة فترة الوحدة بينهما عام 1958، وسرعان ما انخفضت لغتها التهديدية عندما بدأت ملامح العلاقة السورية - العراقية، والعراقية -الايرانية بالنضوج والاتضاح، خصوصاً بعدما عبرت ايران اكثر من مرة انها لن تقف مكتوفة الايدي في حال تعرض سورية ولبنان لأي عمل عسكري، مما بات يؤكد تلك الحقيقة التي تقوم على ان ثالوث دمشق - بغداد - طهران يكبح جماح الاسرائيليين ويعيد التوازن الى المنطقة نسبياً. صحيح ان مثل هذه العلاقة الثلاثية تزعج واشنطن وبعض الجهات الغربية، خصوصاً لجهة انها تجمع ما لم يكن له ان يُجمع سابقاً، وانها تساهم، حسب القول الاميركي، في رفع الحظر عن العراق. الا ان ادارة هذه العلاقة الاستراتيجية تبدو اكثر ذكاء لانها تتصل بلغة المصالح التي تفهمها اميركا جيداً، وربما لا تفهم غيرها، وتتداخل بشكل معقد مع لغة المصالح الاميركية الى درجة احباطها عن اتخاذ اية اجراءات تجاه الاستقلالية التي تمارسها سورية في علاقاتها الاقليمية. حتى انه يمكن القول باختصار شديد ان رسالة توماس فريدمان المعنونة الى الرئيس الاسد لا تعدو كونها موقفاً شخصياً منه، وفي اسوأ الاحوال احتجاجاً لفظياً لن يتعدى ذلك، في وقت تدير فيه سورية ديبلوماسيتها بعناية فائقة، اذ انها تتكلم على التوازي مع ذلك، لغة السلام ولغة المصالح والاعتماد المتبادل، مما يجعل اي موقف اميركي لاحق مأسوراً بلغة العقلانية السورية التي لم تحول هذه العلاقة الاستراتيجية مع بغدادوطهران الى لغة احلاف، لأنها تعلم ان سياسة الاحلاف تدفع المنطقة الى احلاف موازية والى رفع درجة الاختلاف الى التوتر وربما الى الانفجار، وهو ما لا تريده العقلانية السياسية التي يديرها الرئيس الاسد، لانها تنتهي - بالنتيجة النهائية - الى معارك مشتتة من ناحية والى اضعاف فاعلية "المحتوى" المطلوب من هذه العلاقة الثلاثية، حيث يطغى المحتوى هنا على الشكل وتصبح النتيجة اهم من الاستعراض بالاشكال. وعلى التوازي مع هذا تربط سورية علاقة استراتيجية مع عاصمتين اخريين تتيحان لها اضافة مزيد من التوازن في العلاقات الاقليمية، وهما الرياض والقاهرة، ولكل منهما وزنه الاستراتيجي العربي والاقليمي وصلاته الدولية، التي تفتح دمشق على العالم من ناحية وتساهم في اضفاء صورة عن النزعة العقلانية التوازنية في السياسة السورية، مما يشكل عامل درء لدمشق من سوء التأويل الغربي وتحديداً الاميركي، كما يمنح هذا التوازن العاصمة السورية فرصة لإظهار ان المسألة تتعدى المحاور، وان سياسة التوازن هي التي تحكم نزعتها الانفتاحية. والاهم من هذا وذاك ان خطوط العواصم الاربع تجتمع جميعها فعلياً في سورية، فالعلاقة المصرية - الايرانية، والسعودية - الايرانية، وربما العراقية - الايرانية، تمر في كثير من الاحيان عبر القناة الديبلوماسية السورية، واذا لم تفعل فإن صمام امانها من الوصول الى نقطة اللاعودة يكمن في دمشق، وفي الدور الذي تضطلع به الديبلوماسية السورية والذي نجح قبل عدة سنوات بالوساطة بين المنامةوطهران وفتح الاقنية بين ابوظبي والعاصمة الايرانية ايضاً، مما يجعل دمشق "لولباً" بين العواصم السابقة، ويعيد اليها البعد المركزي الذي املت ان تضطلع به دائماً منذ مطلع السبعينات. وتضطلع دمشق بآلية تدريجية لفك الحصار عن العراق. وفك الحصار هنا يمكن ان يكون بخطوات اقتصادية تبدأ بمنطقة التجارة الحرة ولا تنتهي مع انشاء خط الانابيب النفطية الجديد الذي يتسع لمليون واربعمئة الف برميل يومياً، بما يشكل دلالة استراتيجية جديدة، اذ انه سيدفع النفط العراقي بعيداً عن المظلة الغربية التي كان تحتها منذ ان اعتمدت بغداد الطريق التركي وميناء جيهان طريقاً لنقل وتصدير نفطها في الثمانينات، وهو ما شكل عملياً ارتهاناً بمعنى من المعاني لتلك المظلة. واذ تشعر الولاياتالمتحدة أن مثل هذا التعاون السوري - العراقي لن يذهب الى حد تشكيل محور معاد لها، فإنها قد تنظر بعين عدم الرضى عنه لكنها لن تكون قادرة على فتح معركة معه ما دامت عقلية المصالح المتبادلة وفق قاعدة الاعتماد المتبادل، هي التي تحكمه. وباختصار شديد فإن اجتماع العلاقة بين دمشقوبغدادوالرياض والقاهرة وطهران في توازن جامع، تلعب دمشق محوره الاساس، يكون الرئيس بشار الاسد قد حقق افضل وضع لسورية وللمنطقة منذ خمسين عاماً، اذ ندر ان اجتمعت عاصمتان عربيتان لفترة طويلة على خط واحد ولو بالحدود الدنيا، فما البال بأربع عواصم، اضافة الى عاصمة تشكل البعد الاسلامي في محور العلاقة العربية - الاسلامية. ولعل عدم استخدام لغة راديكالية لاعقلانية، وباعتماد راديكالية المواقف الفعلية وعدم الذهاب بها الى حد الصدام، وتحت غطاء المصالح، كل ذلك يمكن ان يشكل قاعدة لفعل استراتيجي تشهده المنطقة العربية للمرة الاولى. * كاتب ومحلل سياسي سوري.