مع أنني لا أؤمن بنظرية المؤامرة ولا بتكرار التاريخ، وأعتقد جازماً بأن السياسة هي فن الممكن وأن هنالك مساحات يمكن توسيعها – وأخرى يمكن تقليصها في معاملات النفوذ الإقليمي أو الدولي – إلا أن شيئاً ما جعلني أستعيد نظرية المؤامرة وتكرار التاريخ مرتين. مرةً أولى عندما أعلنت سورية والعراق عن تشكيل مجلس أعلى استراتيجي سوري - عراقي، والاتفاق على تمرير خط للنفط عبر سورية، ومرة ثانية عندما اندفعت السلطات العراقية لاتهام سورية بالتفجيرات الدامية في بغداد يوم الأربعاء الحزين، إن لجهة وجود قيادات عراقية بعثية وراءه، أو من ثَمَّ عند إعلان «القاعدة» عن مسؤوليتها، في إخراج (كوميدي) لشخصية من «القاعدة»، تقول إنها تلقت تدريبات في سورية على أيدي الاستخبارات السورية. في المرة الأولى تساءلت: «هل بات مسموحاً ذلك اللقاء (الاستراتيجي) بين دمشق وبغداد؟»، وهو من الممنوعات الدولية - الإقليمية منذ الخمسينات من القرن الماضي، وعرف أوجه في الستينات والسبعينات، منعاً، باعتبار أن من غير المسموح لقاء العمق الاستراتيجي الجغرافي لسورية بها. تذكرت قصة رواها لي أحد أعضاء القيادة في سورية في نهاية السبعينات عندما أرسله الرئيس الراحل حافظ الأسد مع زميليه إلى بغداد للإعداد لصيغة الوحدة بين البلدين. ذهب الوفد السوري واستقبل بحفاوة بالغة وأبلغ في الساعات الأولى أن العراق يوافق على صيغة الوحدة الشاملة (المصرية - السورية) صيغة لوحدة سورية والعراق. في المساء التقى الرئيس البكر أعضاء الوفد بخلاف التوقيت المعدّ بعد أيام لهذا اللقاء ليسرد عليهم قصة مفادها أن البعثيين لما حاولوا قتل عبدالكريم القاسم لم يجدوا غير سورية ملاذاً، ثم أنهى اللقاء بسرعة. فهم الوفد السوري أن ثمة شيئاً غريباً يحدث. وبعد سويعات وبينما كان الوفد يلتقي مسؤولاً آخر تقدم إليه مساعده بورقة صغيرة فيها خبر أتت به وكالة «رويترز» يقول: «إن إسرائيل والولاياتالمتحدة تبديان قلقاً من التقارب السوري – العراقي». التفت المسؤول العراقي نحو أحد أعضاء القيادة السورية وانبرى مغمغماً: «غير مسموح ... غير مسموح». عاد الوفد السوري إلى دمشق ليلتقي الرئيس فجراً. وبعد سرد ما حدث، قال لهم: «انتهى مشروع الوحدة». وبعد أيام أعلن عن المؤامرة المزعومة التي قامت بها سورية ضد العراق لانقلاب عشية الوحدة! بأسىً استعدت الذكريات عشية الإعلان عن تشكيل مجلس استراتيجي على مستوى عالٍ بين سورية والعراق، وتساءلت: «هل أصبح مسموحاً في عراق ما تحت الاحتلال ما كان غير مسموح في عراق الاستقلال والبعث؟». منّيت نفسي بآمال لكن التخوفات ظلت تلازمني. تكرر المشهد ليتم الإعلان عن اضطلاع سوري بتفجيرات بغداد... المشهد نفسه تقريباً مع فارق الزمن والأشخاص، ولكن المشهد هو المشهد والمسرح هو المسرح. أي تكرار هذا وإخراج لا حرفيّة فيه: سورية تحاول القيام بانقلاب وهي على وشك الوحدة مع العراق، وسورية تفجر في العراق غداة التوقيع على اتفاقيات إحداها استراتيجية. أقولها بأسىً: «أي كوميديا مأسوية هذه. هل تكرر التاريخ؟ لا أريد أن أصدق. لكن الصورة موحية بالتكرار». بعد هذا السرد التاريخي – الروائي – الوجداني، نعود إلى السياسة ونحاول أن نتجلد ونستخدم العقل البارد كي نحلل وفقاً لتساؤلات هي التي ستجد إجابتها استرسالاً: - أي مصلحة لدمشق في أن تقوم (لو افترضنا أنها تفعل ذلك وهو أمر ممنوع من الصرف الاستخباراتي في السياسة السورية) بعمليات في العراق غداة الاتفاق مع العراق؟ - أي مصلحة لدمشق والعالم ينفتح عليها بافتعال مشكلة إقليمية تكون لها نتائج دولية؟ (عاقل يتكلم ومجنون يسمع). - أي ذكاء سياسي هذا الذي يفتعل مشكلة مع دمشق، فيما الولاياتالمتحدة تحتاج إلى العلاقة الإيجابية معها لاستراتيجية خروج (فك اشتباك) ولاستئناف عملية السلام؟ بمعنى آخر: من سيغطي هذه الأزمة دولياً ويدفعها نحو منتهاها؟ وهل سيسكت الأميركيون على هذه المهزلة وهي ضد مصلحتهم، إذا حللنا الأمر صورياً؟ - كيف يستقيم أن يُتهم بعث العراق و «القاعدة» في عملية واحدة معاً؟ - أي صور هذه لقواعد ومعسكرات مزعومة يمكن أن تكون تحت ناظر التصوير الفضائي من دون حدّ أدنى من التمويه. - كيف يمكن عاقلاً أن يقتنع بأن سورية تدير «القاعدة» على رغم أنها دولة علمانية، وتدرك جيداً أن اللعب بورقة «القاعدة» سينعكس عليها قبل غيرها، وهي تعرضت لما تعرضت له اخيراً من مواجهات، وهي هنا كمن يريد أن يجرب الألم بإدخال السكين في بطنه؟ أضف إلى أن سورية لم تذهب إلى هذا الخيار في أصعب لحظاتها السياسية مع الولاياتالمتحدة، فلماذا تذهب في هذا التوقيت الأفضل لها إقليمياً ودولياً؟ - والأهم من هذا من هو هذا الذكي الذي يتوهم أن العالم سيصدق هذا الزعم أو سيدعم التعامل معه ولو للحظة؟ ومن هذا الأكثر ذكاءً الذي يصدق أن استخدام الأداة السياسية نفسها لاتهام سورية والتي استخدمت لاتهامها ما بين عامي 2003-2006 يمكن استخدامها الآن؟ والأهم، من هذا الذي قال إن تدويل القضية سيجعل منها (حريري ثانية)؟ هنا بالذات التاريخ لا يتكرر. فلا التهمة هي التهمة ولا الجهة هي الجهة ولا التدويل هو التدويل. إنها دروس السياسة المُستفادة. التاريخ لا يتكرر. في المرة الأولى يأتي دراما... وفي المرة الثانية يأتي مهزلة. ألا يلاحظون أن هنالك صمتاً دولياً يرافق هذه الأزمة التي اعتبرتها الولاياتالمتحدة (شأناً داخلياً)؟ ثم ألا يعني هذا أن الأداة ليست هي الأداة وأن الزمان ليس هو الزمان واللغة ليست هي اللغة والجهة ليست هي الجهة؟ ثمة حَوَلٌ في هذا النوع من السياسة يذكّرنا بجورج لوكاش في كتابه «تحطيم العقل»، حيث إن السياق العقلاني تنبثق منه أحياناً لحظات غير عقلانية سرعان ما تذوي. ورحم الله من قال: «في هذا العالم المتقدم جداً... تنبع أشياء متأخرة جداً». المهم في الأمر أن دمشق التي ردت بقوة على الاتهام وسحبت سفيرها بالمعاملة بالمثل لا تريد التصعيد، لكنها أرادت أن توصل رسالة قوية بأن صدرها ضاق بالعبث السياسي، وأنها تعرف حجم قوتها الآن مثلما كانت تعرف وزنها وسرّها الشخصي في سنوات القحط الإقليمي ومواجهة البركان 2003-2006، ورسالة أخرى تقول إن لا عبث معها. ولهذا فهي تدير الأزمة بعقلانية وحزم وإيجابية. وهي تعرف أن للأزمة منتهى يجب أن تصل إليه... ورحم الله دولة عرفت قدر نفسها ... ولا تبالغ ولا تهن... (وكانت بين ذلك قواما). التساؤلات الأهم: إذا كان من غير المسموح تقارب سوري – عراقي استراتيجي لاعتبارات الجغرافيا الاستراتيجية لعمق سورية الاستراتيجي في الصراع العربي – الإسرائيلي، فهل يضطلع الأميركيون – فعلاً – بمثل هذا الموقف العراقي، ولو من بعد. ثم هل المطلوب تحجيم العلاقة السورية – العراقية تحت المظلة الأميركية، أم أن في أميركا اليوم أميركتين، الأولى تريد التهدئة وصولاً إلى حل برزمة متكاملة من استراتيجية خروج (فك اشتباك) إلى العملية السلمية، والثانية تمثلها فلول المحافظين الجدد ومجلس سياسات الدفاع وذراعه المتقدمة (شركة بلاك ووتر التي تم التجديد لها على رغم كل فضائحها قبل شهر من العمليات الأخيرة)، وتريد تعطيل الانسحاب الأميركي وبالتالي تعطيل العملية السلمية؟ ثم، ألا يجب التساؤل عن الدور الإسرائيلي في الاستفادة من تعطيل العلاقة العراقية – السورية ثم الأميركية – السورية لتخفيف الضغط عن حكومة نتانياهو بشأن عملية سلمية تبدأ بوقف الاستيطان ويجب أن تنتهي خلال سنتين إلى إنجاز على المسارات كافة؟ إذاً، السر الكامن لهذا التوجه العراقي الجديد هو في تعطيل التفاهم الإقليمي – الدولي. فهل تضطلع به الولاياتالمتحدة جزئياً أم جناح ما تبقى من المحافظين الجدد أم إسرائيل أم أي دول أخرى؟ إذا كانت الاجابات بالعقلانية السياسية، فالأزمة إلى حل. أما إذا كانت لا عقلانية وثمة خلط للأوراق، فأول المصابين عملية السلام ومشروع الرئيس الأميركي أوباما في المنطقة. * كاتب سوري. مدير مركز المعطيات والدراسات الاستراتيجية في دمشق