في الزمن الذي لحن فيه موتسارت، أوبرا "خطف في الس رايا"، كان ذلك النوع من العمل الموسيقي الساذج، طالما أن الجمهور إنما أتى هنا ليلهو ويضحك، مفضلاً أن تأتي الموسيقى على مزاجه، وأن تكون أقرب شيء إلى ما سبق أن عرفه من موسيقى. ف"خطف في السرايا" تنتمي من ناحية الاسلوب والشكل إلى "الأوبرا الهزلية"، بل أيضاً إلى "الأوبريت" أكثر من انتمائها إلى الأعمال الأوبرالية الكبيرة. غير أن موتسارت بعبقريته، وبانفتاحه على الحياة في ذلك الحين، خصوصاً أنه في العام الذي لحن فيه "خطف في السرايا" اي في العام 1782، كان قد توج بالزواج حكاية حبه من فاتنته كونستانس. ومن هنا لم يكن غريباً أن ينعكس ذلك الحب على عمله الجديد، وأن يطلق على الشخصية الأنثوية الرئيسية في هذا العمل، اسم حبيبته كونستانس. غير أن هذا كله لم يكن التجديد الأساسي في ذلك النوع من العمل، إذ أن موتسارت، من ناحية الموضوع، حرص هنا على أن يمضي في رسم صورة إنسانية خالصة، حتى لأغلظ القساة - مبدئياً - في المخيلة الشعبية الأوروبية: الباشا التركي. إذ، فيما كان الأوروبيون ينظرون إلى المسلمين والأتراك على أنهم قساة القلوب ووحوش من الأفضل للمرء ألا يقع تحت سيطرتهم أبداً، آثر موتسارت أن يقلب الصورة تماماً ليقدم، عبر شخصية الباشا، ما هو شديد القرب من شخصية صلاح الدين الأيوبي التي اتسمت لدى قطاعات عريضة من الجمهور الأوروبي، بأقصى درجات التسامح حتى مع الأعداء. واللافت أن رسم موتسارت لتلك الشخصية على هذا النحو في ذلك الحين، لم يثر أي احتجاج أو انتقاد. وواضح هنا أن درجة الإبداع الموسيقي التي لجأ إليها موتسارت من أجل إظهار عمله هذا على أكمل وجه، فعلت فعلها وهيمنت على وجدان المستمعين / المتفرجين وعلى عقولهم، ما جعل أي شيء آخر يبدو ثانوياً. كانت تلك المرة الأولى التي يعطى فيها لعمل أوبرالي خفيف وترفيهي، مستوى موسيقي يصل إلى درجة النبل الموسيقي، أي إلى ذلك المستوى الذي كان الموسيقيون يفضلون دائماً جعله من نصيب الأعمال التراجيدية الكبرى. ولقد كمنت المفاجأة الحقيقية، يومها، هنا تماماً. إذ عرف موتسارت كيف يقلب القواعد، كاتباً لأوبراه هذه موسيقى مدروسة تماماً ومتوازنة تماماً، من دون أن يترك للمصادفة أي مجال للتدخل. وهكذا أتت موسيقى "خطف في السرايا" شديدة التعقيد والتركيبية، مملوءة باللازمات الكونتربونتية التي تبدو في الوقت نفسه شديدة الأناقة عصية على التنفيذ. بل، كان هذا أيضاً أمراً نادراً في عالم ذلك النوع من الأوبرا، إذ أتت الموسيقى متناسبة كلياً مع المواقف المشهدية والشعر المكتوب - بالألمانية - وكان هذا بدوره تجديداً فائق الأهمية، فالأعمال من هذا النوع كانت تقدم في كل مكان بالإيطالية باعتبارها لغة المسرح والتهريج في مقابل جدية اللغة الألمانية، لغة التراجيديا. فما هو، بعد كل شيء موضوع هذا العمل الاستثنائي؟ إنه موضوع بسيط، نجده في الكثير من الحكايات الخرافية، وعُدنا ووجدناه من بعد "خطف في السرايا" في أعمال كثيرة، لا سيما منها تلك التي تدور من حول فانتازيا "الحريم" الشرقي. هنا في هذه الأوبرا، ذات الفصول الثلاثة، يطالعنا أول الأمر عند شاطئ مواجه لقصر الباشا التركي، الشاب بلمونت وهو يغني حنينه وبحثه عن خطيبته الفاتنة كونستانس، التي كانت وقعت أسيرة في يد الأتراك وها هي الآن نزيلة حريم ذلك الباشا القوي. ويتمكن بلمونت بفضل مساعدة خادمه برديّ الذي كان دخل في خدمة الباشا لكي يتمكن هو الآخر من رؤية ما حل بخطيبته بلوندين، التي كانت بدورها أسرت من الأتراك أنفسهم. يتمكن بلمونت إذاً من مخادعة أوسمين، حارس السرايا الرهيب ومالك بلوندين في الوقت الحاضر، ومن التسلل إلى حيث تمكن من مشاهدة حبيبته كونستانس. وهناك في الداخل يتبين لبلمونت كما لبرديّ، أن الأمور ليست مظلمة تماماً كما كان يخيل اليهما. وأنه لا يزال ثمة أمل كبير باستعادة الفتاتين. كيف؟ أولاً: لأن بلوندين ذات اللسان الطيب والسليط في الوقت نفسه تمكنت بكلامها الشعبي الحافل بالذكاء من السيطرة على الانكشاريين الذين كان مطلوباً منهم أن يسيطروا عليها. وبهذا كان في وسعها في كل لحظة أن تدافع عن نفسها إزاء تعنتهم. أما كونستانس فلسوف يتبين لها، ولخطيبها الملتاع، أنها إنما وقعت - لحسن حظها - بين يدي باشا رحيم ذي نزعة إنسانية. صحيح أن الباشا معجب بها، لكنه لا يريد إرغامها على ما لا ترغب هي فيه، لذلك يقرر وبكل نبل أن يصبر وينتظر حتى تقع هي في غرامه. لكنها، بالطبع، لن تقع في غرامه، بل إن برديّ يرتب محاولة فرار للأربعة معاً، سرعان ما تنكشف أمام ذهولهم ويقادون إلى حيث يجلس الباشا ليعرضوا أمامه حالتهم، ويكون الحكم له في نهاية الأمر. الباشا يبدو متفهماً، ولا يريد أبداً أن يحطم كبرياءه عبر حب يعرف الآن أنه من دون أمل. لذلك يساجل، الأربعة وهو ناو إطلاق سراحهم. غير أن الأمور سرعان ما تتعقد، حين يتبين أن بلمونت ليس في حقيقته سوى ابن اميرال مسيحي غربي، هو واحد من أشرس أعداء الباشا، بل كانت له اليد الطولى في دمار وخسران اصابا هذا الباشا قبل فترة. ويحار الباشا في امره لكنه ينطق بحكم الموت على الفتى. بيد أن كونستانس تعلن أمام ذهول الجميع أنها هي الأخرى تطلب الموت إلى جانب حبيبها. وحدها بلوندين، الفتاة الشعبية تبقى على شجاعتها، فيما أوسمين الرهيب يجلس في مشهد مريع وهو يتخيل قتل هؤلاء الغرباء وامتصاص دمهم. ولكن في النهاية يلتفت الباشا إلى بلمونت ويقول له بكل هدوء: "اذهب حراً طليقاً. خذ فتاتك كونستانس. وأبحر إلى وطنك. ثم قل لأبيك أنني كنت صاحب السلطة على حياتك وموتك، لكنني اطلقت سراحك، لكي أعلمه بأن أقصى درجات الرضى عن النفس يكمن في الإحسان إلى من أساء إليك، بدلاً من مراكمة الاطلال على الاطلال". وهكذا يتم العفو عن الأربعة ويرحلون وهم ينشدون أغنية نهائية مرحة، يغنيها معهم الجنود وقد تحولوا من حراس ومقاتلين قساة القلوب إلى فرقة كورس مسلية. تدخل كتابة هذه الأوبرا على هذا النحو الترفيهي المؤكد، إذاً، ضمن إطار المزاج الذي كان موتسارت عليه في ذلك الحين. وموتسارت 1756 - 1791 كان، حين لحن "خطف في السرايا" من نص للكاتب برتزنر عنوانه "بلمونت وكونستانس"، كان في السادسة والعشرين من عمره. لكنه كان اضحى "عجوزاً" بالنسبة إلى حجم موهبته، وبالنسبة إلى عمره القصير، إذ أنه مات بطريقة لا تزال تثير التساؤلات حتى يومنا هذا، بعد تسع سنوات فقط من تلحين "خطف في السرايا" التي كانت واحدة من أنجح أعماله حين قدمت ولاقاها الجمهور بإعجاب شديد. واليوم تعتبر "خطف في السرايا" من أفضل الأوبرات الهزلية "الخفيفة" في تاريخ هذا الفن، وهي تحتل في مسار موتسارت الموسيقي، الحافل بالسيمفونيات، وبالاوبرات خاصة، مكانة متميزة إلى جانب "دون جوان" و"كوزا فان توتي" و"الناي السحري".