فرضت مشكلة تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي من افريقيا إلى الاميركتين نفسها على المحافل الدولية خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي بحيث لا يكاد يُعقد الآن مؤتمر دولي عن موضوعات تتعلق بالإنسان وحقوقه ومقومات ثقافته إلا وتثار فيه مشكلة تجارة الرقيق التي استمرت لأربعة قرون على الأقل من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين، وتحاول الدول الغربية أن تفرض عليها الآن "منطق الصمت" - إن صح التعبير - مثلما فرضته خلال العقود الكثيرة الماضية، عسى أن يؤدي ذلك الصمت إلى نسيان واحدة من أكبر المآسي البشعة في تاريخ الإنسانية. وأفلح في إثارة هذا الموضوع على المستوى الدولي جهود بعض الدول الافريقية والمثقفين من أفارقة الشتات الذين يعيشون خصوصاً في اميركا الشمالية ومنطقة الكاريبي باعتبارهم ذرية العبيد الزنوج الذين جلبهم تجار الرقيق الأوروبيون من مواطنهم الأصلية في وسط وغرب القارة الافريقية. وشارك في عملية اقتناص الزنوج الأفارقة وتصديرهم من بعض موانئ خليج غانا تجار أوروبيون من البرتغال وهولندا والدنمارك وفرنسا وبريطانيا وبعض الجنسيات الأوروبية. ويقدر عدد هؤلاء العبيد الزنوج الذين وصلوا إلى الأميركتين ومنطقة الكاريبي، بما يتراوح بين عشرة ملايين واثني عشر مليون نسمة من كلا الجنسين ومن الأطفال، غير مئات الآلاف الذين ماتوا أثناء الرحلة الشاقة وسط أدغال افريقيا إلى محطات التصدير، غير الذين ماتوا أثناء الرحلة البحرية المرهقة في المحيط وأثناء عمليات التعذيب الوحشية التي كانوا يخضعون لها جانب من اسيادهم الملاك البيض. ويطالب أفارقة الشتات الآن، ليس فقط بالقضاء على بقايا مظاهر التفرقة العنصرية التي لا تزال تضع السود في الاميركتين في مكانة أدنى من مكانة البيض. وإنما يطالبون أيضاً بالاعتراف الدولي بجريمة الغرب ضد افريقيا وضرورة رد الاعتبار لتلك القارة وتعويضها عما فقدته من ابنائها وحرمانها من قدراتهم وإمكاناتهم الفيزيقية والذهنية واستفادة اميركا - على حساب افريقيا - بتلك القدرات التي أسهمت، بغير شك، في تحقيق ما وصلت إليه أميركا من نجاح وتقدم - على الأقل في بعض المجالات التي كان يضطلع فيها هؤلاء العبيد بدور رئيسي. ودفعت هذه المواقف الافريقية الجديدة منظمة اليونسكو إلى الاهتمام بالمشكلة والإعلان عما يعرف باسم "مشروع طريق الرقيق" لدراسة تاريخ هذه التجارة وما ترتب عليها من نتائج وخيمة بالنسبة إلى افريقيا والأفارقة. إلا أن اليونسكو ترى على الجانب الآخر أن نقل هذه الملايين العديدة من العبيد يمثل حالة خاصة من التقاء الشعوب والثقافات لا يمكن إغفالها، بل يجب إلقاء الضوء عليها لأنها كانت عاملاً فاعلاً في ظهور ذلك التنوع الثقافي الذي تتمتع به أميركا الآن والذي يعتبر في آخر الأمر إسهاماً في إثراء الثقافة الإنسانية عموماً، وهو الموضوع الذي تعطيه اليونسكو جانباً كبيراً من اهتمامها باعتبار أن تلاقي الشعوب وحوار الثقافات والحضارات هو خير وسيلة لإقرار السلام العالمي. وإذا كانت افريقيا تعرضت لكثير من المظالم والمتاعب، فالعبرة دائماً بالنتائج الأخيرة، وهذا منطق قد لا يقبله الكثيرون، ولكن اليونسكو تعمل على الترويج له بمختلف الوسائل والأساليب، لدرجة أننا نجد الآن أن هناك من ينظر إلى هذه التجارة في البشر على أنها، على رغم بشاعتها، مثال نموذجي وواضح وصريح لما يجب أن تكون عليه العولمة، من حيث حجم البشر الذين يدخلون أطرافاً فيها ومن حيث المساحة الجغرافية التي تغطيها ومن حيث الفترة الزمنية التي استغرقتها. وأطلقت اليونسكو "مشروع طريق الرقيق" في التسعينات من القرن الماضي أسوة بمشروعها "طريق الحرير" الذي كانت بدأته هو أيضاً تحت شعار طريق التبادل الحضاري بين الشرق والغرب. وأتيح لي أن أشارك في جانب من ذلك المشروع الحضاري الضخم وهو الطريق البوذي الذي يبدأ من نيبال مسقط رأس بوذا، ولكن البعثة لم تكمل مهمتها بسبب الأوضاع السياسية بين الهند وباكستان. وثمة فارق كبير على أية حال بين مضمون الطريقين، فطريق الحرير هو طريق التجارة المشروعة بين الشرق والغرب، وإن كان في الوقت ذاته طريق الجيوش المتحاربة، وكان التجار والجنود دائماً من أهم وسائل أو أدوات حمل ثقافات شعوبهم ونقلها إلى الشعوب الأخرى، ولكن المهم هو أن أطراف التبادل التجاري أو الصراع الحربي كانوا يتمتعون بحريتهم الشخصية وبآدميتهم ويقفون جميعاً على قدم المساواة حتى وإن وقع بعضهم في الأسر أثناء الحرب وخضعت المجتمعات المهزومة للحكم الأجنبي. أما طريق الرقيق فقد كان، كما يظهر من اسمه، طريق الاستعباد والاستبداد والمذلة والهوان واصطياد البشر مثلما تصطاد الحيوانات ومعاملتهم معاملة السلع التي يتم تصديرها إلى الأسواق الخارجية، ولذا فهو يعكس نظرة الاستعلاء من جانب الغرب والإنسان الأبيض إلى افريقيا وشعوبها السوداء. والنظرة التي يراد تسويقها الآن عن أن طريق الرقيق كان وسيلة - حتى ولو لم تكن مقصودة - لتلاقي الشعوب وتفاعل الحضارات والثقافات وأنه مثال جيد للعولمة التي يدعو الغرب إليها، هي محاولة للتهرب من المسؤولية الأخلاقية التي تدين الغرب، كما أنها تكشف اسلوب الغرب في التفكير وتبرير السلوك الشائن وتزيين الأمور للآخرين، من الأفارقة في هذه الحالة، من خلال محاولة اقناعهم بأن معاناة أسلافهم، بل ومعاناتهم هم أيضاً في الوقت الحالي، لم تذهب هباءً منثوراً مع الريح وإنما كان لها مردود ثقافي ينبغي الاعتزاز به. وبدأت فكرة مشروع "طريق الرقيق" من تاهيتي وشارك فيها عدد من الدول الأفريقية، وكان الهدف الأصلي هو إطلاع العالم على جرائم الغرب إزاء القارة الافريقية وشعوبها ومحاولة كسر طوق الصمت الذي فرضه الغرب خلال كل هذه الفترة الطويلة على أفعاله المنافية لمبادئ الإنسانية. ووافق المؤتمر العام لليونسكو في دورته السابعة والعشرين العام 1993 على تبني المشروع، وتم إعلانه رسمياً في أيلول سبتمبر 1994 أثناء انعقاد اللجنة الدولية العلمية في جمهورية بنين في غرب افريقيا باعتبارها أحد المراكز الرئيسية لتصدير العبيد إلى أميركا. ونشرت الوثائق الرسمية عن هذا الاجتماع في شكل كتاب اصدرته اليونسكو أولاً بالفرنسية العام 1998 ثم نشرت طبعته الإنكليزية منذ أسابيع قلائل تحت عنوان هوFrom Chains to Bonds: The Slava Trade Revisted. ويكشف هذا العنوان الروح التي تسيطر الآن على المشروع والرغبة في إبراز ما يعتبر جانباً إيجابياً لتلك التجارة في البشر وأن هذه التجارة ساعدت على رغم كل شيء على لقاء الثقافات بكل ما يحققه ذلك اللقاء من تفاهم بين الشعوب ما يساعد على إقرار السلام العالمي. ولذا تحرص اليونسكو في هذا المشروع على اتخاذ الوسائل الكفيلة بالمحافظة على التراث الثقافي المادي واللامادي من طريق إنشاء عدد من المتاحف الإثنوغرافية في المناطق التي تعرضت أكثر من غيرها للهجمات الشرسة لاصطياد العبيد وتصديرهم إلى الخارج، واعتبار هذه المناطق مراكز سياحية تجذب إليها السائحين من كل أنحاء العالم وبذلك تؤدي دورها في التعريف بثقافة القارة وتاريخها وتدعيم التبادل الثقافي والتفاهم بين الشعوب. كما تحرص اليونسكو أيضاً على تشجيع أفارقة الشتات أنفسهم على زيارة أوطان أسلافهم حتى تظل الثقافة الافريقية التقليدية حية في أذهانهم إلى جانب الثقافة المعاصرة التي تسود في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها الآن. ولقيت دعوة اليونسكو إلى الاهتمام بدراسة الرق والآثار الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تجمعت عن "طريق الرقيق الاطلنطي" على كل من افريقيا واميركا، استجابة واضحة من كثير من الهيئات العلمية والأكاديمية والبحثية في اميركا ذاتها، وعقدت فعلاً خلال السنوات القليلة الماضية مؤتمرات عدة وندوات حول هذا المشروع كان آخرها المؤتمر الذي عقدته جامعة رتغرز في نيوجيرسي في اليومين السادس عشر والسابع عشر من شباط فبراير الماضي حول "رد العدوان: الاستراتيجيات الافريقية ضد تجارة الرقيق" لإظهار أن القبائل الافريقية لم تكن تقف موقفاً سلبياً من هجمات تجار الرقيق وعملائهم وإنما كانت لها استراتيجيتها من أجل حماية أنفسهم، وتتضمن هذه الاستراتيجيات إقامة التحصينات القوية وإعادة تخطيط القرى، بل ونقل المساكن إلى مناطق غير معروفة للتجارة، بل وكثيراً ما كان الناس يلجأون إلى السحر لرد شرور هذه الهجمات. وهذه كلها أمور تؤلف جوانب مهمة من التراث الثقافي التقليدي في افريقيا. واتخذ بعض هذه المؤتمرات توصيات مهمة بتدريس تاريخ تجارة الرقيق عموماً والتجارة عبر الأطلنطي خصوصاً في كل مراحل التعليم وتبيين المظالم التي تعرض لها الأفارقة حتى تكون في ذلك عبرة للأجيال التالية وغرس مبادئ احترام البشر وثقافاتهم في النفوس والعقول. * انثروبولوجي مصري.