حاز القاصّ المصري الرائد يوسف الشاروني أخيراً جائزة الدولة التقديرية بعد طول تجاهل. من هو هذا القاصّ الرائد؟ ولماذا تأخر تكريسه رسمياً؟ هل تغفو اسماء المبدعين في ذاكرة الأدب، وهي تستقر بعيداً في وجدان القراء قبل أن تصحو فجأة على وقع حضورها الجارف إلى منطقة الضوء اللافت، فينكر الناس أنهم نسوها مع أنهم يستمتعون بتذكرها المستحق؟ لعل اسم يوسف الشاروني الذي يرف على الذاكرة اليوم حاملاً عطر الجيل العظيم أن يصيب المتابعين بالدهشة: أو لم يحصل على جائزة الدولة التقديرية من قبل؟ ولماذا تأخرت في الوصول إليه طوال هذه العقود؟ وأحسب أن غيابه الحسّي عن مصر في شبه هجرة طوعية سنوات الجزر الثقافي في السبعينات والثمانينات قد طوى مرحلة من الحضور من دون أن تكون متوجة بالتقدير الضروري كان عليه أن يكفّر عنها بسنوات أخرى من الحضور المادي والفكري والإبداعي المكثف حتى يطفو مرة أخرى على سطح الذواكر السريعة النسيان، ويمكن تدارك ما فات، من دون أن يغيّر هذا من طبيعة الإحساس بالوصول المتأخر الى نقطة يبدو أنه قد تجاوزها منذ فترة طويلة. إنه ينتمي إلى الجيل المؤسس لفن القصة في الوطن العربي بعد بداياته التي استغرقت نصف قرن، الجيل الذي كانت رؤوسه تتساوى في الخمسينات ما بين نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وأربعة أدباء يحملون اسم يوسف، أجهرهم يوسف السباعي صوت المؤسسة العسكرية والنفوذ الرسمي الذي كان يلوذ به يوسف الشاروني، ثم يوسف جوهر الذي حافظ على حضوره المقطر في الأدب والصحافة والسينما، ثم الثورجي يوسف إدريس الذي كان عاصفة إبداعية عارمة تنافس أطول القامات مع أنه آخر العنقود. كان هذا الجيل يتصور أنه مؤسس فن الرواية الحقيقي، ومن قبله مجرد تمهيد وتهيئة للقراء، طه حسين وهيكل والمازني وتيمور كانوا في تقدير إحسان عبدالقدوس مثلاً - كما حكى لي في أمسية بعيدة جمعتنا في المكسيك خلال السبعينات - مجرد "أساتذة عربي"، ليست لهم خبرة ساخنة مباشرة بالحياة والفن والسرد، كتاباتهم بليغة، لكنها لا تمثل الانفجار الروائي والقصصي الذي أحدثه جيلهم وتهتك به قوانين الكتابة في التجربة واللغة والتقنية، وقد كانت كتابة يوسف الشاروني بينهم ذات مذاق خاص، لأنه أكثرهم طليعية واستيعاباً لتيارات الرواية العالمية، وأشدهم معرفة بأساليب القص الحديث وقدرة على تجريبها بتلقائية شديدة لخلق عوالم جديدة لا عهد للأدب العربي بها، كان يريد أن يقفز بسرعة فوق المنطقة الواقعية بمهارة الفنان التشكيلي المدرب منذ "العشاق الخمسة" التي تجمع في انخطافة واحدة بين الأثر التشكيلي لحركة جيل والأداء التجريبي للشكل المتطور، كان يقرأ كافكا وجويس ويحدث عنهما نجيب محفوظ الذي يظل عاكفاً على مشروعه الجبار في تأسيس الواقعية العربية قبل تجاوزها الخاطف، لكن يوسف الشاروني كان يعبر عن "اختلافه" بطريقة أخرى، تركز على القصة القصيرة، وتمعن في مطارحة الفكر الأدبي على مستويات إبداعية ونقدية وتاريخية متعددة، تسهم في إضاءة الأدب وتحريك الحياة الثقافية" فقد أصدر خلال قرابة نصف قرن عشر مجموعات قصصية قصيرة وأكثر من عشرين دراسة أدبية ونقدية إضافة إلى بعض الترجمات المسرحية، لكن الطريف في تجربة يوسف الشاروني الأدبية أنه الوحيد من بين أبناء جيله الذي أقام سنوات عدة خارج مصر، في سلطنة عمان على وجه التحديد، وكتب ستة كتب عن الأدب والثقافة فيها وحقق بعض المخطوطات التراثية عن عجائب الهند والصين وأخبارهما، فاتسع أفقه بمعايشة القارئ العربي والخروج من الشرنقة المصرية ونسج علاقات حميمة مع الوعي القومي الذي ظل طيفه شاحباً في كتابة زملائه المحصورين في دوائرهم المحدودة. ومن المفارقات الموجعة أنه يمارس تجربة الاحتكاك القومي إبان انحسارها على المستوى السياسي لتترسب لديه فيها آثارها الفكرية واللغوية والإنسانية، ولتلفته بقوة الى البعد التراثي الذي لم يكن يخطر على بال أحد من رفاقه الأولين، لقد تعزز اختلاف يوسف الشاروني واكتسب طابعاً عروبياً تراثياً متفرداً. وظل يوسف الشاروني في كتابته أميناًَ لاستراتيجيته الليبرالية المتحررة التي تستصفي من الثقافة الغربية أضواء ما فيها لتدين بروح التطور ومنظوره التقدمي من دون أن تقع في فورة الفكر اليساري التي صبغت بعض أبناء جيله مثل عبدالرحمن الشرقاوي وعبدالرحمن الخميسي ويوسف إدريس وغيرهم، وكذلك حافظ على المسافة الضرورية من الممارسة السياسية والإعلامية فلم يتحول إلى كاتب صحافي تابع للسلطة ومتقلب بحركاتها، حتى لا يضطر إلى مناوأتها مثلما كان يفعل إحسان عبدالقدوس وفتحي غانم في مراحل كثيرة. آثر الاستقلال والكتابة الأدبية والنشر المنظم من دون انقطاع، حتى لا يكاد يضاهيه من المبدعين الذين حاولوا إقامة تاريخ أدبي لفنونهم سوى يحيى حقي، وهو يشترك معه في بعض القواسم الأساسية الأخرى سوى الجمع بين الفكر الإبداعي والتحليلي، مثل علاقته الحميمة بطرفي المعادلة التراثية والطليعية، وحدبه الدائم على أجيال المبدعين اللاحقين، وإخلاصه الصادق لفن الكتابة الأدبية، وعنايته الرائعة بالأسلوب العفوي الجميل، ويظل يوسف الشاروني في خارطة من بقي من أبناء جيله، وفي ذاكرة الأدب العربي، نموذجاً لتناغم المشروع الإبداعي، واتساق الأبعاد المحتدمة في أطرافه تحقيقاً لمزاج متزن ومضيء وموصول بروح الثقافة الحية في أبهى تجلياتها المعاصرة. * ناقد وأكاديمي مصري.