"أرامكو" ضمن أكثر 100 شركة تأثيراً في العالم    رصد 8.9 ألف إعلان عقاري مخالف بمايو    الإبراهيم يبحث بإيطاليا فرص الاستثمار بالمملكة    "كروم" يتيح التصفح بطريقة صورة داخل صورة    تدريب 45 شاباً وفتاة على الحِرَف التراثية بالقطيف    ضبط مقيمين من الجنسية المصرية بمكة لترويجهما حملة حج وهمية بغرض النصب والاحتيال    اختتام ناجح للمعرض السعودي الدولي لمستلزمات الإعاقة والتأهيل 2024    أنشيلوتي: كورتوا سيشارك أساسيا مع ريال مدريد في نهائي دوري أبطال أوروبا    ثانوية «ابن حزم» تحتفل بخريجيها    ترمب يصف محاكمته الجنائية في نيويورك بأنها «غير منصفة للغاية»    ضبط مواطنين في حائل لترويجهما مادة الحشيش المخدر وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    «الربيعة» يدعو إلى تعزيز المسؤولية الدولية لإزالة الألغام حول العالم    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم بزيارة تفقدية    شولتس: إصابات "بالغة" إثر هجوم "مروع" بالسكين في ألمانيا    أمر ملكي بالتمديد للدكتور السجان مديراً عاماً لمعهد الإدارة العامة لمدة 4 سنوات    مفاوضات غزة «متعثرة».. خلافات بين إسرائيل وحماس حول وقف الحرب    كذب مزاعم الحوثيين ..مسؤول أمريكي: لا صحة لاستهداف حاملة الطائرات «آيزنهاور»    الذهب يستقر قبل بيانات التضخم الأمريكية    الهلال يبحث عن الثلاثية على حساب النصر    مورينيو يختار فريقه الجديد    حجاج مبادرة "طريق مكة" بمطار سوكارنو هاتا الدولي بجاكرتا    «الجمارك»: إحباط تهريب 6.51 مليون حبة كبتاغون في منفذ البطحاء    وكيل إمارة حائل يرأس اجتماع متابعة مكافحة سوسة النخيل الحمراء    فاتسكه: دورتموند قادر على تحقيق شيء استثنائي أمام الريال    خلافات أمريكية - صينية حول تايوان    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والنبوي    فيصل بن فرحان يلتقي وزير الخارجية الصيني و وزير الخارجية العراق    رياح مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    إسلامية جازان تقيم ٦١٠ مناشط وبرنامج دعوية خلال أيام الحج    5 مبتعثات يتميّزن علمياً بجامعات النخبة    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    ترقية 1699 فرداً من منسوبي "الجوازات"    "سامسونغ" تستعد لطرح أول خاتم ذكي    المملكة ضيف شرف معرض بكين للكتاب    توجيه أئمة الحرمين بتقليل التلاوة ب"الحج"    أطعمة تساعدك على تأخير شيخوخة الدماغ    الرياضة المسائية أفضل صحياً لمرضى للسمنة    البنك الأهلي واتحاد «القدم» يجددان الرعاية الرسمية للكرة السعودية    الغامدي يكشف ل«عكاظ» أسرار تفوق الهلال والنصر    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    جدة تتزين لأغلى الكؤوس    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الخريف لمبتعثي هولندا: تنمية القدرات البشرية لمواكبة وظائف المستقبل    «الدراسات الأدبية» من التقويم المستمر إلى الاختبار النهائي !    كيف تصبح زراعة الشوكولاتة داعمة للاستدامة ؟    5 أطعمة غنية بالكربوهيدرات    المملكة تستضيف الاجتماع السنوي ال13 لمجلس البحوث العالمي العام القادم    المعنى في «بطن» الكاتب !    كيف نحقق السعادة ؟    العِلْمُ ينقض مُسلّمات    الحوكمة والنزاهة.. أسلوب حياة    تشجيع المتضررين لرفع قضايا ضد الشركات العالمية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    عبدالعزيز بن سعود يطلع على عدد من المبادرات التنموية التي تشرف على تنفيذها إمارة عسير    أمير القصيم يكرم 7 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز    حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة تبوك    تكريم الفائزين بجائزة الباحة للإبداع والتميز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مروان خريسات "مهندس" قنابل الطائرات ... عميل للإستخبارات الأردنية ."أوراق الخريف": دهمت الشرطة شقة "القيادة العامة" فوجدت مصنع قنابل 2
نشر في الحياة يوم 12 - 06 - 2001

} بعدما عالجت الحلقة السابقة تهديد ايران بالثأر من أميركا لإسقاطها طائرة الحجاج و"تحذير هلسنكي"، تتناول حلقة اليوم من كتاب "تكتم تمليه المصلحة: لوكربي الفضيحة الخفية" عملية "أوراق الخريف" ضد "القيادة العامة" في المانيا و"أبطال" هذه الخلية الفلسطينية وارتباطات بعضهم بأجهزة أمنية عربية.
ايران و"الجبهة الشعبية - القيادة العامة" ومضيفوها السوريون كانوا، لسبب وجيه، المشتبه بهم الرئيسيون في عملية لوكربي. فقد برزت بعد أيام على اسقاط البارجة الأميركية فينسينس طائرة الركاب الايرانية الرحلة 655، المؤشرات الأولى الى ضربة مضادة محتملة. فقد علمت الاستخبارات الأميركية ان أحمد جبريل، زعيم "الجبهة الشعبية - القيادة العامة"، التقى مسؤولين حكوميين في طهران. وأكدت "سي آي أي" لاحقاً أنه عرض خدماته للانتقام لطائرة الركاب الايرانية.
في 21 شباط فبراير 1970 فجرت "الجبهة الشعبية - القيادة العامة" طائرتي ركاب أوروبيتين متجهتين الى اسرائيل: الأولى كانت تابعة لخطوط الطيران النمسوية وانطلقت من فرانكفورت الى فيينا. وعندما وصلت الى ارتفاع عشرة آلاف قدم انفجرت القنبلة في مقصورة الشحن فيها محدثة فجوة سعتها قدمان. الا ان القبطان تمكن من السيطرة على الطائرة والعودة الى مطار فرانكفورت حيث قام بهبوط اضطراري، ولم يصب أحد من الركاب بسوء. الا ان الحظ لم يسعف ركاب طائرة الخطوط الجوية السويسرية - الرحلة 330 من زوريخ الى تل أبيب. إذ وضعت القنبلة أيضاً في مقصورة الشحن، لكنها لم تنفجر إلا على ارتفاع 14 ألف قدم. وبدا أولاً ان القبطان استطاع السيطرة على الوضع، لكن الاصابة كانت جسيمة، وسقطت الطائرة في غابة، مما أدى الى مقتل 47 شخصاً، هم كل الركاب والطاقم.
في آب أغسطس 1972 عادت المجموعة لاستهداف الرحلات المدنية - هذه المرة الطائرة التابعة للخطوط الاسرائيلية "العال" التي كانت في طريقها من روما الى تل أبيب وعلىها 140 شخصا. هذه المرة انفجرت القنبلة عندما وصلت الطائرة الى ارتفاع 15 ألف قدم، لكن الطيار تمكن من العودة الى روما ولم تقع خسائر. وبينت التحقيقات أن الصاعق كان في جهاز تسجيل حملته شابتان بريطانيتان من دون ان تعرفا، وقالتا للشرطة انهما تلقتا الجهاز هدية من رجلين عربيين صادقاهما في روما.
اكتشف المحققون في التفجيرين الأبكر أن القنبلتين كانتا في جهازي راديو ترانزستور، وأن القنابل في الحالات الثلاث، كما يبدو، انفجرت بصاعق يعمل متأثراً بالضغط الجوي، أي بانخفاض الضغط مترافقاً مع وصول الطائرة الى ارتفاع معين. الميزة هنا، مقارنة بالصواعق الزمنية، هي تجنب الانفجار عندما تكون الطائرة على الأرض في حال تأخير مفاجئ للرحلة. هذه المفجرات التي مثلت تقدماً في الارهاب العالي التقنية، كانت من صنع مراون خريسات، الناشط الشاب في "الجبهة الشعبية - القيادة العامة". وعندما اعتقلت الشرطة الايطالية العربيين اللذين اعطيا الجهاز المفخخ للشابتين البريطانيتين في روما اعترفا بأن خريسات سلمهما الجهاز في يوغوسلافيا. مع ذلك، وعلى رغم أدلة اضافية دامغة، بقي هذا المهندس البارع التابع لجبريل طليقاً. والظاهر انه أحال نفسه على التقاعد خلال السنين ال16 التالية، اذ يعيش بعيداً عن الأضواء في عمّان ويعمل في اصلاح اجهزة التلفزيون.
أثناء ذلك استمر أحمد جبريل المهندس العسكري وزعيم خريسات سابقاً، على ميله الى الابتكار التكنولوجي. فقد قام عنصران من تنظيمه في تشرين الثاني نوفمبر 1987 بعملية تعتبر من بين الأجرأ، عندما استعملا أجنحة التحليق الشراعي المزودة محركات لعبور الحدود بين لبنان واسرائيل. الهدف، هذه المرة أيضاً، كان القاعدة العسكرية الاسرائيلية قرب كريات شمونة. وحمل العنصران اجهزة ارسال ونواظير ليلية وقنابل يدوية ورشاشات عليها كواتم الصوت. وتمكنا بفضل عنصر المفاجأة من قتل ستة عسكريين اسرائيليين قبل ان يقتل الاسرائيليون أحدهما فيما قتل الآخر عندما هوت الطائرة الشراعية الى الأرض.
وكان مسؤولو الأمن الاسرائيليون في مطار هيثرو أحبطوا السنة السابقة لذلك هجوماً يستعيد في شكل مخيف التفجيرات الجوية التي قامت بها "الجبهة". ففي 17 نيسان ابريل أوقفت الشابة الأرلندية الحامل آن ماري مورفي عند حاجز "العال" لدخول المسافرين بعدما عثر المسؤولون على قنبلة في حقيبتها، ولم تقل دهشتها عن الآخرين. وأبلغت مسؤولي الأمن ان خطيبها الأردني نزار هنداوي اعطاها الحقيبة، وانه طلب اليها أخذها الى اسرائيل، وأنه سيتبعها الى هناك خلال أيام. واتضح بعد ذلك ان هنداوي كان يخضع مباشرة لأوامر الاستخبارات السورية، وكان المفترض ان يسافر الى دمشق متزامنا مع الموعد المحدد لانفجار طائرة "العال". وعندما عرف مسؤولوه السوريون باكتشاف القنبلة أمروه بعدم التوجه الى دمشق واصطحبوه الى السفارة السورية. ورتب المسؤولون له مكانا آمناً وأوراق هوية جديدة. إلا انه شك في ان السوريين قد يقتلونه لتغطية تورطهم، وهرب في اليوم التالي وسلم نفسه الى الشرطة.
وزعمت جهات استخباراتية غربية في عدد من التقارير، ولكن دون براهين، ان هنداوي ينتمي الى تنظيم "أبو نضال". فيما لمح آخرون الى ان العملية برمتها كانت من تدبير جهاز "موساد" الذي هدف الى تلطيخ سمعة سورية عن طريق استعمال عملاء مزدوجين. وأياً كانت الحقيقة فهناك أدلة ظرفية مقنعة على تورط "الجبهة الشعبية - القيادة العامة"، من بينها سجل الجبهة في التفجيرات الجوية، وباستعمال شابات أوروبيات لهذا الغرض.
في 25 تشرين الأول اكتوبر 1986، بعد ستة أشهر على اعتقال هنداوي، حصلت صحيفة "تايمز" على رسالة الى أخيه عوني حاول تهريبها من السجن. جاء في الرسالة: "اذهب الى دمشق وتحادث مع الأخ أبو احمد - هيثم عن التالي: أحمد جبريل يحتفظ بأسيرين اسرائيليين. هذا ما أكده لهيثم. ثاتشر تزور اسرائيل الأحد المقبل. انه يحتفظ بأسيرين اسرائيليين. أكدا ذلك الى "أبو" أيضاً. يجب تنظيم تبادل اسرى وأن يشمل أخي... عند الضرورة يمكن القيام بهذا اثناء زيارة ثاتشر. قل لهيثم أن يشمل التبادل، اذا كان ذلك ضرورياً، بعض الاجانب من بيروت".
رغم الروابط الوثيقة معها لم تكن سورية الراعي الوحيد ل"الجبهة". فقد قالت تقارير ان الجبهة تسلمت أواسط الثمانينات ما بين 20 - 25 مليون دولار سنويا من حكومة العقيد معمر القذافي في ليبيا وذلك، حسب زعم المصادر، في مقابل مساعدة قوات واستخبارات جبريل لليبيا في حربها على جارتها الجنوبية تشاد. لكن الثقة بالتمويل الليبي تضاءلت باضطراد مع اقتراب 1988. فقد قادت الولايات المتحدة منذ غاراتها على طرابلس وبنغازي في نيسان 1986 حصاراً اقتصادياً على ليبيا كان القذافي متلهفاً للافلات منه. وكان يدرك، على رغم عدائه الخطابي الحاد للغرب، أن عليه الابتعاد عن تنظيمات مثل "الجبهة الشعبية - القيادة العامة". ونقلت تقارير انه توقف عن تمويلها، وان تأييده لاعلان عرفات في تشرين الثاني 1988 التخلي عن العنف ضاعف من البعد بينه وبين جبريل.
لكن الحليف الأهم بكثير لجبريل كان ايران. وعندما اشتبكت ايران في الحرب مع العراق في 1980 وقف معظم العرب الى جانب اخوتهم في العراق، ومن ضمنهم منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تتسلم دعماً مالياً من بغداد. الا ان سورية، تمشياً مع عدائها التاريخي للعراق، شذت عن القاعدة واقامت علاقات قوية مع ايران، وحذت حذوها المنظمات الفلسطينية الخاضعة لسيطرتها، خصوصا "الجبهة الشعبية - القيادة العامة".
وكان جبريل أعلن بعد وقت قصير على الثورة الايرانية: "نحن على اتصال مع الناشطين الايرانيين منذ 1970. لقد دربنا العشرات منهم ووفرنا لهم السلاح والخبرة". على هذه الخلفية كان متوقعاً أن تستمر "الجبهة" خلال السنين المبكرة من الثمانينات في تنمية الاتصالات مع "الحرس الثوري" الايراني، وهو ما أدى لاحقاً الى اقامة علاقات وثيقة مع "حزب الله" اللبناني، الحركة الاسلامية الراديكالية الجديدة التي حظيت برعاية سورية وايران.
تقول تقارير إن التحالف الاستراتيجي بين المنظمات الفلسطينية التي يساندها السوريون، والشيعية التي تؤيدها ايران، أدى في النهاية الى تشكيل تحالف من بين اعضائه "الجبهة الشعبية - القيادة العامة" و"حزب الله" ومنظمة "أبو نضال". وتعهد التحالف شن الحرب على اسرائيل والغرب ودول عربية. ووعدت كل من سورية وايران بتقديم كل دعم ممكن إلى التحالف الذي زعم بعض المصادر انه تأطر في معاهدة تم التوقيع عليها في فندق "كارلتون" في بيروت في 20 كانون الأول ديسمبر 1988، أي قبل يوم من انفجار طائرة "بان آم" في سماء لوكربي.
كان دافع جبريل الى التقارب مع الاسلام الراديكالي الحاجة المستمرة الى دعم مالي بمقدار ما كان الحاجة الى اقامة التحالفات الاستراتيجية. ذلك ان "الجبهة"، خلافا لمنظمة التحرير الفلسطينية، لم تملك استثمارات واسعة توفر لها قاعدة مالية متينة، بل اعتمدت على معونات من مختلف الحكومات. وقالت تقارير ان الحاجة المالية كانت ملحة بحلول تموز يوليو 1988، بعد تضاؤل الدعم الليبي، وربما أيضاً لاستمرار آثار الخفض الحاد لدعم سورية للجبهة من 1986 الى 1987، الذي فرضه تردي الاقتصاد بفعل العقوبات الاقتصادية على دمشق بعد محاولة الهنداوي نسف رحلة طائرة "العال" في مطار هيثرو.
ولا بد أن جبريل كان يعرف رغبة حكومة ايران في الانتقام لاسقاط طائرة الركاب الايرانية، وحاجتها الى التكتم التي تدفعها الى ايجاد ارهابيين يقومون بهذه المهمة نيابة عنها. كما لا بد انه أدرك ان صفقة كهذه ستكون ثمينة جداً من الناحية المالية. في المقابل فإن علاقاته الوثيقة مع ايران، اضافة الى المهارة والخبرة الطويلة لدى جبهته في تفجير الطائرات، جعلته المرشح الأفضل للفوز بالصفقة.
تبلغت الاستخبارات الأميركية عن تحركات جبريل من طريق جهاز الاستخبارات الاسرائيلي "موساد" الذي كانت له اكثر من غيره دوافع لرصد تحركاته. وزعمت تقارير أن جهاز "موساد" بعد وقت قصير على اسقاط الطائرة الايرانية اعترض عدداً من الاتصالات بين مقر جبريل في دمشق وثكنة الشيخ عبدالله في البقاع، المقر الرئيسي ل"الحرس الثوري" في لبنان. وبدا انه كان يطلب بالحاح ترتيب لقاء مع متشددين ايرانيين، وتوجه بعد اسبوع الى طهران. والظاهر ان الاستخبارات الاسرائيلية والأميركية وغيرها من الاستخبارات الأوروبية خلال الأشهر القليلة التالية راقبت بدقة نشاطات "الجبهة الشعبية - القيادة العامة". وكشفت مصادر في الاستخبارات الأميركية أن اللقاء الأول في طهران كان مقدمة لعدد من الاجتماعات اللاحقة في طهران وبيروت والبقاع. وادعت المصادر أن وكالة الاستخبارات الوطنية الأميركية اعترضت محادثة هاتفية على خط غير مؤمّن بين جبريل ووزير الداخلية الايراني علي أكبر محتشمي، ذكر فيها جبريل في شكل غير مباشر عدداً من الأهداف الأميركية المحتملة في أوروبا التي يمكن مجموعته مهاجمتها في مقابل ثمن مناسب.
كان بين المشاركين في المحادثات مع ايران حافظ قاسم دلقموني الذي اعتبر اليد اليمنى لجبريل. ولد دلقموني في فلسطين في 1945، وكان عضواً في "الجبهة الشعبية - القيادة العامة" منذ تأسيسها أواخر الستينات. وأصيب ببتر في قدمه اليمنى أثناء هجوم على خط كهرباء في شمال اسرائيل عندما انفجرت قنبلة قبل التوقيت المحدد. وكان اثناء المحادثات مع ايران مسؤول عمليات الجبهة في أوروبا، وفي كانون الثاني يناير 1988 تطلب عمله السكن في بلدة نويس الألمانية، على الطرف الغربي من حوض نهر الرور الصناعي الضخم ومركزه دوسلدورف. وسكن هناك في شقة في الرقم 16 ازارشتراسه يملكها زوج اخته هاشم عباسي الذي عمل بقالاً في البلدة. وكانت الاستخبارات الألمانية على علم بوجوده، لكنها اعتقدت بأن مهمته اقتصرت على شراء السلاح. وهناك ظنون عن اتفاق الألمان مع سورية على عدم التعرض للفلسطينيين المشتبه بهم طالما لم تكن هناك هجمات ارهابية في المانيا. وسواء صح ذلك أم لا فالواقع ان الألمان لم يبدوا أول الأمر قلقاً من وجود دلقموني ولم يراقبوه إلا في شكل متقطع.
لكن "الموساد" كانت اكثر احترازاً بكثير. فقد حذرت الشرطة الاتحادية الألمانية في 2 شباط فبراير 1988 من أن "القيادة العامة" قامت بتدريبات على نسف قطارات عسكرية في المانيا. وبالفعل انفجرت قنبلة على السكة الحديد في هيديمندن في 26 نيسان اثناء مرور قطار عسكري أميركي. ولم تقع اصابات، لكن الحادث أثار تساؤلات كبيرة عن موقف السلطات الألمانية من "القيادة العامة". والمذهل ان ذلك كان ثاني هجوم يتعرض له قطار عسكري أميركي في هيديمندن خلال أقل من سنة. ففي آب أغسطس السابق نجا عسكريون اميركيون كانوا على قطار من هجوم مشابه. ولم يعتقل أحد في الحادثين وقتها. واذ شدد الألمان مراقبتهم لدلقموني، فإن اتهامه ثم تجريمه في التفجيرين لم يتما إلا بعد زمن. خلال ذلك تمكن من التحرك من دون عائق ستة شهور إضافية.
اتضح لاحقاً ان تلك الشهور الستة كانت مليئة بنشاط يفوق المعتاد. ففي تموز، بعد اتصالات جبريل الأولية بحكومة ايران، حذرت الاستخبارات الخارجية الألمانية بي ان دي الشرطة الفيديرالية من أن "كوماندوس مشتركاً من القيادة العامة وحزب الله" قد يكون على وشك الهجوم على منشآت أميركية في ألمانيا. والأرجح ان المعلومات جاءت من "موساد" الذي عاد الشهر التالي لتحذير الألمان من هجوم محتمل تقوم به "القيادة العامة" على فريق كرة يد اسرائيلي كان يزور ألمانيا. ولم يقع الهجوم، ولكن اتضح بمرور الأسابيع أن عملية رئيسية كانت قيد التحضير.
في أيلول، بعد اكمال الصفقة بين أحمد جبريل والحكومة الايرانية، ذهب دلقموني الى مدينة كروشيفاتش اليوغوسلافية، حيث كان للجبهة مقر آمن تستعمله لخزن السلاح. وعاد الى ألمانيا في الخامس من تشرين الأول الى شقة زوج اخته في 16 ازارشتراسه. وتزامن ذلك مع قرار الاستخبارات الألمانية التحرك بجد بناء على التحذيرات المتواترة حول الجبهة وحلفائها. وفي كارلزروهه في أوائل تشرين الأول التقى مانفريد كلينك، وهو واحد من أرفع ضباط مكافحة الارهاب، المدعي العام الفيديرالي المسؤول عن العمليات الرئيسية في هذا المجال، واتفقا على اطلاق عملية مراقبة كبرى تحت اسم "أوراق الخريف" تنفذ على مدار الساعة وتشمل 16 مستهدفاً في ست مدن.
وبالطبع كان الهدف الأهم للمراقبة تلك الشقة في 16 ازارشتراسه. ورصدت الاستخبارات خلال أيام توافد الزوار على المسكن. أول هؤلاء كان أحمد، شقيق هاشم عباسي الأصغر الذي جاء من وطنه الثاني السويد. وبقي احمد ملازماً لدلقموني بضعة ايام، وبدا أنه يعمل مترجماً له. وذهب في السابع من تشرين الأول الى برلين، ثم غادرها بعد يومين الى فرانكفورت. وفي 13 من الشهر نفسه أو ما يقرب منه شوهدت سيارة "فولفو" بيضاء برقم سويدي أمام الشقة يقودها شخص عربي الأصل. ونقل السائق، بمساعدة عربيين آخرين مجهولي الهوية، عدداً من الرزم من المبنى وإليه. وغادر الثلاثة بالسيارة نفسها في اليوم التالي.
لكن وصول عربي آخر الى سكن دلقموني الموقت في 13 من الشهر نفسه سرعان ما غطى على الاهتمام بالرجال الثلاثة. وكان هذا وصل وزوجته باكراً في ذلك اليوم الى مطار فرانكفورت قادماً من عمّان. واذ لم تتعرف الاستخبارات الألمانية إليه فوراً فلا شك في انها عرفته بعد وقت قصير، لأنه لم يكن سوى مروان خريسات، صانع قنابل الطائرات الرئيسي لدى الجبهة منذ أوائل السبعينات. واعطى لقاؤه المفاجئ مع الرجل الذي اختاره جبريل للمساعدة في التفاوض مع الايرانيين على الهجوم الانتقامي مؤشراً مخيفاً الى هجوم محتمل قريب.
في 15 و16 من الشهر لاحقت الشرطة الألمانية دلقموني بحذر عندما ذهب بالسيارة لزيارة عدد من معارفه في مدن الى الجنوب من نويس. وذكر تقرير الاستخبارات عن الملاحقة ان بين الذين التقاهم كان مارتن خضورة في المبنى الرقم 68 في بيرنادوتشتراسه في فرانكفورت، وهو فلسطيني اسمه الأصلي محمود خضورة، وغيّره بعدما حصل على الجنسية الألمانية، وسبق للشرطة ربطه بهجوم ارهابي فاشل في 1983. وقويت شكوكهم عندما اعتقلت السلطات في لندن في آب 1986 شخصين يشتبه في انتمائهما الى "القيادة العامة" ووجدت لديهما اسمه ورقم هاتفه.
بعد زيارة دلقموني بوقت قصير ذهب خضورة الى مدينة ماريبور اليوغوسلافية، حيث قال تقرير انه التقى بلال، شقيق دلقموني. وجاء في تقرير الاستخبارات عن تتبع تحركات دلقموني انه بعد لقاء خضورة في 15 أو 16 تشرين الأول زار ياسم كام - نقشة Yasim Kam- Nakche، المواطن الألماني المولود في سورية وعمره 59 سنة ويسكن في لامبزهايم وبورشتادت القريبتين من مانهايم. وليس في التقارير الا تفاصيل قليلة عن كام - نقشة، سوى انه قدّم في كانون الثاني يناير 1985 معلومات الى شخص يعمل في وكالة الانباء الليبية عن مجزرتين في مطاري فيينا وروما قامت بهما الشهر نفسه مجموعة "أبو نضال".
في 16 تشرين الثاني زار دلقموني برفقة كام - نقشة الفلسطيني احمد قبلان Kaplan في شقته في 16 هاوبتشتراسه في هوكينهايم. ولاحظ فريق الرصد أن الاثنين لدى وصولهما "حمّلا سيارة دلقموني اكياس بلاستيك وعلب كرتون". وكان في واحد من الأكياس، كما جاء في التقرير، "مادة مجهولة بنّية اللون".
لا بد ان دلقموني عاد الى نويس في اليوم نفسه، لأن الاستخبارات الالمانية تنصتت على مكالمات قام بها من 16 ازارشتراسه. المكالمة الأولى كانت الى قبرص، مع شخص تبين لاحقاً انه حبيب دجاني، السوري الذي يملك مطعم "كينغز تيك أواي" في نيقوسيا. وقال دجاني لدلقموني انه حصل أخيراً على تأشيرة لدخول ألمانيا، وسيكون في برلين الاثنين التالي، في 24 تشرين الأول اكتوبر. بعد ذلك بشهور قال دجاني خلال التحقيق ان موضوع الاتصال بدلقموني كان تصدير واستيراد السيارات، وان رحلته المزمعة الى المانيا كانت لأجل تبديل سيارته ذات المقود على اليسار بواحدة مقودها الى اليمين. لكنه اعترف بأنه كان منذ مدة يوصل رسائل من دلقموني الى آخرين، وان "أبو نضال" كان بين الذين تركوا رسائل لتوجيهها الى دلقموني. واستنتج المحققون في النهاية ان دجاني كان "مشاركاً طوعياً" في عملية دلقموني وليس ارهابياً محترفاً.
الشخص الآخر الذي كلمه دلقموني كان في دمشق وخاطبه باسم "عبد". وقال دلقموني ان كل شيء سيكون مهيأً خلال أيام، واعطى الهاتف إلى شخص قال ان اسمه "صافي". وكان واضحاً للشرطة الألمانية أن "صافي" لم يكن سوى مروان خريسات. وقال صانع القنابل المحنك هذا ل"عبد" انه اجرى "بعض التعديلات على الدواء" مضيفاً انه بذلك سيجعله "أفضل وأقوى". واستنتج "عبد" بناء على ما سمع أن "الأمور تسير كالمطلوب".
في السادسة والدقيقة العاشرة من مساء اليوم نفسه التقى دلقموني رجلاً وصفته "بي كي أي" بأنه في الثلاثينات، طوله 170 سم، نحيف القامة، أسود الشعر وله لحية، وأيضاً ان "اذنيه كبيرتان في شكل يثير الانتباه". بعد اللقاء ذهب الاثنان في سيارة، عرف لاحقاً انها تعود الى بسام مصطفى أحمد راضي، وهو اردني عمره 34 سنة يسكن هامبورغ. ويقول تقرير "بي أي كي" انها انتبهت الى راضي للمرة الأولى في كانون الأول 1986 عندما وصلت إليها معلومات عن مؤامرة ارهابية لتوزيع اقلام ملونة متفجرة على مركزين اجتماعيين يهوديين في برلين. وأكد المصدر ان راضي عضو في تلك الحلقة الارهابية، وان قائدها هو عدنان يونس. ويعرف يونس أيضا باسم "أبو عدنان" وهو شخصية مثيرة. فهو عضو قديم في "الجبهة الشعبية - القيادة العامة"، وفقد يده وعينه في انفجار قنبلة اثناء التدريب في لبنان أوائل الثمانينات. وكان اثناء قضية "الاقلام المتفجرة" هذه يدير مطعماً للبيتزا في برلين، ولم يجرم في النهاية.
في 20 تشرين الأول عاد دلقموني الى فرانكفورت، وكلم خريسات الذي كان في نويس واخبره انه كان على وشك تسلم "ثلاث علب مغطاة سوداء"، و"قفازات" و"معجون" من شخص اسمه مسعود. وزعمت مصادر الاستخبارات لاحقاً ان مسعود هو الاسم الحركي لعبدالفتاح غضنفر، عضو "الجبهة الشعبية - القيادة العامة"، وهو أردني عمره 47 سنة يملك عدداً من جوازات السفر بأسماء مستعارة مختلفة، من بينها الاسم الغريب "رونالد جون بارتل" من بلدة ريدروث في مقاطعة كورنوول البريطانية. وكان غضنفر الى وقت قريب مقيماً في دمشق، الا انه انتقل الى المانيا الغربية، حسب مصادر الشرطة الألمانية بناء على أمر من قادته. وكان الرجل الثاني بعد دلقموني في شبكة الجبهة في المانيا، بمهمة تنظيم حسابات سرية لتمويل عمليات الجبهة في أوروبا منطلقا من سورية. مقره في المانيا الغربية كان يسكن في شقة فوق متجر في 28 ساندفيغ في فرانكفورت.
يقول تقرير الشرطة الاتحادية ان دلقموني وخريسات ذهبا في 22 تشرين الأول "بالسيارة الى فرانكفورت وزارا متجرين للآلات الكهربائية"، من دون ان يذكر هل اشتريا شيئاً أم لا. وفي الثانية بعد ظهر اليوم نفسه شوهد دلقموني وهو يقابل "الشخص المجهول الهوية نفسه الذي لاقاه في 18 تشرين الأول". وليس من الواضح هل هو الشخص العربي "الكبير الاذنين" المذكور سابقا أم لا. فقد علمت الاستخبارات ان اسم الشخص الجديد هو "رمزي"، اي الاسم نفسه للشخص الآخر، الا ان الاتصال به تم عن طريق رقم في مدينة فرانكفورت، فيما بدا ان رمزي "الكبير الاذنين" كان يقيم في هامبورغ. وأياً كان الأمر فقد اكتشف المخبرون ان "رمزي" الجديد هذا هو عضو "الجبهة الشعبية - القيادة العامة" رمزي دياب. بعد اللقاء ذهب دلقموني لزيارة غضنفر في شقته في 28 ساندفيغ.
وأكدت مصادر الشرطة الألمانية "بي كي أي" لاحقاً ان رمزي دياب هو الاسم المستعار للفلسطيني صلاح كويكاس الذي قالت تقارير ان قوة كوماندوس اسرائيلية أسرته عندما كان يقوم بمهمة داخل اسرائيل، واطلق في 1985 ضمن عملية تبادل تسلمت فيها اسرائيل ثلاثة جنود كانت الجبهة اسرتهم في 1982 .
في اليوم التالي عاد دلقموني الى نويس حيث تسلم مكالمة من دمشق من شخص يدعى "ابو حسن". وأوضح دلقموني ان "الأمور" توشك ان تكون جاهزة، وانه سيلاقي "أبو حسن" الجمعة التالي، أي بعد خمسة أيام.
في 24 تشرين الثاني عاد دلقموني وخريسات الى التسوق، هذه المرة في نويس، ورافقهما أحمد عباسي، زوج أخت دلقموني الذي قام بمهمة الترجمة. والظاهر ان الاثنين اشتريا هناك أربع ساعات منبهة، بينها ثلاث ميكانيكية والرابعة رقمية. ثم ذهبا الى سوق كاوف هاله حيث شوهدا وهما يشتريان صمغاً وعدداً من الصواميل و16 بطارية صغيرة الحجم بقوة 1.5 فولت ومفاتيح كهربائية. وتنصتت الشرطة لاحقاً من اليوم نفسه على مكالمة هاتفية قال فيها خريسات لشخص في عمان انه بدأ العمل أمس ويحتاج الى يومين أو ثلاثة قبل ان يتمكن من العودة الى الوطن.
كان من البديهي بعد هذه التطورات توقع هجوم في وقت قريب. وفي صبيحة 26 تشرين الثاني رصدت الشرطة دلقموني وخريسات وهما يغادران الشقة في ازارشتراسه ليستقلا سيارة الأول، وهي "فورد تاونوس" لونها أخضر فضي. وذهبا الى شارع هافنشتراسه القريب، حيث اجرى خريسات اتصالاً هاتفياً فيما انتظره زميله في السيارة. وكان الوقت قد حان لتدخّل الشرطة. وما ان خرج خريسات من مقصورة الهاتف حتى سارعت دزينة من المخبرين لاعتقال الرجلين اللذين لم يبديا مقاومة. وعثرت الشرطة في السيارة على عدد من جوازات السفر السورية والاسبانية الفارغة، كما وجدت تحت بطانية جهاز راديو - كاسيت من طراز "بومبيت" 453 من صنع "توشيبا".
وجاءت الغارة على الشقة في ازارشتراسه لتؤكد شكوك الشرطة الألمانية. فقد وجد المخبرون هناك، عدداً آخر من جوازات السفر، ما يكاد ان يكون مصنعاً صغيراً لانتاج القنابل، من ضمنه المكونات الالكترونية والمسابك، وأهم من كل ذلك اجهزة التوقيت والصواعق التي تعمل بالضغط الجوي. ولم يقل عن هذا إثارة للقلق ما اكتشفه المخبرون لاحقاً من اليوم نفسه خلال غارة على شقة غضنفر في 28 ساندفيغ في فرانكفورت. فقد كان بين ما وجدوه ست بنادق آلية ومدفع بازوكا و30 قنبلة يدوية مع قاذف، وخمسة كيلوغرامات من متفجر "سيمتكس" وستة من متفجر "تي ان تي" و14 اصبع ديناميت. وقال مكتب المدعي العام الالماني في بيان لوسائل الاعلام انها كانت أكبر ترسانة اكتشفت في المانيا.
كما عثر المخبرون في الشقة في ساندفيغ على قسائم أمتعة لخط الطيران الألماني "لوفتهانزا" و14 جدولاً للرحلات الجوية وجهاز كاسيت "سانيو" وحقيبة تحمل شعارالخطوط الجوية اليوغوسلافية.
وشملت الاعتقالات في عملية "أوراق الخريف" 14 من المشتبه بهم، اضافة الى دلقموني وخريسات. وكان بين المعتقلين الأخوان هاشم وأحمد عباسي وياسم كام - نقشه وأحمد كابلان وبسام راضي وعدنان يونس ورمزي دياب. ورجح ان مارتن خضورة كان أيضاً بين المعتقلين. ولكن هناك من يقول انه كان وقتها في يوغوسلافيا وليس في المانيا. وبعد أسابيع على غارات "أوراق الخريف" دهمت الشرطة الشقة الآمنة في مدينة كروشيفاتش التي زارها دلقموني مطلع تشرين الأول، وعثرت على 7.5 كلغ "سيمتكس" وكيلوغرامين من الديناميت السوفياتي الصنع ونحو 500 مفجّر وكميات كبيرة من فتائل التفجير. وتمكن صاحب الشقة مبدي غبن من الافلات من الشرطة وهرب الى سورية.
بعد وقت قصير على الاعتقالات في 28 تشرين الثاني اكتشف جهاز "بي كي أي" نموذجاً من مصنوعات خريسات. فعندما فتح الخبراء مسجل الكاسيت الذي كان في صندوق سيارة دلقموني وجدوا داخله رزمة "سيمتكس" وزنها 300 غرام اضافة الى مفجر واربع بطاريات صغيرة. وأثارت آلية المفتاح اهتماماً خاصاً لتكونها من عنصرين منفصلين هما: مفتاح توقيت بسيط ومفتاح يعمل بالضغط الجوي. وأظهر التحليل التقني ان مفتاح التوقيت يعمل عندما ينخفض الضغط في مقياس الضغط الجوي الى نحو 952 ميللي بار، أي ما يعادل ارتفاع 2500 قدم فوق سطح الأرض. واستنتج الخبراء من ذلك ان القنبلة كانت معدة لتفجير طائرة. ويعرف ان عدداً من الخطوط الجوية يضع الأمتعة قبل نقلها الى الطائرة في مقصورة ضغط جوي لتفجير أي قنبلة من هذا النوع. الا ان اضافة مفتاح التوقيت يتلافى هذا الاحتمال، لأنه يؤخر تفجير القنبلة 35 أو 45 دقيقة. وتم في النهاية تحليل السيمتكس وظهر انه ينتمي الى الشحنة نفسها التي عثر عليها في فرانكفورت وكروشيفاتش.
بدا أول الأمر ان عملية "أوراق الخريف" كانت ناجحة، ولكن تبين لاحقاً ان الشرطة الألمانية ارتكبت خطأ رئيسياً. فقد كانت في الشقة في ازارشتراسه أثناء الغارة ثلاث قنابل ضغط على الاقل لم تصادر. وركبت اثنتان منها داخل جهازي مناغمة والثالثة في شاشة عرض من صنع "سانيو". ولم تعلم "بي كي أي" بوجود هذه القنابل الا في نيسان أبريل 1989، بعد أربعة أشهر على لوكربي. اضافة الى ذلك كان بين ما لم تصادره الشرطة عدد كبير من المسجلات، من بينها، حسب ملاحظات رسمية دونت آنذاك، 12 مسجل ستيريو. ولم تصادر السلطات سوى جهاز راديو كاسيت من طراز توشيبا 453 "بومبيت" مماثل للجهاز الذي كان في صندوق السيارة. وكان في الجهاز عدد من الثقوب الاضافية مما يعني انه كان قيد التحويل الى قنبلة.
وتم خلال أيام اطلاق غالبية المعتقلين في عملية "أوراق الخريف" من دون توجيه تهم اليهم، عدا دلقموني وخريسات وغضنفر الذين بقوا تحت الاحتجاز المشدد. واتضح خلال التحقيق ان شكوك ضباط "بي كي أي" بهم كانت مبررة تماماً.
فقد اعترف دلقموني بأنه أخذ المتفجرات الى الشقة في ازارشتراسه، وان مارتن خضور هرّب المتفجر الذي كان مخزوناً في البيت الآمن في كروشيفاتش الى المانيا الغربية. الا ان المحققين شكّوا في ان ارهابياً محترفاً مثل دلقموني كان سيخاطر بتهريب المتفجر عبر حدود دولتين او ثلاث حيث كان يمكن اكتشافه بسهولة بعملية تفتيش روتينية. فقد كان الأضمن بكثير بالنسبة الى الجهة الراعية للجبهة، تهريب المتفجر في الحقائب الديبلوماسية المستثناة من التفتيش.
وأياً كانت طريقة وصول المتفجر اليه فقد اعترف دلقموني بدوره في صنع القنابل، وقال للشرطة انه اشرف على عمل خريسات عندما وضع المتفجر في جهاز راديو - كاسيت وأيضا جهاز مناغمة للراديو وشاشة عرض. وقال ان خريسات جلب جهاز راديو - كاسيت من صنع توشيبا من مكاتب "القيادة العامة" في دمشق مروراً بعمان خبأ فيه ساعتي منبه لاستعمالهما للتوقيت، وايضا مفتاحين يعملان بالضغط الجوي. وقال ان رمزي دياب سلمه أثناء لقائهما في فرانكفورت في 18 تشرين الأول جهازاً مماثلاً يحتوي المعدات نفسها.
ولم يقلّ غضنفر عن دلقموني استعداداً للكشف ان المجموعة كانت تعد لهجوم في ألمانيا، وعن دور خريسات في صنع القنابل. وأكد انه كان يتسلم أوامره من دلقموني، ووصف للمحققين دوره في تمويل عمليات الجبهة في أوروبا.
أما خريسات فأكد أيضاً معرفته بمؤامرة ارهابية - وكان من الصعب عليه ان ينكر - لكنه اصر على انه لا يعرف الأهداف المحددة. وأعطى التفاصيل عن هيكلية الجبهة وعضويتها، لكنه لم يزد على ذلك وقال انه لا يستطيع الافصاح عن خلفيته.
وسرعان ما انكشف سر صمت خريسات. فقد طلب في الخامس من تشرين الثاني اجراء مكالمة مع عمان. وعندما لبى المحققون الطلب تكلم مطولاً مع شخص هناك عن "الحاجة الى الاسراع في أمور قضائية في ألمانيا". بعد خمسة أيام مثل خريسات أمام القاضي كرستيان ريني في المحكمة الفيديرالية العليا في كارلزروهه. وطلب المدعي العام، نيابة عن الشرطة الفيديرالية اذناً جديداً بتمديد احتجازه، وكان من المتوقع تماماً الموافقة على الطلب. إلا ان رد القاضي جاء بمثابة القنبلة. فقد قال للمحكمة: "هناك بالتأكيد اشتباه بتورط المتهم في التهمة المزعومة. لكن ما ليس متوفراً هو الاشتباه القوي في ارتكابه جريمة. اذ لا يمكن حالياً البرهنة على علاقة المتهم بالمسكن في 28 ساندفيغ في فرانكفورت، حيث ترسانة الأسلحة الحربية والمتفجرات. كما لم يعثر على أسلحة أو ما شابه في 16 ازارشتراسه في نويس، حيث كان يقيم. ولم يمكن اكتشاف هدف أو موقع لجريمة تفجير. اضافة الى ذلك ليس هناك دحض، في شكل يكفي للاشتباه القوي بتورطه، لمزاعمه عن الهدف من مجيئه الى الجمهورية الاتحادية وعلاقته بالمتهمين الآخرين وجهله بالاستعدادات لارتكاب الجريمة".
هذا القرار المذهل كان مناقضاً لكل الوقائع. فقد اعترف خريسات بالمشاركة في مؤامرة ارهابية، كما ان شريكيه الاعلى منه رتبة أخبرا الشرطة انه هيأ القنابل في الشقة في نويس، وكشف دهم الشقة وجود مكونات قنابل وايضا آثار متفجر، وقد اعتقل، اضافة الى كل هذا، بالجرم المشهود، أي بحيازة قنبلة مصممة لتفجير طائرة. لكن هذه الاعتبارات راحت هباء، لأن خريسات أفلت من قبضة الشرطة الألمانية وطار مباشرة وبلا عودة الى الأردن.
ما السبب إذن في احباط كل الجهود التي بذلت في عملية "أوراق الخريف"؟ اتضح لاحقاً ان خريسات لم يكن ارهابياً عادياً وانه كان طوال ذلك الوقت عميلاً سرياً للاستخبارات الأردنية، ذات العلاقات التاريخية مع الاستخبارات الغربية - خصوصاً "سي آي أي" التي لعبت دوراً رئيسياً في انشائها. لا عجب اذن ان سلطات ألمانيا الغربية سمحت له، بكل هدوء، بالافلات من قبضتها. وبعد اطلاقه أكدت مصادر استخباراتية غربية مختلفة للصحافيين انه كان متعاوناص مع "سي آي أي" والاستخبارات الالمانية و"موساد".
كما قالت مصادر ان رمزي دياب كان عميلاً مزدوجاً، ورجحت انه ينشط لمصلحة "موساد". وقد اختفى بعد اطلاقه، ويعتقد بأنه ذهب الى سورية. أما خريسات فكان أوفر حظاً، اذ انه يقيم منذ اطلاقه تحت حراسة مشددة في عمان. أما مصير شريكيه دلقموني وغضنفر فقد كان مختلفا، لكنه لم يقل غرابة. فانهما، على رغم الادلة القاطعة على نيتهما القيام بهجمات ارهابية في المانيا، لم يحاكما بهذه التهمة. وبعدما قبعا شهوراً قيد الاحتجاز المشدد في عدد من السجون واجها في النهاية تهمة التورط في الهجوم على القطارين العسكريين في هيديمندن في آب 1987 ونيسان 1988. ولم تقدم السلطات توضيحاً كافيا لعدم اعتقالهما في وقت أبكر، على رغم المعلومات المحددة التي قدمها جهاز "موساد" قبل شهرين من الهجوم الثاني. ولم يُجرم الاثنان الا في 1991، عندما حكم على دلقموني بالسجن 15 سنة، وعلى غضنفر ب12 سنة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.