تشهد لندن هذه الأيام ازدهاراً لا مثيل له للثقافة الايرانية الحديثة اذ يقام معرض للفن الايراني الحديث ومهرجان سينمائي ومؤتمر حول النساء في السينما الايرانية، وسلسلة محاضرات حول الأدب الايراني. وكانت اشارة البدء لهذا البرنامج الحافل عن "الفن والثقافة المعاصرة في ايران" افتتاح معرض للفن الايراني المعاصر في منتصف نيسان ابريل الفائت في مركز "باربيكان سنتر". ويعد هذا المعرض الأول من نوعه من بريطانيا الذي يعكس حيوية الفن الايراني على امتداد الأربعين سنة الماضية. ويتضمن حوالى 50 عملاً لأكثر من 20 فناناً، من مؤسسي حركة الفن الحديث في ايران في الخمسينات والستينات الى الفنانين الشباب التجريبيين. ويتولى تنظيم البرنامج "مركز دراسات الشرق الأدنى والأوسط" في كلية الدراسات الشرقية والافريقية "سواس" وكلية بيربك ومركز باربيكان بالتعاون مع "مؤسسة التراث الايراني". إضافة الى المعرض الفني يستضيف مركز باربيكان موسم افلام حول "النساء في السينما الايرانية" في الفترة من 4 الى 10 أيار مايو الجاري ويعقد مؤتمر ليوم واحد حول هذا الموضوع في كلية "سواس" يعقد مؤتمر لثلاثة أيام في "غاليري برونل" في كلية "سواس" حول الشعر المعاصر في ايران والعالم الناطق بالفارسية. كما تنظم محاضرات اسبوعية في "سواس" حول تجربة المنفى في النثر الفارسي لكتاب ايرانيين يعيشون في أوروبا وأميركا الشمالية. جرى اختيار الأعمال التي يتضمنها المعرض الفني من قبل روز عيسى، التي ولدت في ايران وتلقت تعليمها في لبنان وباريس وتقيم في لندن، ومن قبل كارول براون رئيسة المعارض في مركز باربيكان. ويبين المعرض ان الفن الايراني يعيش طوراً دينامياً يسمح بظهور مواهب شابة جديدة واستكشاف الهوية الايرانية. ويمثل هذا تحولاً مثيراً بالمقارنة مع الفترة التي أعقبت الثورة عام 1979، عندما أصيب النشاط الفني كله بالشلل لما يقرب من عقد من السنين ولم تكن هناك أي عروض فنية في الأماكن العامة باستثناء الفن الحربي والملصقات التي تمجد الشهادة والبطولة. تقول روز عيسى في دليل المعرض: "في أعقاب الحرب مع العراق، بعدما قتل اكثر من مليون شخص، تمكن الشباب المحبط في ايران الذي اصيب بخيبة امل من البنى الاجتماعية والاقتصادية والفنية، من العثور على لغة - عبر التصوير الفوتوغرافي والسينما والرسم، وأيضاً، بعد ذلك بوقت طويل، النحت - لغة تفادت بمهارة اليد القوية للرقابة". ووفرت انتخابات 1997 التي فاز فيها الجناح الليبرالي في الجمهورية الاسلامية الفرصة للتجريب في ظل حرية تعبير اكبر بكثير، وان كان ذلك "لم يتحقق من دون مقاومة قوية من جانب المحافظين". ينظم المعرض بالتعاون مع "متحف طهران للفن المعاصر" الذي أنشىء في 1977. وكان المتحف تمكن قبل الثورة من الحصول على مجموعة رائعة من الأعمال التي تنتمي الى فترة الستينات السبعينات لفنانين ايرانيين وفنانيين غربيين مشهورين مثل اندي وارهول وفرانسيس بيكون. وعلى رغم ان النظام الثوري لم يستحسن الاحتفاظ بهذه المجموعة فإنه - لحسن حظ محبي الفن الحديث - لم يتلفها أو يبعها. لكن "متحف الفن المعاصر" مرّ بأوضاع مضطربة وتعاقب على ادارته ما لا يقل عن 18 مديراً خلال 20 عاماً. وقام الدكتور سامي ازار، المعماري الذي تلقى تعليمه في بريطانيا ويتولى ادارة المتحف منذ سنتين ونصف سنة، بعرض أعمال فنية جمعت قبل الثورة إضافة الى اعمال احدث عهداً. وتقول روز عيسى ان هذا "عمل ينطوي على قدر من الشجاعة لأن فنانين كثيرين من مرحلة ما قبل الثورة أدرجوا على اللائحة السوداء بعد الثورة". وقال الدكتور ازار ل"الحياة" ان المشهد الفني في ايران حالياً "مثير وواعد، فلدينا كثرة من الفنانين الشباب الجدد والموهوبين. منذ عشر سنوات لم تكن لدينا سوى صالتي عرض في طهران، أما الآن فهناك حوالى 48". وأضاف: "ستجد ان 80 في المئة من الفنانين في هذا المعرض هم من الذكور، لكن اذا ذهبت الى الجامعات أو شاهدت المعارض التي تقام في متحفنا ستجد ان 60 الى 70 في المئة من فنانينا الشباب هم نساء". وأصغر المشاركين سناً في العرض هي شادي غديريان التي ولدت في 1974. وتشتهر بصورها الفوتوغرافية لفتيات ايرانيات والتي تشبه في تصميمها صور بورتريه لنساء في زي القاجار الذي يرجع الى أواخر القرن التاسع عشر. وتحمل هذه الفتيات حاجات يومية حديثة ذات صلة بأشياء غربية أو محظورة: على سبيل المثال، تحمل احداهن جهاز راديو ومسجل "سي دي"، وتمسك اخرى بعلبة بيبسي، وتظهر ثالثة وراء دراجة. وتقول غديريان انه خلال دراستها الفن في جامعة طهران "كان معظم الطلبة، حتى أولئك الذين يدرسون التصوير الفوتوغرافي، من الأناث". وتعرض فنانة اخرى اسمها غازل في غرفة معتمة، وعلى ثلاث شاشات متجاورة، أفلام فيديو انتجتها الفنانة عن نفسها، تظهر فيها وهي ترتدي الحجاب وتشارك في انشطة مثل السباحة والتزلج على الجليد ولعبة كرة القدم. وتتضمن هذه الأفلام الصامتة شروحات وتعليقات مسلية، وفيها شيء من الفكاهة الحزينة في أفلام تشارلي شابلن المبكرة. لكن هذه الروح الهزلية تتلاشى في مشهد تظهر فيه معصوبة العينين ويطلق عليها النار فتسقط. واستأثر عمل يعرض فيه 1000 صرصور، وهو لفنانة شابة اخرى اسمها بيتا فياضي، باهتمام كبير من جمهور الزائرين وباعجاب يشوبه الفزع. هذه الصراصير، التي يفوق الواحد منها حجم الكف، مصنوعة من السيراميك، ومكسوة بطلاء لامع. وتقول فياضي ان المشهد الفني اصبح أكثر استرخاء في السنتين أو الثلاث سنوات الأخيرة. وتلاحظ ان "عدد النساء الناشطات في كل المجالات في ايران يفوق الآن ما كان قبل الثورة. فالنساء اكثر مهنية مما كن قبل الثورة ولديهن ثقة اكبر بالنفس". كانت اهم حركة فنية حديثة قبل الثورة هي مدرسة "سقاخانة". وتشير هذه الكلمة الى الأحواض التي ينبجس منها ماء السبيل المنتشرة في مدن ايرانية والتي يقيمها افراد احياءً لذكرى شهداء الشيعة. وغالباً ما ترتبط أحواض الماء هذه بآثار دينية، واحدى سمات فناني السقاخانة انهم يستخدمون الفن الشعبي الديني ونقوشه ورسومه وطلاسمه وروايات حب شهيرة. كان أبرز فناني السقاخانة حسين زندرودي الذي بدأ يرسم في الخمسينات. وبعض أعماله موجود في المعرض، منها عمل من دون عنوان انجزه بصبغ نباتي وحبر صيني، بألوان خضراء وصفراء وزرقاء هادئة، يعج برموز متداخلة معقدة. وتمتلئ لوحة أخرى من أعماله بأرقام صغيرة لا تنتهي. ويوضح الدكتور سامي ازار بان اعمال زندوردي تجمع بين رسوم فترة ما قبل الاسلام والتركيب الحديث. ويشير استخدام الفنان للون الأخضر الى الحقبة الاسلامية كلها، بينما تنتمي الوانه الصفراء والبنية الى فترة ما قبل الاسلام ويظهر اللون الأزرق بهاء الامبراطورية الساسانية. وتوجد في المعرض أعمال لفنانين بارزين عدة من مدرسة السقاخانة، مثل مسعود عربشا هي ومنصور قندريز. ومن الفنان فرماز بيلرام توجد اشكال دائرية وبالغة الدقة من الخط والرموز، بينما تمتلئ اعمال جعفر روحبخش برموز صغيرة جداً وهي ملونة على نحو رائع بالذهب. ويجمع محمد احسائي، وهو خطاط محترف، بين الخط وحساسية فنان حديث لينتج أعمالاً أخاذة وجميلة. وتمتاز الفنانة منير فرمانفرميان بكونها الوحيدة في المعرض التي تستخدم المرايا والزجاج في أعمالها، بينما يملك الفنان كورش شيشغران أسلوباً متميزاً متحرراً من الأشكال التقليدية بألوان مشرقة وخطوط مخربشة. واستوحى الفنانان ماركوس غريغوريان وبرويز قلنتري أعمالهما من مواد طبيعية كالطين والقصب ومن العمارة التقليدية. وكان الفنان سحراب سبيهري الذي توفى في 1980 رساماً وشاعراً استوحى اعماله من مناظر الصحراء والطبيعة. وتبدو ابحاثه في شكل جذوع الاشجار وبنيتها متشربة بالقيم الروحية. وتقدم لوحة ابو القاسم سعيدي، بعنوان "لوحة تجريدية عن ازهار"، سيلاً من الألوان النابضة بالحياة تتدفق فيها على القماش أوراق وازهار وفواكه رسمت بأسلوب شبه تجريدي. ويستوحي فنانون آخرون أعمالهم من صور فوتوغرافية قديمة كقاسم حجيزاده الذي رسم لوحته بعنوان "رجل احمر الشعر ورجل اسود الشعر" باللونين الأسود والأبيض باستثناء الشعر البرتقالي الزاهي لأحد الرجلين. وتُعكس تجارب مقاتل شاب في الحرب مع العراق في عمل خسرو حسنزاده الذي كان متطوعاً في الجيش وعمره 17 سنة. وبدلاً من تمجيد الحرب تعبّر أعماله، كما يتجلى في سلسلة لوحات عن اشكال بشرية في اكفان بيضاء، عن أهوال الحرب والمعاناة الشاملة. لوحة آيدين اغدشلو بعنوان "ذكريات الثلج والنار - 3" تعرض رسماً جميلاً لانسان يرتدي زياً قاجارياً تقليدياً على خلفية من الثلج والتلال والأشجار، وهو يمسك بوردة حمراء متفتحة لكن احدى ورقاتها توشك ان تسقط. ولا يملك الرأس البيضوي الاصلع أي وجه. ومعلقة فوقه سكين مزخرفة. ويقول اغدشلو "رسمت هذه اللوحة في بداية الثورة وهي حول طبقة ستختفي من وجه الأرض". وبين الفنانين الذين سافروا الى لندن لحضور المعرض علي رضا ايسوهباد الذي منع من عرض أعماله منذ 1990 لأن النظام كان مستاءً من لوحاته السياسية المروعة. ويتضمن المعرض لوحته "ثلاثة غربان" التي رسمها قبل الثورة. وهي عمل رمزي عن ثلاثة طيور سوداء، وكانت أثارت للفنان مشكلة مع جهاز الشرطة السرية "سافاك" في عهد الشاه. وانتج فريدون آفى، وهو زرادشتي، سلسلة صور في أواخر تسعينات القرن الماضي باستخدام الفن التلصيقي الكولاج والرسم يدور حول شخصية رستم، البطل في اسطورة الشاهنامه الفارسية كتاب الملوك التي ترجع الى عهد ما قبل الاسلام. ويتضمن العمل صوراً مقطعة كثيرة لبطل المصارعة الايراني عباس جديدي الذي فاز بالميدالية الذهبية لدورة الألعاب الأولمبية عام 1998، ويظهر في بعضها على خلفية ازهار وفاكهة عملاقة، بينما رشت صور اخرى بلون احمر يرمز الى الدم. ويتناول مسلسل "رستم" الصراع بين الأب وابنه. وكما يقول دليل العرض فان "هذه الاستعارة عن قوى التراث والماضي وهي تُخمد صوت الحداثة والمستقبل لا يزال في الامكان تحسسها وتلمسها بقوة في ايران حالياً".