قبل سنوات ليست بعيدة شاهدت تقريراً صحافياً، لا اتذكر الآن الفريق الذي اعده بعد ان قام بالسفر والوقوف على احوال افغانستان. لكن مشهداً واحداً يأبى ان يطويه النسيان. انه مشهد حوانيت في سوق افغاني، في كابول ان لم تخني ذاكرتي. كل ما تعرضه تلك الحوانيت للبيع هو اكياس مكدسة من العظام البشرية، حيث يقتني التجار تلك العظام ويحملونها على الناقلات التي تعبر بها الحدود الباكستانية، حيث تباع هناك لاستخدامها مواد خاماً للتصنيع، مثلاً في صناعة الصابون، على غرار ما فعله النازيون في اوروبا. نعم، لقد نبش هؤلاء في افغانستان قبور آبائهم واجدادهم، قبور رجالهم ونسائهم للاتجار بها بعدما اوصلتهم ثوراتهم هذه الى هدر ما تبقى من ثرواتهم وحطتهم في درك يصعب تصديقه. ان الذين قاموا بتلك الاعمال في وضح النهار في بلاد ال"طالبان" لا يرتدعون الآن عن شيء مهما كان مستهجنا. فما العجب إذن، من اعلانهم حرباً الآن على الحضارة البشرية؟ منذ القرن الخامس قبل الميلاد ظهرت في شمال غرب الهند، في مملكة نييال اليوم، الفلسفة الدينية البوذية على يد البوذا سيدهارتا غاوتاما. وبوذا المصطلح يعني: المستنير، او ذو النور. حينما بلغ بوذا التاسعة والعشرين من العمر ترك كل شيء وخرج سائحاً، زاهداً باحثاً عن الحقيقة الازلية. البوذية لا تعتقد ان الموت نهاية الوجود، بل بانتقال الروح في هذا الوجود لتعود من جديد في مكان آخر بولادة متجددة وعمل متجدد في الطريق الطويلة الى الخلاص. البوذية تضع العمل الفردي للانسان، الكارما، في جوهر معتقداتها. لقد ترك بوذا ملذات الحياة الدنيا وساح في البلاد يدعو الى الخير، للوصول الى النيرفانا لما فيه خير الانسان والآلهة. الجوهر الاساس لدى بوذا هو طريق تنبذ التطرف في كل شيء، بدءاً من الاستسلام للغرائز وانتهاءاً بالزهد المتطرف. هذه هي الطريق التي توصل الى النيرفانا، او الذروة الروحية، او قل الالهية، ان شئت. للوصول الى ذلك يجب فهم اربع حقائق: جوهر الالم، علة الالم، فناء الالم، والطريق المفضية الى فناء هذا الالم. هذ الطريقة الرابعة وهي المفضية الى المقامات الثمانية والمتمثلة في: الفهم الحق، النية الحقة، الكلام الحق، العمل الحق، السيرة الحقة، الجهد الحق، التفكر الحق، التأمل الحق. هذه هي طريق بوذا الى الخلاص، الى النيرفانا، الى الاتحاد بالحقيقة الابدية الازلية. وليست الاقوال التي تنشر في الصحافة العربية باسم البعض ضمن حملة ردود الفعل سوى جزء من القضية الاساس، القضية المشكلة، اذ ان الذين يحاولون ثني طالبان عن الاستمرار في هذه الاعمال لم يقفوا من القضية موقفاً رافضاً بحزم، بل حاولوا التذرع بأعذار وبحجج تفضح ما بدواخلهم. فقراءة متانية لردودهم تكشف في الحقيقة عن تماثل تام مع عمل طالبان، اذ ماذا يسوقون للناس من حجج؟ من بين تلك الحجج، نذكر تلك الحجج التي مفادها ان الطالبان يحرجون بعملهم هذا المسلمين الذي ما زالت التماثيل ماثلة في دياراهم. اي ان القضية وما فيها هي قضية احراج ليس الا، ولو لم يكن ثمة احراج لقاموا هم ايضاً بهدم وسحل تلك التماثيل. انه رد فعل بائس، على اقل تقدير. * كاتب فلسطيني.