"أرامكو" ضمن أكثر 100 شركة تأثيراً في العالم    رصد 8.9 ألف إعلان عقاري مخالف بمايو    الإبراهيم يبحث بإيطاليا فرص الاستثمار بالمملكة    "كروم" يتيح التصفح بطريقة صورة داخل صورة    تدريب 45 شاباً وفتاة على الحِرَف التراثية بالقطيف    ضبط مقيمين من الجنسية المصرية بمكة لترويجهما حملة حج وهمية بغرض النصب والاحتيال    اختتام ناجح للمعرض السعودي الدولي لمستلزمات الإعاقة والتأهيل 2024    أنشيلوتي: كورتوا سيشارك أساسيا مع ريال مدريد في نهائي دوري أبطال أوروبا    ثانوية «ابن حزم» تحتفل بخريجيها    ترمب يصف محاكمته الجنائية في نيويورك بأنها «غير منصفة للغاية»    ضبط مواطنين في حائل لترويجهما مادة الحشيش المخدر وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    «الربيعة» يدعو إلى تعزيز المسؤولية الدولية لإزالة الألغام حول العالم    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم بزيارة تفقدية    شولتس: إصابات "بالغة" إثر هجوم "مروع" بالسكين في ألمانيا    أمر ملكي بالتمديد للدكتور السجان مديراً عاماً لمعهد الإدارة العامة لمدة 4 سنوات    مفاوضات غزة «متعثرة».. خلافات بين إسرائيل وحماس حول وقف الحرب    كذب مزاعم الحوثيين ..مسؤول أمريكي: لا صحة لاستهداف حاملة الطائرات «آيزنهاور»    الذهب يستقر قبل بيانات التضخم الأمريكية    الهلال يبحث عن الثلاثية على حساب النصر    مورينيو يختار فريقه الجديد    حجاج مبادرة "طريق مكة" بمطار سوكارنو هاتا الدولي بجاكرتا    «الجمارك»: إحباط تهريب 6.51 مليون حبة كبتاغون في منفذ البطحاء    وكيل إمارة حائل يرأس اجتماع متابعة مكافحة سوسة النخيل الحمراء    فاتسكه: دورتموند قادر على تحقيق شيء استثنائي أمام الريال    خلافات أمريكية - صينية حول تايوان    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والنبوي    فيصل بن فرحان يلتقي وزير الخارجية الصيني و وزير الخارجية العراق    رياح مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    إسلامية جازان تقيم ٦١٠ مناشط وبرنامج دعوية خلال أيام الحج    5 مبتعثات يتميّزن علمياً بجامعات النخبة    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    ترقية 1699 فرداً من منسوبي "الجوازات"    "سامسونغ" تستعد لطرح أول خاتم ذكي    المملكة ضيف شرف معرض بكين للكتاب    توجيه أئمة الحرمين بتقليل التلاوة ب"الحج"    أطعمة تساعدك على تأخير شيخوخة الدماغ    الرياضة المسائية أفضل صحياً لمرضى للسمنة    البنك الأهلي واتحاد «القدم» يجددان الرعاية الرسمية للكرة السعودية    الغامدي يكشف ل«عكاظ» أسرار تفوق الهلال والنصر    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    جدة تتزين لأغلى الكؤوس    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الخريف لمبتعثي هولندا: تنمية القدرات البشرية لمواكبة وظائف المستقبل    «الدراسات الأدبية» من التقويم المستمر إلى الاختبار النهائي !    كيف تصبح زراعة الشوكولاتة داعمة للاستدامة ؟    5 أطعمة غنية بالكربوهيدرات    المملكة تستضيف الاجتماع السنوي ال13 لمجلس البحوث العالمي العام القادم    المعنى في «بطن» الكاتب !    كيف نحقق السعادة ؟    العِلْمُ ينقض مُسلّمات    الحوكمة والنزاهة.. أسلوب حياة    تشجيع المتضررين لرفع قضايا ضد الشركات العالمية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    عبدالعزيز بن سعود يطلع على عدد من المبادرات التنموية التي تشرف على تنفيذها إمارة عسير    أمير القصيم يكرم 7 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز    حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة تبوك    تكريم الفائزين بجائزة الباحة للإبداع والتميز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منذ "وعد بلفور" إلى "وعيد بن لادن". حسم معركة مؤجلة منذ قيام الامبراطورية الكونية
نشر في الحياة يوم 05 - 12 - 2001

"إن السياسة الأميركية تجرّ المياه الى طاحونة الأصوليين".
أوليفييه روزنباخ
من كتابه "القانون الدولي المصادر"، باريس 1996
كنت بين قلة لم تفاجأ بأحداث 11 ايلول سبتمبر في اميركا، فمن يتابع مجرى السياسة العالمية منذ قيام ما سمي "النظام العالمي الجديد" في قمة هلسنكي العام 1989، حين استسلم آخر رئيس سوفياتي للإرادة الأميركية، يدرك ان العالم المطلوب للنظام الجديد كما جرى وصفه في بيان القمة: "سلمي، مستقرّ وآمن" هو، في غياب الشروط الضامنة لهذه الصفات، يشبه المعتقل، بإدارة تشبه الحزب الوحيد الحاكم، باسم الديموقراطية.
ومع انهيار المقولة الدعاوية عن نهاية التاريخ، برزت المقولة الأكثر تفهماً لمتطلبات الإدارة الكونية الجديدة: صراع الحضارات، لإلهاء الطبقات المسحوقة، والتي ستزداد سحقاً، عن استغلالها وقمعها.
ولم يكن مفاجئاً، بعد الهيمنة الأميركية على السياسة الدولية، صدور بيان مقتضب عن قيادة "حلف الأطلسي" يعلن الحرب على الإسلام بوصفه البديل الموضوعي عن الشيوعية.
كان الخيار في "تدشين" صراع الحضارات مشغولاً بعناية، استناداً الى تاريخية هذا الصراع من جهة، ولأن العالم الإسلامي، من جهة اخرى، هو الحلقة الأضعف، لتخلّفه وتشتته، وما تسبّبه الأقليّات المسلمة من "مشكلات" في الحضارات الأخرى، عدا ان الإسلام هو عقبة محتملة في طريق سادة العالم الجدد إذا صح ما قاله عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو عن ايديولوجيا "اقتصاد السوق"، التي، عبر العولمة: "تتبع نهجاً تدميرياً منظّماً لكل تضامن جماعي يقف في وجه المنطق المطلق للسوق"، والإسلام هو آخر ايديولوجيات النظام العالمي القديم قدرة ايضاً على استحثاث "تضامن جماعي".
يُضاف الى كل ذلك السبب الأكثر مباشرة: كون الإسلام هو الخطر الدائم على الكيان الإسرائيلي، الشريك الاستراتيجي لسيدة الغرب وسيدة النظام العالمي الجديد.
كان إعلان الحرب على الإسلام مفاجئاً آنذاك للدول الإسلامية الموالية في غالبيتها للسياسة الأميركية، ويملك بعضها أكبر مخزون من المادة التي يتوقف عليها اقتصاد العالم، لذلك سرعان ما تم صحِّح الأمر باعتبار ان المقصود بالإسلام "التطرف الإسلامي"، أو ما سوف يسمّى لاحقاً "الإرهاب الإسلامي"، الذي كانت ترعاه اميركا وسينقلب بعضه عليها.
منذ ان بدأت السياسة الأميركية استغلال الحركات الإسلامية في حربها ضد الشيوعية، لم تكن غافلة عن ان الإسلام سلاح ذو حدّين يصلح احدهما لخدمتها لكن الآخر قد يصلح لعكس ذلك، عندما ستطالب هذه الحركات، في المقابل، من حليفتها، بحقوقها، حين ان الحقوق، وخصوصاً حقوق حلفائها من الإسلاميين والمسلمين، ليست بين اهداف السياسة الأميركية منذ ان خرجت اميركا على العالم في نهاية الحرب العالمية الثانية، ودعمها المشروع الصهيوني، فكيف بعد هيمنتها على العالم؟
لم تكن السياسة الأميركية غافلة عن المواجهة المقبلة مع حليفها السابق، فلم تعمل لتلافيها، حتى لا نقول انها كانت تسعى إليها في اطار الحاجة الى عدو من جهة، ولاقتناعها بمقولة مستشارها السابق للأمن القوي، صموئيل هنتنغتون، عن توقّعه صراع الحضارات، وفي طليعة ذلك: الصراع الغربي - الإسلامي. لذلك كان من الطبيعي في النظام العالمي الجديد، حين صودرت قرارات الأمم المتحدة لصالح مجلس الأمن، وقرارات مجلس الأمن لصالح الدول الكبرى، وقرارات الدول الكبرى لصالح اميركا، كما يقول الفرنسي اوليفييه روزنباخ في كتابه "القانون الدولي المصادر"، ان تعمل السياسة الأميركية "على جرّ المياه الى طاحونة الأصوليين الذين هم اليوم، اكثر من اي يوم مضى، يصرّون على تحويل العلاقات الدولية الى ساحة حرب بين الحضارات".
ومن السهل التكهن بأن أميركا لم تكن تشعر بأنها تقدم على مجازفة، بل كانت واثقة من ان عدوها الجديد المطلوب الإسلام لن يكون أقوى من عدوها السابق الشيوعية الذي انتصرت عليه، عندما استخدمت ما سمي الثورات المضادة ضد الأنظمة الثورية وبالسلاح الثوري نفسه، فهل كان يصعب عليها ان تكرر الأمر مع الإسلام لضرب المسلمين بالإسلاميين، والإسلاميين بكل الآخرين، مستخدمة الاستخبارات والإعلام، وهما السلاح الأخطر في حال التواطؤ، وفي اطار سياسة كالتي يشرح آليتها المفكر الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه "الثقافة السياسية الأميركية" على هذا النحو: "ان محور السياسة الخارجية الأميركية توفير نظام دعاية يعمل ببراعة لاستحثاث الشعور بالخوف لدى السكان المحليين، واستغلاله للتعبئة العامة... ان هذه السياسة لا يمكن تبريرها إلا إذا اصبحت غالبية السكان مرعوبة من وحوش عليها حماية انفسها منهم... لضمان الاستقرار في ممتلكاتنا الكونية".
وإذا شئنا تجسيد صورة "الوحوش" فلن نجد افضل من احداث الجزائر، إذا صح ان للاستخبارات الأميركية علاقة بها.
ومن يقارن فظاعات "الإرهاب الإسلامي" في الجزائر، التي لم يعرفها الإسلام في كل تاريخه بين ابناء المذهب الواحد في البلد الواحد ومن دون تبرير مع فظاعات "فرق الموت" في اميركا اللاتينية التي كانت تشرف عليها الاستخبارات الأميركية وتدرّبها وتمولها، لدعم الأنظمة الموالية لها او لإسقاط المعادية، يجد تشابهاً كبيراً، بل ان فظاعات المنظمات الإرهابية "المسيحية" كانت اكثر تفنّناً، ومنها ان فلاحة عادت الى بيتها فوجدت امها وأختها وثلاثة من أولادها يجلسون الى المائدة ورؤوسهم المقطوعة موضوعة بين ايديهم، وفي الوسط طفل رضيع في وعاء مملوء بالدم النازف من رأسه الذي دُّقت فيه المسامير.
وكان من السهل على الاستخبارات الأميركية تجنيد بعض من تعاون معها في افغانستان لتنفيذ سياستها حين تقتضي الحاجة. وفي الجزائر كان في إمكانها عبر سياسة الإرهاب هذه الحؤول دون قيام ايران ثانية في افريقيا، قد تكون اخطر عليها من الأولى، عبر إضعاف شعبية "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، ومن جهة ثانية، تُضعف النفوذ الفرنسي في إطار مطاردة هذا النفوذ في كل افريقيا، عبر إضعافها النظام الموالي له، الذي كانت بدأت تستقطب بعض سياسييه وبعض اجهزته الأمنية ليسهل تغطية هذا الإرهاب الذي ستحقق منه اميركا الهدف الأكبر منه: التشهير بالإسلام، منتج هذه الوحوش "التي يجب حماية السكان منها"، في إطار حربها المعلنة وغير المعلنة ضد الإسلام، الذي كان بدأ يشكل ايضاً خطراً جدياً على الشريك الإسرائيلي عبر المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان، وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الانتفاضة الأولى، وإلا كيف نفهم مثلاً أن جماعة اسلامية تخطط لقتل وفد سياحي اسرائيلي لكنها تقتل، بدلاً منه، وفداً يونانياً، بحجة "الخطأ" - التبرير المحبّب لدى الأميركيين والإسرائيليين -. ويذكر ان اليونان هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي حافظت على انحيازها الى الجانب العربي في الصراع مع إسرائيل، فتصبح ضحية "الإرهاب الإسلامي".
اسرائيل وعدوانها
ان هذا النوع من الإرهاب الذي يخطط له اعداء الإسلام وأعداء القضية العربية وينفّذ بأيدٍ إسلامية وأيد عربية راجع الفصل الخاص بالإرهاب في كتابي "أبعد من السلام"، بيروت 1996 تحتاجه إسرائيل كما تحتاجه اميركا لتحميل المقاومة الإسلامية، التبعات المعنوية للفظائع المنسوبة الى الإسلاميين في اماكن اخرى، التي يعرف الإعلام الصهيوني كيفية استغلالها منذ ان بدأت المؤتمرات والندوات التي كان يعقدها إسرائيليون في الولايات المتحدة في موضوع الإرهاب، وصولاً الى "المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب" الذي عقد العام 1996 في شرم الشيخ، بتحريض اسرائيلي ودعوة اميركية، اي ان الذي رعاه هما الدولتان اللتان يصفهما نعوم تشومسكي بأنهما "أكبر دولتين ارهابيتين في العالم".
أتقصّد الاستشهاد دوماً بتشومسكي، اكثر من غيره من الغربيين الناشطين في مجال حقوق الإنسان، لأنه ليبرالي اميركي الجنسية، يهودي الهوية الدينية، فأحتمي به لكي لا أتّهم بالأصولية، أو بمعاداة السلام والسامية، أو ربما بالإرهاب، شأن اي "ليبرالي عربي" يتجرّأ ويقول ما يقوله تشومسكي في الإرهاب الأميركي والإسرائيلي، وهما ينطلقان من خلفية واحدة. فالتبريرات الأميركية للإرهاب الموالي لها مقتبسة حرفياً من التبريرات الإسرائيلية، في اعتبار ان هذا الإرهاب هو، كما تسميه كلير سترلينغ "عنف للدفاع عن النفس"، في كتابها "شبكة الإرهاب"، فيردّ عليها ادوار س. هرمان في كتاب بعنوان "شبكة الإرهاب الحقيقية" بأن كل ما هو إرهاب ضد اميركا هو ردود فعل على الإرهاب الأميركي، وهذا ما يقوله تشومسكي عن الإرهاب الإسرائيلي، لولا انه يعتبر ان الإرهاب الإسرائيلي تقليد للإرهاب الأميركي، حين العكس، في رأيي، هو الصحيح.
فمن يتتبّع التبريرات الأميركية يجد انها لاحقة للتبريرات الإسرائيلية، ومستوحاة منها، كما فعلت وزارة الخارجية الأميركية، تقليداً لتصريحات إسرائيليين مسؤولين، عندما باركت علناً الأعمال الإرهابية التي كانت تقوم بها المنظمات التي اشتهرت علاقة الاستخبارات الأميركية بها وأبرزها منظمة "الكونترا" في اميركا اللاتينية، ومنظمة "اليونيتا" في افريقيا. وعلى سبيل المثال: صرّح احد قياديي منظمة "الكونترا" الى التلفزيون الأميركي العام 1989 بأنه "سيضمن عدم توافر الحياة الآمنة للساندينيين. وهذا ما قاله بن لادن الى "تلفزيون الجزيرة"، مع افتتاح الحرب على افغانستان، بأنه "لن يجعل الحياة آمنة للأميركيين قبل ان تصبح آمنة للفلسطينيين". لكن شتان بين رد الفعل الأميركي على التصريح الأول والرد على التصريح الثاني، فالإرهاب الذي تدعمه اميركا لا يجب ان يتساوى، من حيث المبدأ، مع الإرهاب الموجّه ضدها مع الاعتذار للمقارنة بين المرتزق، صاحب التصريح الأول، والمؤمن صاحب التصريح الثاني، الذي يمارس ايمانه بأسلوب خاطئ. وعندما اعترض بعض الديموقراطيين الحقيقيين في اميركا آنذاك على التأييد الرسمي الأميركي للأعمال الإرهابية، رد احد منظّري السياسة الأميركية، مايكل كنزلي، بقوله: "إن هناك اولويات اميركية اهم من حقوق الإنسان في السلفادور"، وهي عبارة تكاد تكون منقولة حرفياً عن التنظير الإسرائيلي حيال الأولويات الإسرائيلية. فكيف يتوافق مفهوم الدولة الأميركية صاحبة اول دستور ديموقراطي في العالم، مع مفهوم دولة أدانتها "منظمة الأمم المتحدة" في شبه إجماع بالعنصرية؟ "إنه امر يبعث على الجنون"، كما صرح وزير خارجية المملكة العربية السعودية، إلا ان يكون العقل الإعلامي للسياسة الأميركية هو عقل صهيوني بامتياز، إذا صدّقنا تشخيص كارل ماركس، ذي الأصول اليهودية، عن التبعية الأميركية للعقل الصهيوني، منذ اكثر من قرن. لذلك يخطئ من يراهن على فكّ الحلف الستراتيجي المعلن، بين اميركا وإسرائيل، كلما حصل اختلاف تكتيكي، لأنه عاجلاً أم آجلاً يُحسم لصالح اسرائيل. وإذا ثمة اختلاف وليس خلافاً، فهو في حجم المصالح وليس في نوعيتها. فمصالح الامبراطورية الكونية تختلف عن مصالح "امبراطورية اقليمية"، على رغم تعلق مصير الحليفة الصغرى بمصير الكبرى التي اهتز العالم من أقصاه الى أقصاه للضرر الذي لحق بها من الإرهابيين في 11 ايلول، فوضع الرئيس الأميركي كل دول العالم امام خيارين لا ثالث لهما: مع اميركا أو ضدها، مغتنماً المناسبة ليحسم معركة كونية مؤجلة منذ قيام الامبراطورية.
ذكرني خطاب الرئيس الأميركي بآخر مسرحية كتبتها نُشرت بعنوان "التحرّي" العام الماضي في بيروت وفيها يتساءل احد السجناء عما يسمى "النظام العالمي الجديد" فيشرح له زميله الأمر: "إنه لتنظيم الأنظمة، حيث يصبح لكل الأنظمة وكيل واحد فقط". وعن الأوضاع الداخلية في كل بلد يقول: "لا يعود هناك مؤسسة ناجحة، عامة أو خاصة، إلا وتابعة لإشراف الفرع المحلي للوكالة". وعندما يتساءل الأول عن هذه "الوكالة" يرد الآخر: "إنها التي ستقسم العالم الى طبقتين: طبقة الذين يملكون بطاقة من الوكالة، وطبقة المحرومين منها".
من ورط الآخر؟
ولعلني كنت متساهلاً في التوقيت عندما توقّعت حصول ذلك في العقد الثاني من القرن الجاري، بعد نشر شبكة الدروع الصاروخية، المسماة دفاعية، على وسع ارض الكوكب وفضائه، لقطع الطريق على أي تمرد محتمل. فمن الذي سرّح الإيقاع: بن لادن ام ابن بوش؟
عندما أنشأ بوش الأب "التحالف الدولي" لتدشين "نظامه العالمي الجديد"، بعد ان هيّأت له كواليسه حرب الخليج الثانية، وجد التحالف يتفكك سريعاً بعد تحقيق الهدف منه، المحصور ببلد واحد، فكان على كواليس إدارة بوش الابن ايجاد هدف لتحالف جديد اكثر دواماً، وأي هدف أفضل من الإرهاب، الذي سيجعل كل دول العالم تفتح للامبراطورية الكونية ملفّاتها الأمنية والمالية، وتالياً السياسية وإلا سيسهل اتهامها بدعم الإرهاب، بدءاً بالدول العربية التي تعرقل سلام الشرق الأوسط ما يسمح بالتساؤل إذاً: هذه الحملة العالمية هي لمكافحة الإرهاب ام لتعزيزه؟
وعلى رغم ان الخطاب الأميركي الرسمي، على لسان الرئيس بوش، يتعمّد فصل الإرهاب عن الإسلام، بعد "زلة اللسان" عن الحملة "الصليبية" التي وجد "المغرضون" انها تفضح مكنونات وعيه السياسي الذي تغذّى بمقولة المستشار الأمني عن صراع الحضارات، وعلى رغم تعمّد الفصل في الخطاب بين الحملة على الإرهاب وقضية الشرق الأوسط، فإن امين عام "جامعة الدول العربية" يشك بأنه "ليس سوى عملية نصب سياسي". وإذا هذا هو رأي أمين عام الجامعة العربية، غير المقتنع بالمناورة السياسية الأميركية، وإذا الشارع الغربي عموماً، والأميركي تحديداً، غير مقتنعين، فكيف يقنع هذا الخطاب الشارع الإسلامي عموماً والعربي تحديداً؟ وكيف يقنع الشارع الفلسطيني الغائص بدمائه وحركات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي التي غالبيتها مُدرجة على قائمة الإرهاب المطلوب مكافحته؟ وكيف يقنع الدول الداعمة للمقاومة، اي للإرهاب؟ بل كيف يقنع الدول الصديقة لأميركا، التي تعرف ان الحملة الإعلامية ضدها في اميركا هي استغلال للمناسبة لتذكيرها بأنها لا تسهّل عملية التطبيع مع إسرائيل.
وماذا عن رفض المثقف الغربي لهذا الفصل، وقد تغذّى طوال نصف قرن بالعداء للإسلام عبر الإعلام الصهيوني الذي بلغ ذروته في قضية "آيات شيطانية" التي خاض الغرب باسمها أعنف حملة تشهير، وكادت بريطانيا تعلن الحرب دفاعاً عن حق البريطاني المسلم سلمان رشدي في السخرية من دين يرى اصحابه انهم مستضعفون في الأرض، حين هي، تمنع اي كاتب، بموجب القانون، ان يناقش المزاعم الصهيونية في مسألة "المحرقة النازية".
وها هو البريطاني المسلم يقطف ثمار حملته ضد الإسلام، مغتنماً المناسبة، ليكذِّب الخطاب الغربي الذي يفصل الإرهاب عن الإسلام فيؤكد: "بلى، إنها قضية إسلام"، كما جاء في مقال له في "النيويورك تايمز".
وعندما كان الفرنسي اوليفييه روزنباخ يحصر القضية في "الأصولية"، كان كلام صموئيل هنتنغتون واضحاً في مقولته: "إن المشكلة ليست في الأصولية بل في الإسلام نفسه، كحضارة مختلفة، مهووسة بتفوقها الحضاري...".
وعلى رغم التلطيف لمقولته، في المحاضرة التي ألقاها في دولة الإمارات العربية، بعد 11 ايلول، محمّلاً اميركا بعض المسؤولية في الصراع الناشب، إلا ان المقولة باتت هاجساً راسخاً في الذهن الغربي عموماً، من حيث ان الإسلام عقبة في وجه التقدم طالما ان الحضارة الغربية هي التي تقوده. فهل هذه هي الحقيقة؟
من يراجع التاريخ السياسي للإسلام في عصر النهضة، بعد الهزة الكونية التي احدثتها الثورة الفرنسية، يجد ان النخبة الإسلامية انفعلت بها وتجاوبت معها على كل صعيد: سياسي واجتماعي وثقافي وعلمي، فبشّر الطهطاوي بالدستور الفرنسي، وساوى الكواكبي، في مجال الإصلاح الاجتماعي، بين الأنبياء وبين رجال الثورة الفرنسية، واعتبر الإمام محمد عبده ان الإسلام الحقيقي موجود في فرنسا وليس في "دار الإسلام"، ولم يتحرّج الإمام جمال الدين الأفغاني من الانتساب الى "الماسونية" التي كانت ترفع شعارات التحرر والتقدم الإنسانيين آنذاك، ثم جاء كمال أتاتورك، في مطلع القرن العشرين، فألغى "الخلافة الإسلامية" والتي كانت مستمرة منذ أربعة عشر قرناً، وباسمها حكم الأتراك خمسة قرون.
وفي المقابل، وبالتزامن مع محاولة النخبة الإسلامية اللحاق بالنهضة الأوروبية والإفادة منها والتكامل معها، كانت النخبة الصهيونية الغربية تغذّي الأصولية اليهودية، قبل ظهور النازية، لاستعادة "مملكة يهوذا" التي كانت اندثرت قبل اكثر من ألفي عام، ولتقيم دولة يهودية عنصرية على أشلاء الشعب الفلسطيني، بدعم غربي. فكيف كان في إمكان الطروحات الغربية للنخبة الإسلامية ان تشق طريقها الى الجماهير المسلمة وهي تواجه "حملة افرنجية" جديدة، بوكالة يهودية، الى "بيت المقدس"؟ ومع ذلك فإن الحركات الأصولية السياسية والدينية، التي نشأت بعد "وعد بلفور"، لم تتقبّلها الجماهير العريضة المسلمة التي سارت خلف حركات التحرر الوطني والقومي بشعاراتها النهضوية والعلمانية. ولم يبدأ التحول إلا بعد نكسة المشروع العربي للتحرير، ثم سقوطه مع زيارة الرئيس المصري الى تل ابيب وخروج مصر من الصراع العربي مع إسرائيل.
وقد لا تكون مصادفة ان الثورة الإسلامية في ايران تزامنت وأول صلح عربي مع إسرائيل، فكان اول قرار للجمهورية الإسلامية طرد البعثة الديبلوماسية الإسرائيلية من طهران لتحل منظمة التحرير الفلسطينية محلها، بعد أسر البعثة الأميركية وطردها. وعلى رغم التطويق الأميركي لما سمّي "تصدير الثورة الإسلامية"، فإن هذه الثورة، بعد دعمها للمقاومة الإسلامية ضد الاحتلال الإسرائيلي، فتحت الباب واسعاً، "للصحوة الإسلامية"، في العالمين العربي والإسلامي، كردّ فعل متأخر على "الصحوة اليهودية".
وقد يصح، لاستكمال اسباب المد الإسلامي، ان أذكّر أيضاً بسقوط المشروع الاشتراكي في العالم، الذي كان، عبر طروحات القرابة بين الإسلام والاشتراكية، التي روّجتها الأنظمة التقدمية في العالمين العربي والإسلامي، قد غذّى لدى شريحة كبرى من العرب والمسلمين، أملاً بالعدالة الاجتماعية، بعد العدالة الدولية، في حال انتصار المعسكر الاشتراكي حليف القضية الفلسطينية.
فكيف كان في الإمكان، في هذا المناخ الإحباطي، ألا تتعاطف الجماهير المهزومة عسكرياً وسياسياً واجتماعياً ودينياً مع اي شعار يعيد إليها الشعور بكرامتها المسحوقة وحقوقها المستلبة. وكيف لا تترعرع الأصوليات الإسلامية التي كانت نشأت على هامش الجمعيات الدينية التقليدية، مستفيدة من الجو الإحباطي العام للجماهير العربية والمسلمة، خصوصاً لدى الطبقات المحرومة التي قلما كانت تميز بين هذه الأصوليات المختلفة، الصادقة أو الانتهازية، المعتدلة أو المتطرفة، بوعي معاصر أو بوعي تاريخي، التي استغلت بعضها السياسة الغربية، والأميركية تحديداً، ودعمتها، ضد الأنظمة التقدمية المتحالفة مع الدول الشيوعية. "عدوة الله والإسلام"، بطريقة غير مباشرة، ثم ضد الاتحاد السوفياتي في افغانستان، بطريقة مباشرة، رافعة مستوى العلاقة معها من السرية الى العلنية، من دون ان تتحرج من تزويدها بكل عوامل القوة العصرية للتنظيمات الإرهابية، تقنية وأسلوباً، وهذا ما صرح به رئيس حركة "الجهاد الإسلامي" ايمن الظواهري لدى إعلان "الجبهة الإسلامية العالمية" مع بن لادن والتنظيمات الأخرى من مختلف الجنسيات التي انتقلت عبر "القاعدة" من تنظيمات محلية الى تنظيم اممي. لكن السياسة الأميركية بقدر ما استغلتها كحليف، استمرت في استغلالها كعدو يهدد دول العالم، فتطوّع الدول لمشاريعها، بدءاً بالدول الإسلامية، وخصوصاً العربية التي ما يزال بعضها يناضل في سبيل تطبيق قرارات الشرعية الدولية التي استباحتها "العدالة الأميركية".
ولا أكون مخطئاً اذا تصورت ان الإدارة الأميركية عدلت عن اسم "العدالة المطلقة" للحملة العالمية ضد الإرهاب الى "الحرية الدائمة"، لأنها ربما ادركت أن ربط العدالة بأميركا سيكون موضوع سخرية شعوب العالم، حين "الحرية" شعار فضفاض يتستّر به حتى اصحاب المشاريع العنصرية، أليس ان اسم الحزب النازي الجديد في النمسا هو "حزب الحرية"؟ إلا إذا كان المقصود بالحرية، اميركياً، حرية الحركة في هذا المعتقل العالمي الذي تسعى إلى تدشينه، وسيذكر التاريخ، إذا بقي هناك تاريخ، ان ياسر عرفات اطلق رصاصة التدشين عندما أطلق، هو أبو الشعب الفلسطيني، النار على أبنائه من الطلاب الفلسطينيين الذين تظاهروا ابتهاجاً "بوعيد بن لادن" ضد اميركا انتقاماً لهم، فقتل منهم بالقدر نفسه الذي قتلت إسرائيل في ذلك اليوم. كان في الإمكان إطلاق الرصاص فوق رؤوسهم، أو بين ارجلهم، أو اعتقالهم، لكن الزعيم التاريخي للثورة الفلسطينية كان يخشى، على رغم تبرّعه بالدم لضحايا نيويورك، ألا يصدّق نيّته الحسنة الجبار الأميركي فقدم له الذبائح، لكي لا ينقله من باحة السجن، حيث وضعه، الى زنزانة منفردة، في اطار الحملة "لاجتثاث جذور الإرهاب" التي تعرف اميركا انها كامنة في سياستها وفي سياسة حليفها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وفي كل العالم".
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.