أخيراً وقّعت الولاياتالمتحدة واسرائيل وايران على الاتفاقية الخاصة بتأسيس محكمة الجزاء الدولية التي ستساهم كمؤسسة كونية جديدة في وضع حد لثقافة الافلات من العقاب وجعل القرن الحادي والعشرين قرناً مختلفاً من حيث النوعية عن سابقه الذي كان قرن العنف والحروب، كما انها ستكون الآلية القانونية الوحيدة على المستوى الدولي التي ستعقد بصفة دائمة وتكون مختصة بالجرائم التي تُرتكب في اثناء النزاعات المسلحة وضد المدنيين في اوقات السلم، بالاضافة الى جريمتي العدوان وابادة الجنس البشري. وبتوقيع الدول الثلاث الذي جاء على ضوء الضغوط من منظمات حقوق الانسان، يصل عدد البلدان المنضمة الى الاتفاقية التي تم تبنيها في العاصمة الايطالية روما في 17 تموز يوليو 1998 الى 139 دولة من اصل 189 دولة عضو في هيئة الاممالمتحدة. ووصفت هذه المعاهدة بأنها ثاني اكبر انجاز في القانون الدولي بعد ميثاق الاممالمتحدة. وليس لهذه المؤسسة الدولية الجديدة ولاية ذات اثر رجعي، الا ان ذلك لن يؤثر على حقها في متابعة وملاحقة مرتكبي جرائم الحرب التي وقعت قبل دخول النظام الاساس حيز التنفيذ، ومحاكمتهم امام اي محفل دولي على اعتبار ان جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم. وسوف تكون للمحكمة صفة قضائية واستقلالية كاملة بعيداً عن الاعتبارات السياسية او الازدواجية في تطبيق المعايير. فللمحكمة الجديدة الولاية القانونية في التحقيق واستدعاء مرتكبي اخطر الجرائم على المجتمع الدولي للمثول امامها والخضوع لأحكامها. ذاك ان ثمة ادراكا متناميا بأن ما من شيء يبرر الحرب والعنف اخلاقياً، وان الانسان لم يعد مجرد اداة تستخدم لتحقيق غايات معينة، بل هو غاية في حد ذاته، فيما الحفاظ على حياته وكرامته قيمة لا يمكن المساومة عليها. اما الطغاة الذين لا يتورعون عن ابادة شعوبهم ويرتكبون داخل بلدانهم ابشع الجرائم بحق معارضيهم، فخطر كبير على الامن والسلم الدوليين. والقانون الدولي لم يعد مصمماً لحماية هذه الحكومات ورموزها بدعوى الحصانة والسيادة، وانما لحماية الافراد. وبدورها فالولاياتالمتحدة مارست معايير مزدوجة. فهي من جانب روّجت للانسجام مع القيم الجديدة لحماية حرية الافراد، ومن جانب آخر سعت الى تمييع استقلالية هذه المؤسسة والتدخل الانفرادي في التعريف المتداول لجريمة العدوان. كما ان اسرائيل التي مارست الضغوط نفسها ورفضت بقوة التوقيع على ميثاق المحكمة، كشفت نفسها كدولة خارجة على القانون تمارس انتهاكات متكررة في الاراضي العربية المحتلة. فالاستيطان يعتبر بمنزلة جريمة يُحاكم عليها القانون. وعربياً لا يزال رفض التصديق على ميثاق المحكمة، يُظهر اصحابه بمظهر التورط في انتهاكات حقوق الانسان واحتقار كرامته. فعالمنا الجديد يبنى على وعي انساني لا يبرر الحرب والعنف، والأنفاق المظلمة التي حفرتها السلطات المستبدة لشعوبها قد تغدو مصابيح مضيئة ترشد الانسان الى طريق المستقبل.