إنقاذ مريضة تسعينية من بتر الطرف السفلي    أين يقف الطب في زمن الذكاء الاصطناعي    الجيش الهندي يعلن عن "أول ليلة هادئة" في كشمير    اليوم..القمر يظهر بحجم أصغر في سماء السعودية لتزامنه مع نقطة الأوج    الناصر: أرامكو أثبتت قوة أدائها وأرباحها ر    عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى    رياح نشطة على عدة مناطق بالمملكة وأمطار على الجنوب    وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية يشهد توقيع اتفاقيات تنموية في القصيم    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة ينهي تحضيراته ل "آيسف 2025"    حاجة ماليزية تعبر عن سعادتها بالقدوم لأداء فريضة الحج    استشهاد 16 فلسطينيًا    عبدالعزيز بن سعود يرعى حفل تخريج 1935 طالبًا من كلية الملك فهد الأمنية    انطلق بمشاركة 100 كادر عربي وأوربي.. أمين الرياض: «منتدى المدن» يعزز جودة الحياة ويقدم حلولاً مشتركة للتحديات    السعودية تقود المشهد من حافة الحرب إلى طاولة التهدئة    "اعتدال" و"تليجرام" يزيلان 16 مليون مادة متطرفة في 3 أشهر    بعد 50 عامًا في المدار… سقوط مركبة سوفيتية فاشلة    القادسية ل" الثالث".. والرائد إلى" الأولى".. الاتحاد يقترب من " روشن".. والشباب يعبر الأهلي    سورلوث مهاجم أتلتيكو يتفوق على ميسي ورونالدو    تحضيرًا لجولتي الحسم في تصفيات مونديال2026.. الشرقية تجهز الأخضر لمواجهتي البحرين وأستراليا    حفل خريجي «المنشآت التدريبية» برعاية أمير تبوك.. غداً    ديوانية الأطباء تكرم البحرينية بثينة عجلان    أسرة الجهني تحتفي بزواج عمّار    احتفال آل برناوي وآل سيامي بعقد قران حمزة    91 % نسبة رضا المستفيدين عن أداء الموظفين بديوان المظالم    «المظالم» يُسجّل قفزة في رضا المستفيدين    5.6 % نمو "غير النفطية".. ارتفاع الرقم القياسي للإنتاج الصناعي    عودة «عصابة حمادة وتوتو» بعد 43 عامًا    أمريكية وابنها يحصلان على الماجستير في اليوم نفسه    الهروب إلى الخيال..    تخريج دفعة من "رواد العلا"    بتنظيم من وزارة الشؤون الإسلامية.. اختتام تصفيات أكبر مسابقة قرآنية دولية في البلقان    عبدالعزيز بن سعد يشهد حفل تخرج جامعة حائل.. غداً    المملكة تواصل ريادتها الطبية والإنسانية    القادسية يحسم لقب الدوري الممتاز لكرة القدم تحت 17 عامًا    دوليون يستكشفون إرث المملكة الحضاري ونهضتها    «الدرعية لفنون المستقبل» و«سكاتاريلا أسوسياتي» يفتتحان «البصمة الخفيفة»    أبشر.. أكثر من 33 مليون عملية إلكترونية في مارس    لوران بلان: الاتحاد لا يخشى أحدًا!    العميد على بعد خطوة من التتويج    نادي القادسية يتوّج بكأس وزارة الرياضة لكرة الماء    جراحة روبوتية لإنقاذ طفل مصاب بفشل كبدي بالرياض    22.6 مليون ريال تعويضات عام لانقطاعات الكهرباء    تعافي أسواق الأسهم بعد تقلبات أزمة رسوم الجمارك    جدة تستضيف بطولتي العالم للبلياردو والماسترز للسنوكر يوليو وأغسطس 2025    الأمير سعود بن نهار يطلع على الخدمات المقدمة للحجاج في مطار الطائف    الحصار الإسرائيلي يحرم مستشفيات غزة من توفير الغذاء للمرضى    السعودية تقود جهود السلام كأول دولة ترسل مبعوثا إلى الهند وباكستان    سحب سامة تحاصر 160 ألف شخص في منازلهم    من أعلام جازان.. اللواء الركن أحمد محمد الفيفي    مستشفى الرس ينقذ طفلا تعرض لاختناق قاتل    الأمير ناصر بن محمد يرفع الشكر للقيادة بمناسبة تعيينه نائبًا لأمير منطقة جازان بالمرتبة الممتازة    "فرع الإفتاء بعسير"يكرم القصادي و الخرد    الانتهاء من تطوير واجهات مبنى بلدية الظهران بطراز الساحل الشرقي    جامعة الإمام عبد الرحمن تكرم الفائزين ب"جائزة تاج" للتميز في تطوير التعليم الجامعي    سمو ولي العهد يجري اتصالًا هاتفيًا بسمو أمير دولة الكويت    "الشؤون الدينية" تكلف 2000 كادر سعودي لخدمة ضيوف الرحمن.. 120 مبادرة ومسارات ذكية لتعزيز التجربة الرقمية للحجاج    انقطاع النفس أثناء النوم يهدد بالزهايمر    «تعليم الرياض» يفتقد «بادي المطيري».. مدير ثانوية الأمير سلطان بن عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مئة سنة على تجديد التراث الإسلامي . سيف الدين عبدالفتاح: جامعة القاهرة التجديد ليس تبديداً والتقليد من أهم معوقاته جمال سلطان: مجلة المنار الجديد معظم الجهود تنويعات في رحلة الانسلاخ من التراث
نشر في الحياة يوم 15 - 05 - 2000

} مرّت اكثر من مئة سنة على محاولات تجديد التراث وانتهت في معظمها إلى فشل يكرر نفسه.
وجّهت "الحياة" في السياق المذكور اسئلة تناولت تقييم تلك التجارب ومدى تجاوبها مع حاجات العصر، وحدود صلة الفكر العربي الحديث بالتراث الاسلامي.
وهنا اجوبة استاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة سيف الدين عبدالفتاح ورئيس تحرير مجلة "المنار الجديد" جمال سلطان.
يقول استاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة الدكتور سيف الدين عبدالفتاح: في البداية نستطيع ان نحدد مفهوم التجديد في اطار ما يمكن تسميته بوصل ما انقطع وذلك في اطار العلوم التراثية والقدرات التي تتعلق بتطويرها بما يجيب على المستحدث من المشكلات. وواقع الامر أننا سنجد بالنسبة إلى مفهوم التجديد من يحاول مهاجمته في اطار أنه قد يمارس عمليات تبديد، الا ان ذلك ليس مسوغاً بأي حال من الاحوال للوقوف عند حدود التقليد. فكما ان التجديد ليس هو التبديد، فانه كذلك يعتبر التقليد من اهم معوقاته. وهنا يجب ان نربط مفهوم التجديد بمفهوم الإحياء: "يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله ورسوله اذا دعاكم لما يحييكم" ذلك ان التجديد ليس من معانيه ان يقطع اتصاله بما مضى ولكنه يستفيد منه ويستثمره ويراكم عليه ويزنه، حتى يتصل التراث بالواقع ويتصل الواقع بالتراث. وفي هذا السياق فليس هناك من مبرر لمن يرفضون التجديد لأن البعض يمارس تجاوزات في هذا المقام، علينا اذاً بدلاً من ان نبدد مفهوم التجديد ان نضع جملة الضوابط المنهجية التي تتعلق بمجالات التجديد وقضاياه المتنوعة.
وليس كل من ادعى التجديد يُسلم له، فالتجديد كما قلنا لا بد وان يكون موصولاً بالأصل لا يتجاوزه ولا ينتهك ثوابته، إن القاعدة الذهبية التي يؤكدها ابن القيم الجوزيه في هذا السياق، هي اننا لا بد ان نعطي للواقع حقه من الواجب، وان نعطي للواجب حقه من الواقع. فكل هذه التيارات التي اقحمت التحليلات المادية والماركسية بدعوى تجديد التراث، هي في الواقع لم تجدده وانما بددته لمصلحة ايديولوجيات معاصرة. واخطر الامور هو تسييس التراث وأدلجته، إن صح هذا التعبير.
ويشار في هذا الصدد إلى محاولات الذين استقوا مفهوماً للعقلانية من داخل التراث الغربي وأرادوا ان يسقطوه على التراث الاسلامي فبدأوا يوزعون ذلك على مناطق معينة من التراث بشكل شديد الانتقائية، مثل ان ابن رشد رائد التنوير، وان المعتزلة هم العقليون الوحيدون في الاسلام، هذه الانتقائية الشديدة تعبر عن عدم فهم لمفهوم العقل وأدواره ووظائفه في اطار الرؤية الاسلامية. إن العقل والوحي ليسا من الثنائيات المتصارعة كما أراد الفكر الغربي أن يؤكد ولكنها من الثنائيات المتزاوجة التي تثمر تجديداً لا يعبر عن تعارض بين العقل والنقل، وليس مؤلف ابن تيمية "درء التعارض بين العقل والنقل" إلا واحداً من القرائن التي تدل على ذلك الاتجاه. "والعقل من وراء الوحي ملبياً"، كما يقول الشاطبي في "الموافقات"، كما ان تقديم العقل على الوحي هو من جملة التقدم بين يدي الله ورسله. وانا ارى للوحي والعقل ادواراً متكاملة لا متصارعة.
- حاولت المدارس الفكرية المعاصرة في وقت من الأوقات ان يُحصر الاسلام في رأي هنا او هناك لتأييد سياسات موقته، مثل القول بالاشتراكية الاسلامية او الديموقراطية الاسلامية، والامر في تصوري يجب الا يعالج على هذا النحو، فهناك مفاهيم برزت في العصر الحديث تتطلب من المسلم ان يتخذ موقفاً منها، هي بحق مفاهيم الموقف، ليس من ضرورة تدفع هؤلاء ان يضفوا صفة الاسلامية على هذه المفاهيم. وقضية المفاهيم هي في اعتقادي أعقَد من ان تُضفى عليها صفة هنا او هناك.
كذلك المدارس التي جعلت الاسلام مقصوراً على العرب، انما تريد بذلك ان تحتكر الاسلام، وتحصر رحابته في ظل مفهوم قومي ضيق، وفي واقع الامر فان ذلك أيضاً، هو من اتجاهات التبديد لا التجديد، تبقى المدرسة التي نؤكد عليها وترى ان التجديد عملية ممتدة لها من الدواعي او الضرورات بمقدار ما تضع من ضوابط.
والتجديد بهدف احيائي لا يهدر ذاكرة أمة بل يستثمرها في اطار فهم الواقع، ورؤية المستقبل. ومن غير هذه الواصلة فان المسلم يفقد إما وعيه بذاته او وعي الموقف او وعيه بغيره - والامر يتعلق بمحاولة السعي والوعي في عملية التجديد.
الا ان بعض الاسلاميين ينظر إلى عملية التجديد باعتبارها حكراً عليهم في مسائل تتعلق بتسيير الحياة وتدبير امورها، على رغم ان الإسلام يدعو المسلم إلى ان يتعلم امور حياته ويتدبرها ويستشير بصددها. ذلك ان الرؤية الشورية في عملية التجديد هي من القواعد الضامنة لفاعليته ونجاعته، كما ان البعض في اطار ما يرونه من تفلت المجتمع من الاسلام والتراث يأخذون الناس بالشدة ويضيّقون عليهم ويجعلون من ذلك التضييق اصلاحاً على رغم ان عليهم ان يتعاملوا مع ذلك المجتمع في سياق من الود والتراحم: فما دخَل الرفق في شيء إلا زانه، وما دخَل العنف في شيء إلا شانه. والامور في الاصلاح تؤخذ بالتدريج، وإلا لازداد الناس تغلقاً وسُد في وجوههم، بفعل البشر باب التوبة، على رغم ان الله سبحانه جعله مفتوحاً ابداً، فهو التواب الرحيم.
- لا شك في ان هناك اجتهادات بدأت تبرز ضمن كتابات في المرحلة الاخيرة تتسم بقيمة عالية تأخذ في اعتبارها وجهات الاختلاف: الزمان، المكان، الانسان، اذ قدمت في مجالات متعددة من مثل الاقتصاد او القضاء او المرأة او في النظام السياسي ما يعبر عن اجتهادات شديدة القيمة. فنظرة إلى اجتهادات المستشار طارق البشري في ولاية المرأة، وفي ولاية غير المسلمين، وفي موضوع المواطنة، تبيّن انه يعبّر عن اجتهادات ذات رؤية منظومة تحاول ان تتعرف على طبيعة الواقع المعاش ومعادلاته، وفي اطار يستوعبه الاسلام بقواعده وقوانينه وقيمه اذ يقدم رؤى متميزة في ذلك المقام. وكذلك اجتهادات الشيخ محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله حول قضايا المرأة وولايتها، وكذلك المواطنة والتعددية، فهي امور تستحق التأمل والتقدير.
واجتهادات الدكتور محمد سليم العوا حول المؤسسية وفلسفة النظام العقابي في الإسلام والمنظومة القضائية من منظور الاسلام التي تعبّر عن اجتهادات مهمة من ناحية المؤسسة، كذلك اجتهادات فهمي هويدي حول الكثير من المفاهيم من مثل مفهوم الديموقراطية والتعددية والظاهرة الحزبية والمجتمع الاهلي، انما تعبّر عن آراء غاية في الاهمية. كذلك اجتهادات الدكتور رفعت العوضي في فلسفة النظام الديموقراطي وربط ذلك بمؤسسات. وأيضاً الدكتور حسين غانم والدكتور عبدالرحمن يسري والدكتور شوقي دنيال التي تعبّر عن منظومة تكتيكية واجتهادية تحقق مقاصد جوهر الشرع ولا تقفز على حقائق الواقع.
والاجتهادات التي يقوم عليها الدكتور علي جمعة في مقاصد الشريعة وطرائق تفعيلها انما تعبّر عن اجتهادات مهمة في ذلك المقام. وكذلك الاجتهادات في الامور بالمعاملات البنكية التي يسهم فيها الدكتور جمال عطية لتدخل ضمن هذا الخط الاجتهادي الذي يتضمن رد الناس رداً جميلاً إلى دينهم وتراثهم، وفهم الواقع الذي يعيشونه بمتغيراته.
وليست تلك الاسماء الا نماذج من هذه المدرسة التي تحاول ان تؤكد وتؤصل معنى التجديد في قضايا واقعية - وليس لأحد يأتي باجتهاد أو تجديد مخالف، أن يرمي هؤلاء بالتهم او المطاعن، فهذه ليست الا حيلة المقلد العاجز. فالقضية ليست في رفض التجديد ولكن في رفض أدعيائه والتقليد لن يحمي الأمة لأن متغيرات الزمن تتسارع، وادعاء التقليد سيجعلنا خارج الزمن مشهودين لا شاهدين، مفعول بنا لا فاعلين، فهل نستطيع ان نوصل آليات لعملية التجديد ومناهج وادوات وقواعد واصول وضوابط بما يضمن لهذه العمليات التجديدية استمراريتها وقدرتها على العطاء؟. ذلك ان هذه الكلمات التجديدية ليست إلا كلمات طيبات كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين.
الفكر التغريبي
يقول رئيس تحرير مجلة "المنار الجديد" جمال سلطان: يلاحظ ان "اسئلة النهضة" التي كانت تتردد منذ مئة عام هي نفسها التي نرددها اليوم: الحديث عن الهوية والانتماء وشروط النهضة وتحرر المرأة وعن القديم والجديد في الادب ولماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم الغرب.
ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني ان الاجوبة التي تمثل الاجتهادات المعاصرة لحل مشكلات الواقع لم تستطع ان تقدم حلولاً مقنعة يرتضيها العقل والوجدان العربي المعاصر. واستطيع ان اقول إن هذه الاجتهادات عطلت النهضة المرتجاة وعقّدت السبيل اليها اكثر من ذي قبل.
على سبيل المثال موضوع التنمية. انت عندما تقيم مشروعات للتنمية في واقع لا يزال الضمير الشعبي والوجدان العام فيه يتأسس على الدين، ثم تضع أنت كل خطط النهضة على اساس عزل الدين، هذا المقوم الخطير لتحريك طاقات الشعوب للعطاء والاخلاص والتفاخر، فأنت بذلك تضع حاجزاً سميكاً ما بين القواعد العامة في المجتمع وبين مشروعات التنمية التي انتهت إلى كونها مجرد افكار تتداولها النخبة وتحاول فرضها قسراً على الواقع وتجريعها للشعوب بالعنف والقسوة.
ثم بعد 30 أو 40 عاماً تعترف النخبة بأن هذا كله كان سراباً... راجع معي، إن شئت، التجارب التي تأسست على الاشتراكية منذ منتصف القرن وحتى سنوات قليلة خلت في مصر والعراق والجزائر وليبيا... وغيرها.
خذ على سبيل المثال تجربة تحرر المرأة. كانت المرأة العربية مثل الرجل أصابها قدراً كبيراً من الركود الفكري والتخلف الحضاري والعلمي. وكانت فعلاً تحتاج إلى نقلة مهمة ولكن كيف طرحت مسألة تحرر المرأة؟
طرحت من البداية على انها نزع الحجاب. لقد اختزل العقل التغريبي مشكلة المرأة العربية في الغطاء الذي تغطي به رأسها، وبالتالي فقد تعطلت حركة تحرر المرأة عقوداً طويلة في المجتمع العربي بسبب هذا المدخل الخاطئ لجهة أن المجتمع نظر إلى التحرر على انه نوع من الفجور والانفلات الاخلاقي، وحتى يومنا هذا مازال الوجدان الشعبي العربي اذا سمع عبارة "امرأة متحررة" فإنه يترجمها ذهنياً إلى: "امرأة عديمة الخلق والحياء".
اما بالنسبة إلى مسألة التعليم، فنلاحظ ان التعليم كان شرطاً ضرورياً لتحرر المرأة، ولكن العقل التغريبي عندما طرح مطلب التعليم ربطه منذ البداية بالاختلاط، وبالتالي فقد عقّد مسيرة تعليم المرأة وعطلها عقوداً طويلة، لأن الاسرة العربية وجدت نفسها امام خيارين: اما ان تبعث ببناتها إلى التعليم وتضحي بسلامة أمنها الاخلاقي واما ان تحافظ على شرفها وأخلاقها على حساب حرمان البنت من التعليم. ولم تكن هناك ضرورة على الاطلاق لفرض هذه المحنة على الاسرة العربية أو على المجتمع العربي ولكن العقل التغريبي لم يكن ينظر إلى الواقع وانما كان مشدوداً إلى قيم وأفكار غربية بهرته ويريد ان يبذرها في واقعه من دون أي نظر أو تقدير لخصوصيات البناء الحضاري المختلفة بين أمة وأخرى التي على اساسها تختلف أيضاً شروط النهضة.
- تستحضرني مقولة المستشرق الفرنسي المعاصر شارل بيلا، عندما سأله صحافي جزائري: ماذا تقرأ الآن، الادب العربي القديم أم الادب العربي الحديث؟ فقال: قطعاً القديم. فسأله ولماذا لا تقرأ الحديث؟ فقال لأنه أدب أوروبي مكتوب بلغة عربية.
في الواقع هذا مدخل يلخص لنا صلة الفكر العربي الحديث بالتراث، لأن الذي حدث هو انه لم يكن هناك تواصل مع التراث او حتى رغبة في التجديد بمعنى استيعاب التراث ثم التجديد من خلاله بما يتواءم مع العصر، وانما كانت هناك رؤية سلبية للغاية تجاه التراث العربي - الاسلامي والشعور بأنه قيد وبأنه عبء. ولذلك كانت معظم الجهود التي ترعى تجديداً للتراث هي في صميمها تنويعات على رحلة الإنسلاخ من التراث والهروب منه.
واذكر على سبيل المثال ان الباحث العربي الطيب تيزيني وضع مؤلفاً ضخماً من أجزاء عدة اسماه "من التراث إلى الثورة: نحو نظرية مقترحة في قضية التراث العربي"، ذكر فيه بالنص مُلخصاً هدفه ان دراسته هذه هي "تصفية حساب مع هذا التراث". ولك ان تتخيل كامل الابعاد النفسية والفكرية التي تقف وراء هذه العبارة.
وأذكر لك من تجارب اخرى، على سبيل المثال، الدراسة التي وضعها علي أحمد سعيد أدونيس "الثابت والمتحول بحث في الاتباع والابداع عند العرب"، وكانت عبارة عن عملية هدم منظم لمعالم التراث العربي الاسلامي. وتعبير الهدم ليس من عندي ولكن هو النص الحرفي لكلام أدونيس نفسه في هذا الكتاب، إذ أنه قال في مقدمة الجزء الثالث منه وعنوانه "صدمة الحداثة" ملخصاً الغاية من جهده في هذا البحث قائلاً "واذا كان التغيير يفترض هدماً للبنية القديمة التقليدية فإن هذا الهدم لا يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي وانما يجب ان يكون بآلة من داخله. إن هدم الأصل يجب أن يمارس من الاصل ذاته".
كان أدونيس مهموماً بتأسيس رؤية جديدة للحداثة الادبية فكتب في مؤلفه السابق يقول إن الحداثة ظاهرة تتمثل في تجاوز القديم العربي لكي تصهره في قديم أشمل يوناني - مسيحي - كوني.
فالذهنية العربية كانت مشدودة إلى الهدم وتصفية الحساب وكل هذا مؤشر واضح على ان الغاية لم تكن تجديد التراث انما البحث عن صيغة للهروب منه والإنسلاخ عنه.
- وبالنسبة إلى تجاوب تجارب تجديد التراث مع حاجات العصر اعتقد انها فشلت في ممارسة تجاوب فاعل وراشد مع حاجات العصر، لأنها ببساطة اتخذت موقف التابع والمقلد واللاهث تجاه الابداعات العصرية التي افرزها العقل الاوروبي القديم والجديد، على حد سواء. فالعصر كان هو العصر الاوروبي وكان التجاوب مع العصر في الوعي العربي الجديد لا يعني أن أشارك في صوغ العصر الذي نعيش فيه، وانما كان التصور هو أن أعايش او استسلم للعصر الذي صاغة الآخرون.
وبالتالي كانت التجارب التي تحاول ربط التراث العربي - الاسلامي بالعصر الجديد هي محاولات لتطويع التراث العربي بما يجعله مبرراً لمنطق وقيم العصر الاوروبي الجديد.
هذا الحكم يشمل كل تلك التجارب حتى الفكر الاسلامي الحديث نجد انه انجذب إلى هذا المأزق لجهة أن جهوده توقفت عند متابعة ورصد ونقد التيارات الفكرية التغريبية التي تعاطت مع قضايا التراث.
طه حسين، مثلاً، في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" نجده يلح على ان مصر ترتبط تاريخياً وحضارياً بشمال البحر المتوسط وليس بالمشرق. واصبح من الشائع والمعروف لدى القارئ العربي عبارة طه حسين الشهيرة، "ان سبيل النهضة هو ان نسير سير الاوروبيين وان نتبع طريقتهم حلوها ومرها حسنها وسيئها".
واذكر ان طه حسين أيضاً، عندما كان في باريس سنة 1925، كان يرسل مقالات للنشر في مصر جمعها في كتاب سماه "من بعيد"، أحد هذه المقالات وهو بعنوان "سارة برنار" كتب فيه يتغزل في فن سارة برنار وهي ممثلة مسرحية، ويقول للقارئ العربي: "إنها لم تكن تخيّل للنظارة انها تقبل أو تعانق على المسرح، بل كانت تقبل وتعانق في الحقيقة وتأتي من الافعال ما هو ابلغ في الدهشة من ذلك". ثم يعلق طه حسين على ذلك قائلاً: "كنت ارى ذلك واتساءل متى نرى في مصر نابغة كسارة برنار، او على الاقل متى تصل مصر إلى الرقي الحضاري الذي يجعلها تقدر فن واحدة مثل سارة برنار".
فتخيل معي كيف كان منطق التحضر عند شخصية في حجم طه حسين، لقد كان منطق التحضر والعصرانية عنده هو ان أذوب في القيم التي ارتضاها الغرب الحديث.
والآن اذا تجاوزنا القرن العشرين نجد ان المؤسسة الثقافية العربية مازالت مشدودة إلى المنطق نفسه. فعلى سبيل المثال كانت هناك اخيراً مفارقة صارمة تمثلت في ان "المجلس الاعلى للثقافة في مصر" اقام احتفالاً صاخباً بذكرى مرور قرنين على ميلاد الاديب الروسي بوشكين، في حين رفض المجلس نفسه ان يحتفل بمرور مئة عام على صدور مجلة "المنار" للشيخ محمد رشيد رضا، وهي حدث تاريخي في الثقافة العربية الحديثة. لأن تجربة رشيد رضا و"المنار" هي التجربة الفريدة التي حاولت التجديد من خلال التراث العربي الاسلامي.
سيف الدين عبدالفتاح
الدكتور سيف الدين عبدالفتاح، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، المستشار الأكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي مقره في القاهرة سابقاً، وعضو مؤسس لمركز الدراسات الافريقية، وعضو في مركز الدراسات الإسلامية والتوثيق. شارك في عدد من المؤتمرات الدولية في ماليزيا والإمارات العربية المتحدة وبريطانيا، وصدر له عدد من المؤلفات منها تنمية العلاقات الدولية في المنظور الإسلامي، وأشرف حتى الآن على عشر أطروحات للماجستير والدكتوراه.
جمال سلطان
تخرج جمال سلطان في كلية التربية - جامعة الزقازيق وعمل في مجلة "مختار الإسلام" وفي مركز الدراسات الإسلامية في مالطة، وأسس مجلة "الأسرة".
يعمل حالياً رئيساً لتحرير مجلة "المنار الجديد" وصدر له 30 كتاباً في التغريب وتجديد الفكر الإسلامي. وهو وكيل مؤسسي "الحزب الاجتماعي الإسلامي" في مصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.