محمية عروق بني معارض.. لوحات طبيعية بألوان الحياة الفطرية    «الأونروا»: الصراع في غزة مستمر ك"حرب على النساء"    اليوم المُنتظر    «النصر والهلال» النهائي الفاخر..    بأمر الملك.. إلغاء لقب «معالي» عن «الخونة» و«الفاسدين»    أبها يتغلب على الاتحاد بثلاثية في دوري روشن وينعش آماله في البقاء    عقد المؤتمر الصحفي لبطولة "سماش السعودية 2024" في جدة    جريمة مروّعة بصعيد مصر.. والسبب «الشبو»    أمانة الطائف تنفذ 136 مبادرة اجتماعية بمشاركة 4951 متطوعًا ومتطوعة    المملكة وأذربيجان.. تعاون مشترك لاستدامة أسواق البترول ومعالجة التغير المناخي    رئيس مجلس القيادة الرئاسي يوجه بسرعة العمل على فتح الطرقات وتقديم المساعدة    صدور بيان مشترك بشأن التعاون في مجال الطاقة بين المملكة وجمهورية أذربيجان    موعد مباراة الاتحاد القادمة بعد الخسارة أمام أبها    ميتروفيتش: لم نحسم لقب الدوري حتى الآن    أبها يهزم الاتحاد بثلاثية قاسية في رحلة الهروب من الهبوط    إدانة المنشأة الغذائية عن حادثة التسمم الغذائي وإغلاق فروعها بالرياض والخرج    "درع الوقاية 4".. مناورات سعودية – أمريكية بالظهران    بعد نحو شهر من حادثة سير.. وفاة نجل البرهان في تركيا    توسيع نطاق الاستثناء الخاص بالتصرف العقاري    31 مايو نهاية المهلة المجانية لترقيم الإبل    نمو الغطاء النباتي 8.5% بمحمية "الإمام تركي"    مدير «الصحة العالمية»: الهجوم الإسرائيلي على رفح قد يؤدي إلى «حمام دم»    غداً.. منع دخول المقيمين لمكة دون تصريح    تركي الفيصل يرعى حفل جائزة عبد الله بن إدريس الثقافية    «الدفاع المدني» محذراً: التزموا البقاء في أماكن آمنة وابتعدوا عن تجمُّعات السيول    موعد مباراة الهلال القادمة بعد الفوز على التعاون    المعرض السعودي للإضاءة والصوت SLS Expo 2024 يقود التحول في مستقبل الضوء الاحترافي والصوت    الشرطة تفرق اعتصاما مؤيدا للفلسطينيين في معهد الدراسات السياسية بباريس    الفوزان: : الحوار الزوجي يعزز التواصل الإيجابي والتقارب الأسري    رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء    جامعة الإمام عبدالرحمن تستضيف المؤتمر الوطني لكليات الحاسب بالجامعات السعودية.. الأربعاء    "ريف السعودية": انخفاض تكاليف حصاد المحاصيل البعلية بنسبة 90%    الجمعية السعودية للإعاقة السمعية تنظم "أسبوع الأصم العربي"    الصحة العالمية: الربو يتسبب في وفاة 455 ألف إنسان    إشعار المراسم الملكية بحالات سحب الأوسمة    سحب لقب "معالي" من "الخونة" و"الفاسدين"    تحويل حليب الإبل إلى لبن وإنتاج زبد يستوقف زوار مهرجان الألبان والأغذية بالخرج    الذهب يتجه للانخفاض للأسبوع الثاني    " عرب نيوز" تحصد 3 جوائز للتميز    "تقويم التعليم"تعتمد 45 مؤسسة وبرنامجًا أكاديمياً    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    المملكة: صعدنا هموم الدول الإسلامية للأمم المتحدة    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية    وفيات وجلطات وتلف أدمغة.. لعنة لقاح «أسترازينيكا» تهزّ العالم !    ب 3 خطوات تقضي على النمل في المنزل    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    قصة القضاء والقدر    كيفية «حلب» الحبيب !    من المريض إلى المراجع    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    ما أصبر هؤلاء    هكذا تكون التربية    اطلع على المهام الأمنية والإنسانية.. نائب أمير مكة المكرمة يزور مركز العمليات الموحد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مئة سنة على تجديد التراث الإسلامي . سيف الدين عبدالفتاح: جامعة القاهرة التجديد ليس تبديداً والتقليد من أهم معوقاته جمال سلطان: مجلة المنار الجديد معظم الجهود تنويعات في رحلة الانسلاخ من التراث
نشر في الحياة يوم 15 - 05 - 2000

} مرّت اكثر من مئة سنة على محاولات تجديد التراث وانتهت في معظمها إلى فشل يكرر نفسه.
وجّهت "الحياة" في السياق المذكور اسئلة تناولت تقييم تلك التجارب ومدى تجاوبها مع حاجات العصر، وحدود صلة الفكر العربي الحديث بالتراث الاسلامي.
وهنا اجوبة استاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة سيف الدين عبدالفتاح ورئيس تحرير مجلة "المنار الجديد" جمال سلطان.
يقول استاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة الدكتور سيف الدين عبدالفتاح: في البداية نستطيع ان نحدد مفهوم التجديد في اطار ما يمكن تسميته بوصل ما انقطع وذلك في اطار العلوم التراثية والقدرات التي تتعلق بتطويرها بما يجيب على المستحدث من المشكلات. وواقع الامر أننا سنجد بالنسبة إلى مفهوم التجديد من يحاول مهاجمته في اطار أنه قد يمارس عمليات تبديد، الا ان ذلك ليس مسوغاً بأي حال من الاحوال للوقوف عند حدود التقليد. فكما ان التجديد ليس هو التبديد، فانه كذلك يعتبر التقليد من اهم معوقاته. وهنا يجب ان نربط مفهوم التجديد بمفهوم الإحياء: "يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله ورسوله اذا دعاكم لما يحييكم" ذلك ان التجديد ليس من معانيه ان يقطع اتصاله بما مضى ولكنه يستفيد منه ويستثمره ويراكم عليه ويزنه، حتى يتصل التراث بالواقع ويتصل الواقع بالتراث. وفي هذا السياق فليس هناك من مبرر لمن يرفضون التجديد لأن البعض يمارس تجاوزات في هذا المقام، علينا اذاً بدلاً من ان نبدد مفهوم التجديد ان نضع جملة الضوابط المنهجية التي تتعلق بمجالات التجديد وقضاياه المتنوعة.
وليس كل من ادعى التجديد يُسلم له، فالتجديد كما قلنا لا بد وان يكون موصولاً بالأصل لا يتجاوزه ولا ينتهك ثوابته، إن القاعدة الذهبية التي يؤكدها ابن القيم الجوزيه في هذا السياق، هي اننا لا بد ان نعطي للواقع حقه من الواجب، وان نعطي للواجب حقه من الواقع. فكل هذه التيارات التي اقحمت التحليلات المادية والماركسية بدعوى تجديد التراث، هي في الواقع لم تجدده وانما بددته لمصلحة ايديولوجيات معاصرة. واخطر الامور هو تسييس التراث وأدلجته، إن صح هذا التعبير.
ويشار في هذا الصدد إلى محاولات الذين استقوا مفهوماً للعقلانية من داخل التراث الغربي وأرادوا ان يسقطوه على التراث الاسلامي فبدأوا يوزعون ذلك على مناطق معينة من التراث بشكل شديد الانتقائية، مثل ان ابن رشد رائد التنوير، وان المعتزلة هم العقليون الوحيدون في الاسلام، هذه الانتقائية الشديدة تعبر عن عدم فهم لمفهوم العقل وأدواره ووظائفه في اطار الرؤية الاسلامية. إن العقل والوحي ليسا من الثنائيات المتصارعة كما أراد الفكر الغربي أن يؤكد ولكنها من الثنائيات المتزاوجة التي تثمر تجديداً لا يعبر عن تعارض بين العقل والنقل، وليس مؤلف ابن تيمية "درء التعارض بين العقل والنقل" إلا واحداً من القرائن التي تدل على ذلك الاتجاه. "والعقل من وراء الوحي ملبياً"، كما يقول الشاطبي في "الموافقات"، كما ان تقديم العقل على الوحي هو من جملة التقدم بين يدي الله ورسله. وانا ارى للوحي والعقل ادواراً متكاملة لا متصارعة.
- حاولت المدارس الفكرية المعاصرة في وقت من الأوقات ان يُحصر الاسلام في رأي هنا او هناك لتأييد سياسات موقته، مثل القول بالاشتراكية الاسلامية او الديموقراطية الاسلامية، والامر في تصوري يجب الا يعالج على هذا النحو، فهناك مفاهيم برزت في العصر الحديث تتطلب من المسلم ان يتخذ موقفاً منها، هي بحق مفاهيم الموقف، ليس من ضرورة تدفع هؤلاء ان يضفوا صفة الاسلامية على هذه المفاهيم. وقضية المفاهيم هي في اعتقادي أعقَد من ان تُضفى عليها صفة هنا او هناك.
كذلك المدارس التي جعلت الاسلام مقصوراً على العرب، انما تريد بذلك ان تحتكر الاسلام، وتحصر رحابته في ظل مفهوم قومي ضيق، وفي واقع الامر فان ذلك أيضاً، هو من اتجاهات التبديد لا التجديد، تبقى المدرسة التي نؤكد عليها وترى ان التجديد عملية ممتدة لها من الدواعي او الضرورات بمقدار ما تضع من ضوابط.
والتجديد بهدف احيائي لا يهدر ذاكرة أمة بل يستثمرها في اطار فهم الواقع، ورؤية المستقبل. ومن غير هذه الواصلة فان المسلم يفقد إما وعيه بذاته او وعي الموقف او وعيه بغيره - والامر يتعلق بمحاولة السعي والوعي في عملية التجديد.
الا ان بعض الاسلاميين ينظر إلى عملية التجديد باعتبارها حكراً عليهم في مسائل تتعلق بتسيير الحياة وتدبير امورها، على رغم ان الإسلام يدعو المسلم إلى ان يتعلم امور حياته ويتدبرها ويستشير بصددها. ذلك ان الرؤية الشورية في عملية التجديد هي من القواعد الضامنة لفاعليته ونجاعته، كما ان البعض في اطار ما يرونه من تفلت المجتمع من الاسلام والتراث يأخذون الناس بالشدة ويضيّقون عليهم ويجعلون من ذلك التضييق اصلاحاً على رغم ان عليهم ان يتعاملوا مع ذلك المجتمع في سياق من الود والتراحم: فما دخَل الرفق في شيء إلا زانه، وما دخَل العنف في شيء إلا شانه. والامور في الاصلاح تؤخذ بالتدريج، وإلا لازداد الناس تغلقاً وسُد في وجوههم، بفعل البشر باب التوبة، على رغم ان الله سبحانه جعله مفتوحاً ابداً، فهو التواب الرحيم.
- لا شك في ان هناك اجتهادات بدأت تبرز ضمن كتابات في المرحلة الاخيرة تتسم بقيمة عالية تأخذ في اعتبارها وجهات الاختلاف: الزمان، المكان، الانسان، اذ قدمت في مجالات متعددة من مثل الاقتصاد او القضاء او المرأة او في النظام السياسي ما يعبر عن اجتهادات شديدة القيمة. فنظرة إلى اجتهادات المستشار طارق البشري في ولاية المرأة، وفي ولاية غير المسلمين، وفي موضوع المواطنة، تبيّن انه يعبّر عن اجتهادات ذات رؤية منظومة تحاول ان تتعرف على طبيعة الواقع المعاش ومعادلاته، وفي اطار يستوعبه الاسلام بقواعده وقوانينه وقيمه اذ يقدم رؤى متميزة في ذلك المقام. وكذلك اجتهادات الشيخ محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله حول قضايا المرأة وولايتها، وكذلك المواطنة والتعددية، فهي امور تستحق التأمل والتقدير.
واجتهادات الدكتور محمد سليم العوا حول المؤسسية وفلسفة النظام العقابي في الإسلام والمنظومة القضائية من منظور الاسلام التي تعبّر عن اجتهادات مهمة من ناحية المؤسسة، كذلك اجتهادات فهمي هويدي حول الكثير من المفاهيم من مثل مفهوم الديموقراطية والتعددية والظاهرة الحزبية والمجتمع الاهلي، انما تعبّر عن آراء غاية في الاهمية. كذلك اجتهادات الدكتور رفعت العوضي في فلسفة النظام الديموقراطي وربط ذلك بمؤسسات. وأيضاً الدكتور حسين غانم والدكتور عبدالرحمن يسري والدكتور شوقي دنيال التي تعبّر عن منظومة تكتيكية واجتهادية تحقق مقاصد جوهر الشرع ولا تقفز على حقائق الواقع.
والاجتهادات التي يقوم عليها الدكتور علي جمعة في مقاصد الشريعة وطرائق تفعيلها انما تعبّر عن اجتهادات مهمة في ذلك المقام. وكذلك الاجتهادات في الامور بالمعاملات البنكية التي يسهم فيها الدكتور جمال عطية لتدخل ضمن هذا الخط الاجتهادي الذي يتضمن رد الناس رداً جميلاً إلى دينهم وتراثهم، وفهم الواقع الذي يعيشونه بمتغيراته.
وليست تلك الاسماء الا نماذج من هذه المدرسة التي تحاول ان تؤكد وتؤصل معنى التجديد في قضايا واقعية - وليس لأحد يأتي باجتهاد أو تجديد مخالف، أن يرمي هؤلاء بالتهم او المطاعن، فهذه ليست الا حيلة المقلد العاجز. فالقضية ليست في رفض التجديد ولكن في رفض أدعيائه والتقليد لن يحمي الأمة لأن متغيرات الزمن تتسارع، وادعاء التقليد سيجعلنا خارج الزمن مشهودين لا شاهدين، مفعول بنا لا فاعلين، فهل نستطيع ان نوصل آليات لعملية التجديد ومناهج وادوات وقواعد واصول وضوابط بما يضمن لهذه العمليات التجديدية استمراريتها وقدرتها على العطاء؟. ذلك ان هذه الكلمات التجديدية ليست إلا كلمات طيبات كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين.
الفكر التغريبي
يقول رئيس تحرير مجلة "المنار الجديد" جمال سلطان: يلاحظ ان "اسئلة النهضة" التي كانت تتردد منذ مئة عام هي نفسها التي نرددها اليوم: الحديث عن الهوية والانتماء وشروط النهضة وتحرر المرأة وعن القديم والجديد في الادب ولماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم الغرب.
ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني ان الاجوبة التي تمثل الاجتهادات المعاصرة لحل مشكلات الواقع لم تستطع ان تقدم حلولاً مقنعة يرتضيها العقل والوجدان العربي المعاصر. واستطيع ان اقول إن هذه الاجتهادات عطلت النهضة المرتجاة وعقّدت السبيل اليها اكثر من ذي قبل.
على سبيل المثال موضوع التنمية. انت عندما تقيم مشروعات للتنمية في واقع لا يزال الضمير الشعبي والوجدان العام فيه يتأسس على الدين، ثم تضع أنت كل خطط النهضة على اساس عزل الدين، هذا المقوم الخطير لتحريك طاقات الشعوب للعطاء والاخلاص والتفاخر، فأنت بذلك تضع حاجزاً سميكاً ما بين القواعد العامة في المجتمع وبين مشروعات التنمية التي انتهت إلى كونها مجرد افكار تتداولها النخبة وتحاول فرضها قسراً على الواقع وتجريعها للشعوب بالعنف والقسوة.
ثم بعد 30 أو 40 عاماً تعترف النخبة بأن هذا كله كان سراباً... راجع معي، إن شئت، التجارب التي تأسست على الاشتراكية منذ منتصف القرن وحتى سنوات قليلة خلت في مصر والعراق والجزائر وليبيا... وغيرها.
خذ على سبيل المثال تجربة تحرر المرأة. كانت المرأة العربية مثل الرجل أصابها قدراً كبيراً من الركود الفكري والتخلف الحضاري والعلمي. وكانت فعلاً تحتاج إلى نقلة مهمة ولكن كيف طرحت مسألة تحرر المرأة؟
طرحت من البداية على انها نزع الحجاب. لقد اختزل العقل التغريبي مشكلة المرأة العربية في الغطاء الذي تغطي به رأسها، وبالتالي فقد تعطلت حركة تحرر المرأة عقوداً طويلة في المجتمع العربي بسبب هذا المدخل الخاطئ لجهة أن المجتمع نظر إلى التحرر على انه نوع من الفجور والانفلات الاخلاقي، وحتى يومنا هذا مازال الوجدان الشعبي العربي اذا سمع عبارة "امرأة متحررة" فإنه يترجمها ذهنياً إلى: "امرأة عديمة الخلق والحياء".
اما بالنسبة إلى مسألة التعليم، فنلاحظ ان التعليم كان شرطاً ضرورياً لتحرر المرأة، ولكن العقل التغريبي عندما طرح مطلب التعليم ربطه منذ البداية بالاختلاط، وبالتالي فقد عقّد مسيرة تعليم المرأة وعطلها عقوداً طويلة، لأن الاسرة العربية وجدت نفسها امام خيارين: اما ان تبعث ببناتها إلى التعليم وتضحي بسلامة أمنها الاخلاقي واما ان تحافظ على شرفها وأخلاقها على حساب حرمان البنت من التعليم. ولم تكن هناك ضرورة على الاطلاق لفرض هذه المحنة على الاسرة العربية أو على المجتمع العربي ولكن العقل التغريبي لم يكن ينظر إلى الواقع وانما كان مشدوداً إلى قيم وأفكار غربية بهرته ويريد ان يبذرها في واقعه من دون أي نظر أو تقدير لخصوصيات البناء الحضاري المختلفة بين أمة وأخرى التي على اساسها تختلف أيضاً شروط النهضة.
- تستحضرني مقولة المستشرق الفرنسي المعاصر شارل بيلا، عندما سأله صحافي جزائري: ماذا تقرأ الآن، الادب العربي القديم أم الادب العربي الحديث؟ فقال: قطعاً القديم. فسأله ولماذا لا تقرأ الحديث؟ فقال لأنه أدب أوروبي مكتوب بلغة عربية.
في الواقع هذا مدخل يلخص لنا صلة الفكر العربي الحديث بالتراث، لأن الذي حدث هو انه لم يكن هناك تواصل مع التراث او حتى رغبة في التجديد بمعنى استيعاب التراث ثم التجديد من خلاله بما يتواءم مع العصر، وانما كانت هناك رؤية سلبية للغاية تجاه التراث العربي - الاسلامي والشعور بأنه قيد وبأنه عبء. ولذلك كانت معظم الجهود التي ترعى تجديداً للتراث هي في صميمها تنويعات على رحلة الإنسلاخ من التراث والهروب منه.
واذكر على سبيل المثال ان الباحث العربي الطيب تيزيني وضع مؤلفاً ضخماً من أجزاء عدة اسماه "من التراث إلى الثورة: نحو نظرية مقترحة في قضية التراث العربي"، ذكر فيه بالنص مُلخصاً هدفه ان دراسته هذه هي "تصفية حساب مع هذا التراث". ولك ان تتخيل كامل الابعاد النفسية والفكرية التي تقف وراء هذه العبارة.
وأذكر لك من تجارب اخرى، على سبيل المثال، الدراسة التي وضعها علي أحمد سعيد أدونيس "الثابت والمتحول بحث في الاتباع والابداع عند العرب"، وكانت عبارة عن عملية هدم منظم لمعالم التراث العربي الاسلامي. وتعبير الهدم ليس من عندي ولكن هو النص الحرفي لكلام أدونيس نفسه في هذا الكتاب، إذ أنه قال في مقدمة الجزء الثالث منه وعنوانه "صدمة الحداثة" ملخصاً الغاية من جهده في هذا البحث قائلاً "واذا كان التغيير يفترض هدماً للبنية القديمة التقليدية فإن هذا الهدم لا يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي وانما يجب ان يكون بآلة من داخله. إن هدم الأصل يجب أن يمارس من الاصل ذاته".
كان أدونيس مهموماً بتأسيس رؤية جديدة للحداثة الادبية فكتب في مؤلفه السابق يقول إن الحداثة ظاهرة تتمثل في تجاوز القديم العربي لكي تصهره في قديم أشمل يوناني - مسيحي - كوني.
فالذهنية العربية كانت مشدودة إلى الهدم وتصفية الحساب وكل هذا مؤشر واضح على ان الغاية لم تكن تجديد التراث انما البحث عن صيغة للهروب منه والإنسلاخ عنه.
- وبالنسبة إلى تجاوب تجارب تجديد التراث مع حاجات العصر اعتقد انها فشلت في ممارسة تجاوب فاعل وراشد مع حاجات العصر، لأنها ببساطة اتخذت موقف التابع والمقلد واللاهث تجاه الابداعات العصرية التي افرزها العقل الاوروبي القديم والجديد، على حد سواء. فالعصر كان هو العصر الاوروبي وكان التجاوب مع العصر في الوعي العربي الجديد لا يعني أن أشارك في صوغ العصر الذي نعيش فيه، وانما كان التصور هو أن أعايش او استسلم للعصر الذي صاغة الآخرون.
وبالتالي كانت التجارب التي تحاول ربط التراث العربي - الاسلامي بالعصر الجديد هي محاولات لتطويع التراث العربي بما يجعله مبرراً لمنطق وقيم العصر الاوروبي الجديد.
هذا الحكم يشمل كل تلك التجارب حتى الفكر الاسلامي الحديث نجد انه انجذب إلى هذا المأزق لجهة أن جهوده توقفت عند متابعة ورصد ونقد التيارات الفكرية التغريبية التي تعاطت مع قضايا التراث.
طه حسين، مثلاً، في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" نجده يلح على ان مصر ترتبط تاريخياً وحضارياً بشمال البحر المتوسط وليس بالمشرق. واصبح من الشائع والمعروف لدى القارئ العربي عبارة طه حسين الشهيرة، "ان سبيل النهضة هو ان نسير سير الاوروبيين وان نتبع طريقتهم حلوها ومرها حسنها وسيئها".
واذكر ان طه حسين أيضاً، عندما كان في باريس سنة 1925، كان يرسل مقالات للنشر في مصر جمعها في كتاب سماه "من بعيد"، أحد هذه المقالات وهو بعنوان "سارة برنار" كتب فيه يتغزل في فن سارة برنار وهي ممثلة مسرحية، ويقول للقارئ العربي: "إنها لم تكن تخيّل للنظارة انها تقبل أو تعانق على المسرح، بل كانت تقبل وتعانق في الحقيقة وتأتي من الافعال ما هو ابلغ في الدهشة من ذلك". ثم يعلق طه حسين على ذلك قائلاً: "كنت ارى ذلك واتساءل متى نرى في مصر نابغة كسارة برنار، او على الاقل متى تصل مصر إلى الرقي الحضاري الذي يجعلها تقدر فن واحدة مثل سارة برنار".
فتخيل معي كيف كان منطق التحضر عند شخصية في حجم طه حسين، لقد كان منطق التحضر والعصرانية عنده هو ان أذوب في القيم التي ارتضاها الغرب الحديث.
والآن اذا تجاوزنا القرن العشرين نجد ان المؤسسة الثقافية العربية مازالت مشدودة إلى المنطق نفسه. فعلى سبيل المثال كانت هناك اخيراً مفارقة صارمة تمثلت في ان "المجلس الاعلى للثقافة في مصر" اقام احتفالاً صاخباً بذكرى مرور قرنين على ميلاد الاديب الروسي بوشكين، في حين رفض المجلس نفسه ان يحتفل بمرور مئة عام على صدور مجلة "المنار" للشيخ محمد رشيد رضا، وهي حدث تاريخي في الثقافة العربية الحديثة. لأن تجربة رشيد رضا و"المنار" هي التجربة الفريدة التي حاولت التجديد من خلال التراث العربي الاسلامي.
سيف الدين عبدالفتاح
الدكتور سيف الدين عبدالفتاح، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، المستشار الأكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي مقره في القاهرة سابقاً، وعضو مؤسس لمركز الدراسات الافريقية، وعضو في مركز الدراسات الإسلامية والتوثيق. شارك في عدد من المؤتمرات الدولية في ماليزيا والإمارات العربية المتحدة وبريطانيا، وصدر له عدد من المؤلفات منها تنمية العلاقات الدولية في المنظور الإسلامي، وأشرف حتى الآن على عشر أطروحات للماجستير والدكتوراه.
جمال سلطان
تخرج جمال سلطان في كلية التربية - جامعة الزقازيق وعمل في مجلة "مختار الإسلام" وفي مركز الدراسات الإسلامية في مالطة، وأسس مجلة "الأسرة".
يعمل حالياً رئيساً لتحرير مجلة "المنار الجديد" وصدر له 30 كتاباً في التغريب وتجديد الفكر الإسلامي. وهو وكيل مؤسسي "الحزب الاجتماعي الإسلامي" في مصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.