اتصلت بي اذاعة مونتي كارلو لتسألني عن رأيي في الحبيب بورقيبة بعد رحيله. لم أكن قد سمعت خبر وفاته، فتلقيته كما لو كنت أتلقى خبر وفاة أبي. بورقيبة كان فعلاً أبي الروحي. وحين كنت مراهقاً قرأت خطبه كما لو كانت نصوصاً مختارة. فمن هو الحبيب بورقيبة؟ أعتقد أن أفضل من عرَّفه هو الجنرال ديغول عندما كتب عنه في مذكراته: "بورقيبة يعرف كيف يكون دائماً على موعد مع التاريخ". وفعلاً كان "سي الحبيب" دائماً على موعد مع التاريخ الحديث. فقط بعد ستة شهور من الاستقلال، في آب أغسطس 1956، أصدر قوانين للأحوال الشخصية ألغت تعدد الزوجات وساوت المرأة بالرجل في طلب الطلاق لدى القاضي، واضعاً بذلك حداً للطلاق من طرف واحد، حيث كان الرجال يستبدلون نساءهم كما يستبدلون مواشيهم، وحددت سن الزواج لأن العادة المتبعة يومئذ، خصوصاً في الريف، كانت تزويج الفتاة في سن 12 منعاً لها من مواصلة الدراسة، ونظمت النسل وبذلك جنبت تونس قنبلة الانفجار السكاني المتفجرة الآن بكل عنفوانها في الجزائر والمغرب ومصر الخ. لم تكن المرأة التونسية آنذاك تطالب بأي شيء من هذه الحقوق، بل ان النساء، خصوصاً المسنات، رفضن هذه القوانين، وما زلت أتذكر كيف رد عليهن بورقيبة بصراحته النادرة في احدى خطبه الأسبوعية كما لو أن ذلك حدث بالأمس وليس قبل 44 سنة: "أعرف أنكن صوتن ضدي في الانتخابات، لكن ذلك لم يفاجئني لأنني أعرف أن ابراهام لنكولن لم يحبه العبيد لأنه حررهم. لقد كانوا يحبون عبوديتهم مثلكن، لكن بناتكن سيعلنّ: سي الحبيب كان على حق". كان أيضاً على موعد مع التاريخ الحديث عندما لم يخلط قط بين الاستعمار الفرنسي والشعب الفرنسي والحضارة والثقافة الفرنسيتين. وهذا مهم، خصوصاً اليوم، عندما نرى انفلات هذيان كراهية الإسرائيلي واليهودي والغربي في الفضاء العربي الإسلامي! وكان أيضاً على موعد مع الحداثة وتاريخها عندما استوزر منذ أول حكومة مستقلة يهوداً تونسيين. ولأنه لم يكن يوجد مسيحيون تونسيون. فقد اختار اللبناني سيسيل حوراني مستشاراً له في الشؤون الدولية. وهذا بالغ الأهمية اليوم عندما نرى المسيحيين يعاملون في الفضاء العربي الإسلامي كأهل ذمة بما في ذلك مسيحيي لبنان. وكان أيضاً على موعد مع التاريخ الحديث عندما نصح الفلسطينيين في 1964 بقبول قرار التقسيم الذي رفضوه في 1948. لكن العرب لم يكونوا على موعد مع التاريخ. بورقيبة ستبقى حداثتك وعلمانيتك في رؤوس الحديثين والعلمانيين في الفضاء العربي الإسلامي وفي العالم. * كاتب تونسي.