وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية ويشهد تخريج الدفعة (103)    كيف تصبح مفكراً في سبع دقائق؟    يهود لا يعترفون بإسرائيل !    اعتصامات الطلاب الغربيين فرصة لن تعوّض    ليفركوزن يسقط روما بعقر داره ويقترب من نهائي الدوري الأوروبي    الأهلي يتغلب على ضمك برباعية في دوري روشن    بدء إصدار تصاريح دخول العاصمة المقدسة للمقيمين العاملين خلال موسم الحج    قصة القضاء والقدر    تعددت الأوساط والرقص واحد    سعودة التاريخ وحماية الوحدة الوطنية    كيفية «حلب» الحبيب !    من المريض إلى المراجع    9 غيابات في الاتحاد أمام أبها    ب10 لاعبين.. الرياض يعود من بعيد ويتعادل مع الفتح ويخطف نقطة ثمينة    «التخصصي» العلامة الصحية الأعلى قيمة في السعودية والشرق الأوسط    رحلة نجاح مستمرة    أمير الرياض يزور مسرح المهندس محمد البواردي بمحافظة شقراء    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    «مسام» يفكك كميات ضخمة من المتفجرات في قارب مفخخ قرب باب المندب    « أنت مخلوع »..!    خان يونس.. للموت رائحة    «التعليم السعودي».. الطريق إلى المستقبل    صدور بيان مشترك بشأن التعاون في مجال الطاقة بين السعودية وأوزبكستان    "تمزق العضلة" ينهي موسم طارق حامد مع ضمك    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    وزير الطاقة يشارك في جلسة حوارية في منتدى طشقند الدولي الثالث للاستثمار    وزير الخارجية يستقبل الأمين العام للمكتب الدولي للمعارض    مركز «911» يتلقى (2.635.361) اتصالاً خلال شهر أبريل من عام 2024    القبض على فلسطيني ومواطن في جدة لترويجهما مادة الحشيش المخدر    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    الإصابة تهدد مشاركة لوكاس هيرنانديز مع فرنسا في (يورو 2024)    النفط ينتعش وسط احتمالات تجديد الاحتياطي الاستراتيجي الأمريكي    الذهب يستقر برغم توقعات ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية    محافظ بلقرن يرعى اختتام فعاليات مبادرة أجاويد2    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    قتل مواطنين خانا الوطن وتبنيّا الإرهاب    "شرح الوصية الصغرى لابن تيمية".. دورة علمية تنفذها إسلامية جازان في المسارحة والحُرّث وجزر فرسان    المملكة: الاستخدام المفرط ل"الفيتو" فاقم الكارثة بفلسطين    هاكاثون "هندس" يطرح حلولاً للمشي اثناء النوم وجهاز مساعد يفصل الإشارات القلبية    مبادرة «يوم لهيئة حقوق الإنسان» في فرع الاعلام بالشرقية    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "التحصينات"    العدل تُعلن عن إقامة المؤتمر الدولي للتدريب القضائي بالرياض    السعودية تدعو لتوحيد الجهود العربية لمواجهة التحديات البيئية التي تمر بها المنطقة والعالم    انعقاد أعمال المنتدى العالمي السادس للحوار بين الثقافات والمؤتمر البرلماني المصاحب في أذربيجان    المنتخب السعودي للرياضيات يحصد 6 جوائز عالمية في أولمبياد البلقان للرياضيات 2024    سماء غائمة بالجوف والحدود الشمالية وأمطار غزيرة على معظم المناطق    مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية    الوسط الثقافي ينعي د.الصمعان    برئاسة وزير الدفاع.. "الجيومكانية" تستعرض خططها    هكذا تكون التربية    ما أصبر هؤلاء    يجيب عن التساؤلات والملاحظات.. وزير التعليم تحت قبة «الشورى»    الهلال يواجه النصر.. والاتحاد يلاقي أحد    حظر استخدام الحيوانات المهددة بالانقراض في التجارب    زيادة لياقة القلب.. تقلل خطر الوفاة    إنستغرام تشعل المنافسة ب «الورقة الصغيرة»    أشاد بدعم القيادة للتكافل والسلام.. أمير نجران يلتقي وفد الهلال الأحمر و"عطايا الخير"    أغلفة الكتب الخضراء الأثرية.. قاتلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"كمال جنبلاط : الرجل والاسطورة" للكاتب الروسي ايفور تيموفييف . هزيمة حزيران وصعود المقاومة وضرب المطار ومواجهة نيسان 3 من 10
نشر في الحياة يوم 30 - 10 - 2000

تناول الكاتب الروسي ايغور تيمو فييف حلقة السبت 28/10/2000 في كتابه "كمال جنبلاط: الرجل والاسطورة" قصة انتخابات 1957 التي جرت في نهاية عهد الرئيس كميل شمعون واسقط فيها قادة المعارضة المسلمة جنبلاط، سلام، اليافي، الاسعد فاعطت الخطوة المبرر السياسي للثورة التي ادت الى انفجار الحرب الاهلية في ظلال الوحدة المصرية - السورية وانتهت الى منع شمعون من تجديد ولايته للمرة الثانية.
وهنا الحلقة الثالثة.
عام 1964 شهد الشرق الأوسط أحداثاً كان مقدراً لها أن تغدو ممهداً أو فاتحة للحرب العربية -الإسرائيلية الثالثة. وقبل الإعلان رسميا عن تولي شارل حلو مهمات رئاسة الجمهورية توجه إلى الإسكندرية في أيلول سبتمبر من العام المذكور للمشاركة في المؤتمر الثاني لرؤساء الدول العربية الذي دعا الرئيس جمال عبدالناصر الى عقده عاجلاً. وكان البند الرئيسي في جدول أعمال هذه القمة البحث في الموقف الناشئ عن قرار إسرائيل شق قناة لإرواء صحراء النقب من مياه نهر الأردن. ويذكر أن الخلاف على الموارد المائية لحوض الأردن بدأ عام 1959 عندما أعلنت تل أبيب خططها لاقامة شبكة مائية عامة في إسرائيل، وبلغ ذروته في خريف 1963 بعدما تصاعدت التهديدات المتبادلة بين سورية وإسرائيل وكادت الاشتباكات الحدودية المسلحة ان تدفع البلدين إلى شفير الحرب. وعلى رغم الضغوط التي مارستها سورية ودعوتها الأقطار العربية الى حل الخلاف بالقوة، أصر جمال عبدالناصر في القمة العربية الأولى في كانون الثاني يناير 1964 على حل سلمي يقضي باقامة شبكة مائية لتحويل الروافد الشمالية لنهر الأردن، وتحديد تدفق المياه إلى إسرائيل. وكان رشيد كرامي الذي حضر القمة الأولى، رفض اقتراح المصريين والسوريين ان ترابط وحدات من قواتهما في الأراضي اللبنانية لحمايتها من التطاولات الإسرائيلية، معلنا أن بلاده تفضل الحصول على مساعدات مادية لتطوير قواتها المسلحة. إلا أن مسألة التعاون العسكري طرحت مجدداً في قمة الإسكندرية الثانية في أيلول 1964، واضطر شارل حلو إلى النزول عند الضغوط المصرية والسورية فوافق على مساهمة لبنان في القيادة العربية المشتركة.
على هذه الصورة وجد لبنان نفسه بين دول المواجهة بعدما كان طوال سنين يحاول الابتعاد عن مشكلات المنطقة الساخنة. ومما ساعد على تطور الأحداث في هذا المسار أن قمة الإسكندرية اعترفت رسمياً بمنظمة التحرير الفلسطينية ومنحتها مكانة المراقب في جامعة الدول العربية، بالاضافة إلى قرار تشكيل جيش التحرير الفلسطيني. وضم شارل حلو صوته إلى القرارات المشتركة، فلم يكن أمامه خيار آخر. صحيح أنه أصر على ألا تكون لجيش التحرير الفلسطيني قواعد في الأراضي اللبنانية وأن يغادر الفلسطينيون الذين ينخرطون فيه أرض لبنان من دون رجعة. إلا أن هذه التحفظات ما كان بوسعها أن تخلّصه من الشعور بأن لبنان بدأ من الآن فصاعداً يميل بشكل خطير صوب المشاركة المباشرة في النزاع العربي - الإسرائيلي وفي المشكلة الفلسطينية، وهو أمر كان اللبنانيون نجحوا في تفاديه سنوات طويلة...
وفي مطلع عام 1967 لاحت نذر العاصفة. كانت المواجهة بين دمشق وتل أبيب تشتد بسرعة بدءاً من كانون الثاني 1965 عندما باشر السوريون شق قناة لتحويل مياه اليرموك رداً على تنفيذ مخطط الشبكة المائية الإسرائيلية. وفي آذار مارس 1965، ثم في أيار مايو وتموز يوليو 1966 سددت إسرائيل ضربات إلى المشاريع السورية شمال بحيرة طبريه فدمرت الآليات الإنشائية وأتلفت القطاع الجاهز من القناة. وأدى ذلك إلى تصعيد شديد في الاشتباكات على الحدود. وفي 7 نيسان ابريل 1967 حصل هناك اشتباك مسلح استخدم فيه الطرفان الدبابات وسلاح الجو. وفي ذلك اليوم ظهرت المقاتلات الإسرائيلية للمرة الاولى في أجواء دمشق. أثر ذلك أخذ الإسرائيليون يحشدون قواتهم على الحدود مهددين سورية بالويل والثبور إن لم تضع حداً لتوغل الفدائيين الفلسطينيين داخل إسرائيل. ورداً على هذه التهديدات طالب عبدالناصر بانسحاب قوات حفظ السلام الدولية من سيناء واستبدالها بقوات مصرية. وفي 22 أيار أعلن الرئيس المصري في كلمة أمام أفراد إحدى القواعد الجوية في سيناء عن قراره غلق خليج العقبة في وجه السفن الإسرائيلية والبواخر التي توصل المساعدات العسكرية إلى إسرائيل، وأضاف ما معناه: اليهود يهددوننا بالحرب، نقول لهم أهلاً وسهلاً، ونحن مستعدون للحرب. كان واضحاً بالنسبة الى جنبلاط أن اشتباكاً حربياً واسع النطاق يمكن أن ينشب مع إسرائيل في أية لحظة ويكون له حتماً تأثير على مصير شعوب الشرق الأوسط. حذّر الحكومة مراراً منذ بداية عام 1967 من الخطر الذي يتهدد لبنان، وأصر على ضرورة التجنيد الالزامي وتعبئة السكان وتدريبهم العسكري ونشر فصائل الدفاع المدني، وبناء الملاجئ والتحصينات على الحدود مع إسرائيل. وكان يرى أن من أولى المهمات البالغة الشأن تشكيل لواء خاص من الفلسطينيين الموجودين في لبنان حتى يقاتل ضمن الجيش اللبناني في حال اندلاع الحرب. وفي 25 أيار 1967 وزع على أعضاء الحزب التقدمي الاشتراكي إيعاز يلزمهم بالتهيؤ للتطوع في صفوف القوات المسلحة استجابة لأول نداء يصدر بهذا الخصوص. وفي كلمة ألقاها جنبلاط في مؤتمر صحافي عقده في 2 حزيران يونيو، عشية الحرب، أكد أن سبب النزاع في الشرق الأوسط ليس غلق خليج العقبة، بل احتلال فلسطين، ودعا إلى مقاومة المصالح الأميركية والبريطانية في لبنان بكل حزم، وإلى حد تجميد رساميل البلدين في حال تأييدهما اسرائيل في حربها ضد العرب.
هزيمة حزيران
كان لنبأ هزيمة الجيشين المصري والسوري وقع مؤلم جداً في نفس كمال جنبلاط. ويذكر أن هزات من هذا النوع تثير ردود فعل عصبية عادة عند الناس فينساقون للانفعال الشعوري العنيف أو اليأس والخور النفساني والبدني. إلا أن جنبلاط، على رغم العاطفة الملازمة له، لم يكن في لحظات الشدة يطلق العنان للغضب أو الذعر أو الهلع. وعندما كانت بيروت الغربية تتظاهر بعنف تأييداً لعبدالناصر كتب جنبلاط افتتاحية "الأنباء" التي جاءت كأول رد فعل منه على الكارثة وعكست بكل دقة أمزجة الرأي العام العربي في تلك الأيام: "خسرنا معركة لم يكن بالإمكان عدم خسارتها لأن أميركا مدّت إسرائيل بالعتاد بينما السوفيات لم تكن مساعدتهم بالمستوى المطلوب".
إلا أن الأحداث اللاحقة أقنعت جنبلاط بخطأ هذا الرأي. ففي 10 حزيران، وهو اليوم عينه الذي ظهرت فيه افتتاحية "الأنباء"، أعلن الاتحاد السوفياتي عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وشرع بعد هذا الإجراء بإرسال كميات كبيرة من الاسلحة والمعدات إلى مصر. ونشرت الصحف الغربية نبأ وصول المجموعات الأولى من الخبراء العسكريين السوفيات إلى القاهرة وتقديم مساعدات اقتصادية استثنائية إلى الرئيس عبدالناصر. وفي حديث استمر ساعة ونصف ساعة أكد السفير السوفياتي سروار عظيموف لجنبلاط ان موسكو مصممة على الحؤول دون تقوض النظامين التقدميين في مصر وسورية، وأنها ستبذل الغالي والنفيس لاستعادة القدرة القتالية لقواتهما المسلحة بأسرع ما يمكن.
وفي مؤتمره الصحافي بتاريخ 16 حزيران 1967 جاء تقويم جنبلاط للموقف مغايراً تماماً لما قاله في العاشر منه. وأكد هذه المرة أن المعركة الجديدة مع إسرائيل مقبلة في القريب العاجل، وأن العرب سيحرزون فيها من دون ريب نصراً حاسماً بقدراتهم الهائلة وموقعهم الجغرافي الأفضل استراتيجياً وسلاحهم الجبار المتمثل في الوحدة والتضامن.
واصل جنبلاط تأملاته وخلص إلى أن العرب يجب أن يتخلوا عن عادة إلقاء تبعة تصرفاتهم على الآخرين، ويجدوا الشجاعة الكافية للاعتراف بأخطائهم. ففي حديث أدلى به إلى مجلة "روز اليوسف" أثناء زيارته إلى القاهرة في تموز 1967 قال: "إن مصيبة العرب تكمن في الذهنية السحرية، ذهنية الكلام التي تمحض القول ثقة مبالغاً فيها حتى يقترن في أعماق الوعي بالفعل ويحل محله في غالب الأحيان". وهذا، باعتقاد جنبلاط، هو مبعث ولع العرب بالهتافات والشعارات التي تغدو بمثابة طلاسم وتعويذات سحرية لا تتجسد، كما يتصورون ويريدون، في إنجازات محسوسة، وبالتالي لا تقربهم قيد أنملة من بلوغ الأهداف المعلنة....
بعد الحرب انحسر نشاط جبهة الاحزاب والشخصيات الوطنية والتقدمية. ونشأت خلافات كثيرة بل ونزاعات بين الأحزاب التي سبق أن انضوت تحت لوائها. وحمّل جنبلاط تبعة ذلك الشيوعيين الذين تقيدوا بمواقف انفرادية حيال القضايا المبدئية مثل أسباب هزيمة العرب في الحرب، وسبل حل القضية الفلسطينية، والعروبة والوحدة العربية. ثم ان الانقسام في صفوف حركة القوميين العرب الحق ضرراً بالغاً بوحدة الجبهة. فمنذ عام 1966 ظهرت لدى زعماء الحركة اليساريين خلافات مع الرئيس عبدالناصر حول الحرب في اليمن. وبعد نكسة حزيران 1967 سلطوا على النظام المصري انتقاداً عنيفاً وأعلنوا القطيعة التامة معه. كل تلك الملابسات جعلت العمل المشترك مستحيلاً، فتوقف نشاط الجبهة في الواقع منذ بداية أيلول من العام ذاته ....
بعد حزيران 1967 نهضت حركة المقاومة الفلسطينية بخطى متسارعة. وجاءت أولى الأنباء عن العمليات الفدائية التي نفذها الفلسطينيون لتعين ملايين الناس في أرجاء العالم العربي على التخفيض من وطأة الانكسار المرتبط بالكرامة المهانة. فبعثت الآمال في النفوس باستعادة العزة الوطنية وأنعشت الأماني بأن العرب قادرون، كما كانوا في عهود العز والأمجاد، على ان يحلوا مشكلتهم بالسلاح، وأن يستعيدوا بالقوة ما انتزع منهم بالقوة، على حد تعبير عبدالناصر. وبالتدريج غدت منظمة التحرير الفلسطينية أحد الأطراف الرئيسيين في اللعبة السياسية العربية. وبعد "معركة الكرامة" في غور الاردن عندما صد المقاتلون الفلسطينيون الجيش الاسرائيلي في آذار 1968، اتسعت شعبية المنظمة الى درجة جعلت كل زعيم عربي يطمح إلى الحصول على تأييد شعبه، لا بد أن يأخذها في الاعتبار. ولم يشذ الرئيس عبدالناصر عن القاعدة من هذه الناحية. فقبل عام 1967 كان زعيم المنظمة ياسر عرفات يجد صعوبة حتى في مقابلة مدير مكتب الرئيس سامي شرف. أما في عام 1968 فقد صار عبدالناصر نفسه يحاول الظهور على الملأ برفقة عرفات، بل انه ضمه إلى الوفد الذي رافقه الى المحادثات في موسكو.
جرى تسليح الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين في لبنان على قدم وساق عام 1968. ومع أن الأردن كان مركز العمليات الفدائية آنذاك فإن قادة حركة المقاومة الفلسطينية اعتبروا لبنان منذ البداية رأس جسر مهماً، لنشر حرب الأنصار. وبعدما بدأ الفدائيون بهجومين مسلحين من الأراضي اللبنانية عام 1967 استمروا في القتال عام 1968 حتى بلغ عدد العمليات الفدائية 29، أما عام 1969 فقد شنوا 150 عملية. وكان يقيم في لبنان في نهاية الستينات ما لا يقل عن 235 ألف فلسطيني، ما مكّن حركة المقاومة من تجنيد المزيد من المقاتلين الجدد يوماً بعد يوم.
كانت الإمدادات والأسلحة والذخيرة تتوارد من سورية بانتظام على منطقة العرقوب في جنوب شرقي لبنان حين أخذت تقام قواعد الفدائيين منذ شتاء 1968-1969. واتسم بأهمية كبيرة كون الحكومة اللبنانية المضطرة إلى مسايرة النهج العربي العام، لم تضع عقبات أمام نشاط حركة المقاومة الفلسطينية. فمع أنها ظلت حتى عام 1969 محتفظة بالإشراف على مخيمات اللاجئين، وكانت لها في تلك المخيمات مخافر لرجال الأمن والمكتب الثاني، إلا أن تسليح الفلسطينيين كان يجري في الواقع على المكشوف. والشيء الأهم بالطبع هو أن حركة المقاومة الفلسطينية في لبنان كانت تتمتع بتأييد مطلق من 80 في المئة من السكان. وهذا التأييد يناهز مئة في المئة عند السنة والطلاب الراديكاليين وممثلي الأحزاب اليسارية. وتجلى هذا التحول المشهود في الرأي العام أثناء تشييع المرحوم خليل الجمل أول لبناني يستشهد أثناء أداء مهمة قتالية في نيسان 1968. فقد شارك في موكب التشييع الحاشد نحو 250 ألف شخص، وكان بينهم رئيس الوزراء عبدالله اليافي، والمفتي الشيخ حسن خالد، وممثلو جميع الأحزاب السياسية الرئيسية في البلاد.
ومن نتائج حرب حزيران 1967 بالنسبة إلى لبنان نشوء معارضة مسيحية يمينية قوية ضد "النهج". وكانت الاتصالات الأولى بين السياسيين الذين تزعموا هذه المعارضة في ما بعد، وهم الرئيس كميل شمعون والعميد ريمون اده والشيخ بيار الجميل، جرت في شباط فبراير من العام ذاته، حين اتخذوا في اجتماعاتهم السرية قرارات مهمة حول تنسيق الجهود أثناء الانتخابات النيابية المرتقبة، واتفقوا على تشكيل حلف بين أحزابهم. وجاءت هزيمة عبدالناصر التي أضعفت مواقع أنصار الشهابية وأسفرت عن تشرذم فكري بين الأحزاب اليسارية وعن تقوض ائتلافها غير الرسمي، لتخلق جواً ملائماً تماماً "للحلف الثلاثي"، فتمكن في النصف الثاني من عام 1967 وتحت شعارات مكافحة الديكتاتورية وتعسف المكتب الثاني، من أن يلف حوله قسماً كبيراً من الناخبين المسيحيين، ولاسيما أن الكنيسة المارونية أيدت منذ البداية هذا الائتلاف الجديد بين السياسيين المحافظين.
سجل الحلف الثلاثي في انتخابات ربيع 1968 نجاحاً مرموقاً فاجأ حتى المكتب الثاني الذي بذل جهده للحؤول دون نجاح مرشحي المعارضة، لكنه أخفق في مهمته كما يقول العقيد غابي لحود أحد كبار مسؤوليه. ودخل مجلس النواب عن حزب الوطنيين الأحرار كميل شمعون سبعة نواب وعن حزب الكتائب تسعة، وضاعفت الكتلة الوطنية ريمون اده حضورها بالمقارنة مع انتخابات 1964 فصارت لها ستة مقاعد نيابية. وعلى هذه الخلفية بدت متواضعة للغاية نجاحات الحزب التقدمي الاشتراكي الذي تمكّن من الحصول على سبعة مقاعد فقط، على رغم أنه ظل مع حلفائه النهجيين محتفظاً بالأكثرية النيابية. وهكذا باتت الأقلية المعارضة في مجلس النواب قوة سياسية متنفذة لا بد أن يحسب لها ألف حساب.
آلمت نتائج الانتخابات كمال جنبلاط فوصفها ب "الكارثة". واعتبر ما حدث بداية لثورة مضادة تسعى إلى إنهاء نهج الإصلاحات الاجتماعية الشهابي وتصفية الحركة الوطنية. والخطر الرئيسي باعتقاده يكمن في كون شبح الانقسام الطائفي البشع لاح في الأفق السياسي من جديد بفوز القوى المحافظة في جبل لبنان، ما ينطوي على عواقب وخيمة يصعب التكهن بها، وقد تبلغ حد انقسام البلاد بأسرها. وإذا تطورت الأحداث، بحسب هذا السيناريو، فسيكون ذلك في مصلحة إسرائيل، فهي تبيّت منذ زمن مخططات تقسيم لبنان دويلات عدة هزيلة. وكان يثير الحذر والالتفات بهذا الخصوص الاهتمام المفرط بالانتخابات من بعض الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة التي لم يخف سفيرها وليم بورتر تعاطفه مع "الحلف الثلاثي"، حتى أنه التقى كميل شمعون وسائر الزعماء المسيحيين مراراً أثناء الحملة الانتخابية...
في هذه الظروف اعتبر جنبلاط دعم المقاومة الفلسطينية مهمة ملحة من الدرجة الأولى. ورأى أنها باتت عاملاً قوياً للغاية وقادراً على توحيد جميع القوى الوطنية والتقدمية في البلاد. وكان الحزب التقدمي الاشتراكي، الرافض إمكان الحل السلمي للقضية الفلسطينية، دعا عام 1968 إلى الاعتراف بحق الفلسطينيين في العمل الفدائي، ونادى مع سائر الأحزاب الوطنية والمنظمات الشعبية بتأليف حركة لبنانية لنصرة المقاومة الفلسطينية. وفي مهرجان حاشد عقد في تشرين الثاني نوفمبر 1968 لمناسبة ذكرى وعد بلفور أعلن كمال جنبلاط أن الكفاح المسلح الفلسطيني بات أهم ظاهرة في حياة العرب بعد عام 1967، وطالب الحكومة بإلغاء جميع القرارات التي تقيّد الفلسطينيين في لبنان أو تعوق العمليات الفدائية.
ومن نهاية عام 1968 غدا موضوع إطلاق حرية العمل الفدائي من داخل الأراضي اللبنانية محور الجدل بين مختلف القوى السياسية. وقامت في بيروت في تشرين الثاني تظاهرة لطلبة الجامعتين اللبنانية والعربية احتجاجاً على التنكيل الذي تعرضت له فصائل حركة المقاومة الفلسطينية في الأردن. وعندما حاول بعض طلبة كلية الآداب الفرنسية الانضمام إلى حركة الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، قوبلوا بمقاومة ضارية من زملائهم الكتائبيين الذين افتعلوا اشتباكات دموية أصيب فيها عدد من الطلبة بجروح. واتضح أن للشيخ بشير الجميل، ابن وزير الداخلية آنذاك الشيخ بيار الجميل، دوراً في هذه الاشتباكات. وطالب جنبلاط الحكومة بالتحقيق في الحادث وإنزال أشد العقوبات بالمذنبين، مهدداً بخطوات سلبية في حال رفض الطلب، إلا أن السلطات الرسمية تجاهلت الأمر. وبعد يومين دعا المسؤولون الطالبيون اليساريون في الجامعة العربية رفاقهم الى تجمّع احتجاجي أمام مبنى الاونيسكو المقر الموقت لمجلس النواب الذي يجري ترميم مبناه في ساحة النجمة. وأنزل المتظاهرون العلم اللبناني الذي كان يرفرف فوق الاونيسكو ورفعوا صورة ضخمة لجمال عبدالناصر على واجهته.
تأزم الموقف في البلاد إلى درجة حادة. واستمرت المناوشات بين الطلبة المؤيدين للكفاح المسلح الفلسطيني وبين وزملائهم المعارضين من أعضاء المنظمة الطالبية الكتائبية. وأثناء اشتباك في طرابلس لقي الطالب بسام مرعي مصرعه. وقابل وفد من الأحزاب الوطنية والتقدمية في طرابلس الرئيس حلو، وطالب جنبلاط أثناء اللقاء باستقالة الحكومة ومعاقبة المذنبين وإقرار التجنيد الإلزامي. وأمكن بشق النفس تسوية الخلاف بين الطلبة بعدما توسطت فيه شخصيات عديدة. وتعبيراً عن المصالحة بين الفريقين وضع وفد مشترك منهما إكليلا على ضريح الجندي المجهول في 16 تشرين الثاني 1968.
إلا أن حال الهدوء لم تستمر طويلا. ففي 26 كانون الأول ديسمبر 1968 هاجم مقاتلو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين طائرة ركاب إسرائيلية في مطار أثينا. ورداً على ذلك أقدمت تل أبيب على أول عملية انتقامية كبيرة ضد لبنان. ففي 28 منه قامت مجموعة من الكوماندوس الإسرائيليين بإنزال في مطار بيروت الدولي وفجرت 13 طائرة تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط. وأثار هذا العمل العدواني الذي لم يواجه أية مقاومة من جانب الجيش وقوات الأمن، موجة من الاستنكار في العالم العربي بأسره. ووجهت الحكومة اللبنانية شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، وألّفت لجنة للتحقيق في الحادث. ودعا العاهل الأردني الملك حسين إلى عقد قمة عربية طارئة.
ونشرت جريدة "المحرر" في 31 كانون الأول مقالة لكمال جنبلاط بعنوان "فضيحة الفضائح"، حمل فيها الرئيس شارل حلو مسؤولية ما حدث، اذ هو لم يفعل شيئا لتعزيز القدرة الدفاعية للبلاد. وكتب إن الرئيس وأعوانه لم يتجرأوا على اتخاذ قرار بشراء السلاح السوفياتي ولا يزالون يعيشون على الأوهام القائلة إن الدول الغربية لن تسمح لإسرائيل بتسديد ضربة إلى لبنان.
كان جنبلاط، شأن الكثيرين من اللبنانيين، يدرك تماماً أن هدف الهجمة الانتقامية الإسرائيلية على مطار بيروت ليس إلحاق ضرر اقتصادي بلبنان، ولا سيما أن مدير شركة طيران الشرق الأوسط نجيب علم الدين كان أمّن على طائرات الشركة وسيتسلم التعويضات كاملة. فالعملية الانتقامية تهدف، في رأيه إلى دفع القوى المعترضة على وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان إلى نزاع سافر مع الفلسطينيين، سيؤدي حتما إلى اشتباكات بين اللبنانيين أنفسهم.
مطلع عام 1969 أعلن طلبة أربع جامعات في لبنان الإضراب العام احتجاجاً على عجز العهد عن حماية البلاد من التطاولات الإسرائيلية. واتسع الإضراب الذي رفع شعار حرية العمل الفدائي حتى شمل صيدا وصور ومدناً لبنانية أخرى واكتسب طابع الاضطرابات الجماهيرية التي نعتها المتطرفون من زعماء المنظمات الشبابية ب"ثورة الطلاب" على غرار حركات التمرد الطالبية التي قامت في الأقطار الأوروبية وخصوصاً في فرنسا، كذلك في الولايات المتحدة الأميركية عام 1968.
وأتضح في ربيع 1969 أن إسرائيل بلغت الهدف الذي نشدته. إذ ان عملية استقطاب المجتمع اللبناني تسارعت كثيراً. وكان زعماء الحلف الثلاثي الذين أقلقهم تصاعد الميول اليسارية بين المسلمين وتضامنهم مع حركة المقاومة الفلسطينية، اجتمعوا في مؤتمر لهم في برمانا يوم 7 آذار وأعلنوا أن "الخطر الشيوعي والصهيوني" خيّم على البلاد واقترحوا نشر قوات الأمم المتحدة على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. وغدا مؤتمر برمانا الذي اعتبر الأحداث اللبنانية الداخلية مواجهة بين المسيحيين والمسلمين، منطلقاً لانقسام في البلاد.
وفي نيسان من العام ذاته تمكّن جنبلاط، وللمرة الاولى منذ هزيمة حزيران، أن يلم شمل الأحزاب والمنظمات الوطنية واليسارية في البلاد. وتم توحيد القوى التي تمثل جميع تلاوين الأيديولوجية اليسارية على أساس دعم حركة المقاومة الفلسطينية وحق المقاتلين الفلسطينيين في شن عمليات فدائية ضد اسرائيل من الأراضي اللبنانية. وفي اجتماع عقدته تلك القوى في 21 نيسان أعلنت عن تأسيس "تجمع الأحزاب والهيئات الوطنية والتقدمية" وأقرت بياناً مشتركاً استنكرت فيه زج العهد بالجيش ضد القواعد الفلسطينية في جنوب لبنان واستثارة الاشتباكات المسلحة مع الفدائيين.
وحاولت السلطات اللبنانية الامتناع موقتاً عن استخدام القوة ضد الفلسطينيين. وبعد تشكيل قيادة الكفاح المسلح الفلسطيني في نيسان 1969 التي حاولت أن تمارس نفوذها على جميع التنظيمات العسكرية الفلسطينية في الأردن وسورية ولبنان، تصاعد نشاط الفدائيين بشكل ملحوظ على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، الامر الذي أحرج العهد الى درجة كبيرة. وكان سكوته ينطوي على خطر شن حملات انتقامية جديدة من جانب إسرائيل، بينما ينطوي استخدام الجيش على خطر نشوء خلافات مع الدول العربية واحداث انقسام في البلاد على أساس طائفي. ومع ذلك حاولت السلطات في نيسان أن تحكم السيطرة على المخيمات الفلسطينية وتقيّد نشاط الفدائيين في جنوب لبنان. وطوقت وحدات من الجيش بلدة بنت جبيل بهدف اعتقال فدائيين عادوا إليها بعد تنفيذ مهمة قتالية. ورفض أهالي البلدة تسليم الفلسطينيين. لكن هؤلاء قرروا ترك المخبأ الذي تحصنوا فيه حقنا للدماء بعد ثلاثة أيام من الحصار والتهديد بقصف البلدة. ولقي أحدهم مصرعه، واقتيد الآخرون تحت الحراسة إلى ثكنة صور.
وما إن وصل نبأ الحادث الى المخيمات حتى بدأت فيها القلاقل والاضطرابات. ودعا تجمع الأحزاب والهيئات الوطنية والتقدمية إلى القيام بمظاهرة احتجاجية كبرى في بيروت، لكنه لم يتمكن من نيل ترخيص رسمي من السلطات على رغم جهود جنبلاط. وبهدف حقن الدماء واصل جنبلاط محادثاته مع الحكومة فاقترح حلاً وسطاً هو استبدال تظاهرة بإضراب للطلبة الجامعيين وتلاميذ مدارس بيروت الغربية. إلا أن الحادث الذي جرى صباح 23 نيسان اهدر كل جهوده. فأثناء تشييع جثمان الفدائي محمد علي موسى في صيدا أطلقت قوات الأمن النار على الموكب ولقي أربعة أشخاص مصرعهم، وأصيب 29 شخصاً بجروح. وحدثت اشتباكات مماثلة في البقاع وقع فيها ضحايا أيضاً. وبعد أن ذاع النبأ في بيروت لم يعد بالإمكان منع التظاهرة.
وبحسب الاتفاق السابق بين جنبلاط والحكومة لم يشارك في المظاهرة لا هو ولا زملاؤه من قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي. وفي ذلك اليوم عقد جنبلاط ندوة فكرية لمسؤولي الحزب ألقى فيها محاضرة عن المفهوم اليوناني للجدلية. أما التظاهرة فقد مثّل الحزب فيها طلبته، وبينهم وليد جنبلاط ابن التاسعة عشرة. وتقرر أن تكون ساحة المقاصد مكاناً للتجمع، فتقاطرت عليها في الثالثة بعد الظهر وفود عن كل جامعات بيروت ومدارسها، وكذلك مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ما عدا معسكر برج البراجنة الذي كان مطوقاً بوحدات من الجيش من كل الجهات. تحرك موكب المتظاهرين في قرابة الرابعة وهم يهتفون: "عاصفة"، "عاصفة". واستقبل أول حاجز لقوات الأمن المتظاهرين بالقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه. وعلى رغم ذلك أعاد الموكب اصطفافه وواصل سيره. عندها أطلقت قوات الأمن النار، فلقي 6 أشخاص مصرعهم وجرح 46. وارتعبت الحكومة لتطور الأحداث على هذا النحو، ففرضت حظر التجول في بيروت وكلفت الجيش تولي مهمة حفظ الامن.
في اليوم التالي استقالت حكومة "الأفندي" رشيد كرامي. وأوضح رئيس الوزراء في مجلس النواب سبب استقالته مشيراً الى أن المشكلة الرئيسية التي تحول دون أداء الحكومة مهماتها هي غياب الموقف الموحّد لدى السياسيين اللبنانيين في خصوص الوجود الفلسطيني في البلاد. واعتبر جنبلاط استقالة كرامي تهرباً من المسؤولية، وقال إنه تصرف كممثل لطائفة لا كرئيس للحكومة.
الأربعاء: المواجهات الدموية الأولى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.