لا ضرورة لأن نقول "هايدبارك" لندن او "الهايدبارك" البريطاني لأنه حالة فريدة في نوعها لا توجد إلا في العاصمة البريطانية. وإن كنا نفاجأ بخطيب يقف في احدى ساحات الحي اللاتيني في باريس مهاجماً من يشاء فهو يذهب في حال سبيله او قد يعتقل بعد دقائق وتحتفظ به الشرطة الفرنسية لساعات ثم تطلق سراحه. كذلك الحال في أي عاصمة أوروبية أخرى، أو في أي مدينة مثل نيويورك قد يستوقفك صوت خطيب يقف أمام مبنى الأممالمتحدة ليطلق موقفاً أو خطاباً سياسياً في كلمات ثم ينصرف من أمام الشرطة التي ليس لديها أمر لاعتقاله. لكن الأمر يختلف في لندن التي تحتضن في وسطها مكاناً يسمح فيه لمن يشاء كل يوم أحد في الأسبوع ليطلق ما يحلو له من الخطب والمواقف والإنتقادات والشتائم أحياناً، وله أن يصرخ، ويغني، ويوزع بيانات ومجلات وصور وملصقات من دون ان يقول له احد شيئاً. هذا المكان معروف ب"هايدبارك" لكن اسمه الفعلي "زاوية الخطباء" او بالإنكليزية "سبيكر كورنرز". لكن الأهم هو ان هذا المكان المخصص لحرية الكلام بلغ من العمر 144 سنة بالتمام، وأصبح متعدد المهمات. فإلى كونه فسحة لحرية الكلام، اصبح يساعد السلطة البريطانية، عبر اجهزتها الأمنية على رصد الخطاب السياسي او الإجتماعي للخطباء بعد ان اصبحت اكثريتهم من اللاجئين الفارين من بلدانهم الى بريطانيا او المقيمين فيها لأسباب عدة. "هايدبارك" يسمّيه بعض عناصر الشرطة البريطانية "الكشّاف" لأنه تحول الى مكان تنكشف فيه مواقف جماعات تتخذ من بريطانيا مقراً لمعارضتها أنظمة الحكم وسياسات الدول. ويؤكد مسؤول في الشرطة البريطانية: ان "بعض المتطرفين" أمكن رصدهم ومتابعة تحركاتهم من خطابهم السياسي في "هايدبارك". في حين قال بعض حضور حفلات الخطب تلك، كما سمّاها هؤلاء، ان حفلات خطب "هايدبارك" هي حالياً بورصة الحكام والأنظمة، وبوصلة للتعرف الى تركيبة الجاليات الأجنبية وخصوصاً العربية والشرق الأوسطية في بريطانيا. هذا الى جانب ان هايدبارك اصبح معلماً سياحياً بين المعالم المئة المقررة للسياح في جولتهم اللندنية. ول"هايدبارك" قصة طويلة فهو لم يولد فسحة للحرية خلال زهاء قرن ونصف إلا بعد معاناة، وبعد أن تخضبت جنباته بالدم: دماء الشرطة البريطانية ودماء الناس على حد سواء. ففي العام 1855 اكتشف عدد من تجار لندن أن الزاوية الشرقية من "هايدبارك" القريبة من طريق "بارك لين" حالياً في حي "ماربل ارش" التجاري الذي يشكل بداية شارع "اوكسفورد" التجاري الضخم، اكتشفوا ان تلك الزاوية مناسبة جداً لاجتماعاتهم ومناقشة شؤون ومشكلات يواجهونها، فتقدمت مجموعة منهم بطلب الى مدير الشرطة حينذاك السير ريتشارد ماين لعقد اجتماع لهم هناك للإحتجاج على مشروع قرار ينظم عمل التجار أيام الآحاد، غير ان السير ماين رفض الطلب ولم يسمح بذلك الإجتماع. وفي شهر تشرين الأول اوكتوبر من ذلك العام قام صاحب محل للنجارة في لندن بجمع عدد من الفضوليين، على حد قول احد المسؤولين العاملين في المجلس البلدي "الكاونسل" المشرف على "هايدبارك"، وراح يتحدث اليهم في تلك الزاوية داعياً اياهم الى التضامن من اجل الترخيص لعقد اجتماعات لهم في "هايدبارك". وتقدم بطلب اذن رسمي لذلك، لكن السلطات المسؤولة تجاهلت طلبه ذاك. وبعد اسابيع من محاولته تلك انضمت مجموعة من الناشطين الى صاحب محل النجارة ذاك داعمة طلبه، وعقد الجميع اجتماعاً خطابياً في هايدبارك إلاّ أن الشرطة استدعيت على الفور وأوقفت ذاك الإجتماع معتبرة انه عمل اقرب للشغب. ومنذ ذلك الحين وضع "هايدبارك" تحت اشراف الشرطة مباشرة، الأمر الذي حال دون عقد الكثير من الإجتماعات هناك، الى ان كان العام 1859 عندما عقد اجتماع ضخم ضم الألوف من المواطنين في "هايدبارك" وذلك لدعم نابليون بونابرت في غزوه لإيطاليا. وفي عام 1862 عقد اجتماع مماثل تأييداً لريتشيوتي غريبالدي الذي قاتل لتوحيد ايطاليا وتحريرها. لكن العام 1866 كان فاصلاً في حياة "هايدبارك" ومعه بدأ "ركن المتحدثين" او "زاوية الخطباء" في "هايدبارك" يتبلور في وضعه الراهن. ففي ذلك العام شهد "هايدبارك" أعداد ضخمة من المواطنين تجمعت للتعبير عن رفضهم لمشروع قانون للإصلاحات الدستورية والسياسية في بريطانيا. وفي ذلك العام ايضاً تأسست "رابطة الإصلاح" للرد على مشروع القانون المذكور ومعارضته، وتقدمت قيادتها بطلب الى السير ماين للسماح لها بعقد اجتماع في ركن الخطباء، فرفض الطلب مجدداً واتخذت الشرطة إجراءات لتشديد حراستها لتلك المنطقة أكثر فأكثر. لكن الرابطة مضت في خططها لعقد اجتماعها في ذلك الركن وفوجئت قيادتها بإغلاق كل المنافذ المؤدية ليس فقط الى الركن بل الى ال"هايدبارك" كله تلك الحديقة المترامية بين مناطق وسط لندن من "ماربل ارش" الى "كوينز واي" و"ناتنغ هل غيت" الى "كنزنغتون فنايسبردج وهايدبارك كورنر وبارك لين". تراجعت قيادة الرابطة، لكن الجموع التي تقاطرت الى المكان في تظاهرة ضخمة لم تتراجع، بل بدأت بأعمال عنف وشغب رداً على إجراءات الشرطة. فاقتحمت تلك الجموع السياج الحديد حول منطقة "هايدبارك" من اكثر من جهة وأزالته ودخلت الى الحديقة لعقد الإجتماع. وقام بعض المتظاهرين بتكسير اغصان الأشجار في "ركن المتكلمين" وجمعوها حول جذع شجرة كبيرة وأضرموا النار فيها وتركوها الى ان تفحمت وتحول جذع الشجرة الى ما يشبه منبر الخطابة، ومنذ ذلك الحين أصبحت تلك الشجرة تعرف باسم "شجرة الإصلاحيين" او "شجرة الرابطة". نتج عن اعمال العنف تلك سقوط 260 جريحاً من الشرطة وعشرات من المواطنين، وحصل تخريب كبير في الحديقة كلها. في ظل هذا الوضع عاد السير ماين لدرس الترخيص للرابطة بعقد اجتماعها. وبعد ان استشار مفوض الأشغال في لندن يومذاك، تقرر السماح بعقد اللقاء في الموقع الذي يعرف حالياً ب"أرض الإجتماعات" وهو موقع يبعد نحو مئة وخمسين متراً من "شجرة الإصلاحيين". وفي تشرين الأول 1872 بدأ العمل رسمياً بقانون يقضي بتنظيم اللقاءات والتجمعات في "ركن المتحدثين" في هايدبارك وهي التسمية الرسمية لكلمة "هايدبارك" التي يجرى تداولها. وثبّتت لوحة تعليمات في أرض اللقاءات تعرف بالركن على ان تعقد الإجتماعات على بعد نحو اربعين متراً من تلك اللوحة. ويلزم القانون ايضاً الخطباء والمتحدثين بالحصول على إذن مسبق من وزارة الأشغال والمباني العامة قبل يومين على الأقل، على أن لا يعقد اكثر من لقاء واحد في وقت واحد. تجمّعات كبيرة لكن الأمر يختلف حالياً اختلافاً كلياً، على حد ما قال مسؤول "الكاونسل" المشار اليه، فهناك اكثر من متحدث وخطيب في وقت واحد، كما ان التجمعات هي اكبر حجماً مما حدده القانون، وربما كان اكبر تجمع ذاك الذي عقد خلال عطلة الفصح المجيد عام 1963 وشارك فيه ما بين 100 و150 الف شخص لبّوا نداءات في اطار حملة لنزع الأسلحة النووية. لكن الضوابط التي وضعت للخطباء ما زالت سارية المفعول بحسب القانون نفسه رغم ان المسؤولين لا يريدون تسليط الضوء عليها كثيراً. من تلك الضوابط تقديم الطلب المسبق من جانب اي متحدث وخطيب وأحياناً تحديد موضوع الحديث، وعدم استعمال مكبرات الصوت الكهربائية او العادية وعدم القيام بما يخالف القوانين. لكن هذه الضوابط كلها لم تمنع متحدثين ينتقدون بحدّة وبشدة الملكة ويشنّون هجوماً على الملكية، ويطرقون اي موضوع يشاؤون من الجنس والشذوذ الى الدين والسياسة الى التبشير بأي مذهب او معتقد. واستناداً الى مسؤولين يتابعون شؤون "هايدبارك" فان اهتمام البريطانيين تراجع كثيراً بهذه الظاهرة بعد ان توافرت لهم الحرية في اكثر من مجال وعبر وسائل كثيرة وخصوصاً الصيغة الحزبية، اضافة الى تراجع مشكلاتهم الإجتماعية والإقتصادية. وجاء في احصاء تاريخي للمتحدثين والخطباء خلال السنوات العشر الأخيرة: ان المتحدثين خلال السنوات الخمس الأولى منها 1988 - 1993 كانوا بنسبة 45 في المئة منهم بريطانيين والباقون 55 في المئة من الجاليات الأجنبية ومن جنسيات مختلفة بعضهم حصل على الجواز البريطاني، وبعضهم لديه اقامة دائمة والباقون ممن حصلوا على حق اللجوء الإنساني او الموقت. والنسبة الأكبر من المتحدثين هم من جنسيات شرق اوسطية وتحديداً عربية ثم ايرانية وتركية وقبرصية. اما موضوعات احاديث الخطباء خلال هذه السنوات الخمس فكانت تتعلق بالصراع بين العرب وإسرائيل مع ارتفاع في النبرة المؤيدة للفلسطينيين مع رفع اعلامهم وتوزيع منشوراتهم، تليها موضوعات مناهضة لإيران. اما موضوعات الخطباء من البريطانيين فكانت تبشيراً بالمسيحية من قبل كنائس عدة. وكانت تتعلق بالجنس والدفاع عن الشذوذ الجنسي، اضافة الى موضوعات آنية. اما خلال السنوات الخمس التالية 1993 - 1998 فان النسب تغيرت لمصلحة خطباء الجاليات من الجنسيات المختلفة: نسبة البريطانيين تراجعت الى 42 في المئة، ونسبة الجاليات ارتفعت الى 58 في المئة. وبقيت موضوعات الخطباء البريطانيين نفسها تقريباً مع اضافة ظاهرة بدأت تتزايد هي تلك الانتقادات المتبادلة بين مسيحيين ويهود. لكن المهم هو في الجانب الآخر: في خطباء الجاليات وفي موضوعات خطبهم. فقد تزايدت نسبة العرب بينهم كثيراً وخصوصاً نسبة الجزائريين، مع زيادة ملحوظة في الخطباء الإيرانيين المعارضين، وتراجعت نسبة الخطباء الفلسطينيين. وتراجع كلياً موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي، مع لفتات ترد أحياناً في بعض الخطب تهاجم التسوية السلمية من دون الوقوف عندها كثيراً. بدأ "هايدبارك" انعطافاً مهماً وتحول الى "كشّاف" فعلاً، كما قال أحد أفراد الشرطة البريطانية، للمواقف والأشخاص، وعلى رغم ان السلطات البريطانية ليست بحاجة الى معلومات كثيرة في هذا المجال لانها تعرف الكثير عمن منحتهم لجوءاً او اقامة موقتة إلا ان ما الأصداء التي بدأت تتصاعد من الخطب في "ركن الخطباء" ركن الحرية بدأ يشكل معيناً لا ينضب لها ويقدّم المعلومات بسهولة كبيرة. ويقول المحامي أمجد السلفيتي، وهو المتخصص بشؤون الدفاع عن المشكوك بهم والمتهمين والمسجونين وعن ابناء الجاليات ككل في بريطانيا، ان خطباً كهذه في الهواء الطلق لا تشكل قاعدة قانونية لتوجه اتهام لكنها مدخل لجمع المعلومات وهذا بحد ذاته منفذ للوصول الى الشك والاتهام وهو ما يجب ان يحذر منه خطباء "هايدبارك". "هايدبارك" مهرجان كل يوم احد في لندن تحول الى حالة صاخبة راحت تثير اهتمام السياح الى درجة انه اصبح رسمياً احد معالم لندن السياحية، يبدأ السياح نهارهم به. واتضح من متابعة على مدار ستة آحاد ان السياح الأوروبيين يبدأون نهارهم منذ الساعة الثامنة ب"هايدبارك" في حين ان السياح الشرق الأوسطيين وخصوصاً الخليجيين يندفعون بالمئات الى "هايدبارك" بعد الظهر ومع العصر والمساء حيث يكون خطباء شرق اوسطيون اعتلوا المنابر وراحوا ينطلقون بما لديهم من موضوعات. هذا التقسيم قد لا يكون عفوياً وربما قام به المسؤولون الذين يعطون تراخيص الكلام والخطابة، وعلى رغم ذلك الفصل فهناك من يستمر في الكلام ولو على فترات صباحاً ومساء فيتلاقى الخطباء والمتكلمون من جنسيات مختلفة وفي أزيائهم الشعبية الخاصة: هذا في العباءة الشرقية وذاك في اللباس الأفريقي وذاك على رأسه قبعة وفي عنقه عقود من خرز او على صدره ملصق يحمل شعارات. ولا تخلو الساحة المترامية على اتساع خمسمئة متر مربع تقريباً من توزيع رسوم وصور ورفع شعارات وأعلام وتوزيع مجلات. وتزيد الشرطة من روعة تلك اللوحة التشكيلية خصوصاً عندما تراقب المكان من على صهوات خيول تحيط بالمكان وأحياناً تخترق صفوف الجماعات. يثير "هايدبارك" الكثير من الإنطباعات والمشاعر ووجهات النظر لكنه يبقى متنفساً للحرية ذات الضوابط غير المرئية، الحرية غير الخطرة على احد لولا انها اخيراً وعلى الطريقة الشرق الأوسطية بدأت حكاياتها الساخنة تنتقل الى احياء وزوايا شرق اوسطية ايضاً في لندن مثل شارع "ادجوار رود" لتترك آثارها بين سكان ذلك الشارع خلافات تقليدية انتقلت مع الجاليات، وهناك خوف من ان تصبح خطرة اكثر فأكثر ومسيئة في "هايدبارك" وخارجه للإسلام والمسلمين مما يضطر مجلس السفراء العرب الذي لا يتابع حكايات "هايدبارك" الى الاهتمام بما يحصل.