الجيش الأمريكي: الحوثيون أطلقوا صواريخ وطائرات مسيرة    الأخضر يواصل استعداداته لمواجهتي باكستان والأردن    ولي العهد يتوج فريق الهلال بكأس خادم الحرمين الشريفين للموسم الرياضي 2023 – 2024    الإعلان عن إطلاق معرض جدة للتصميم الداخلي والأثاث    مدينة الحجاج "بحالة عمار" تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    الاتحاد الأوروبي يرحب بمقترح "واقعي" لوقف النار في غزة    الأمم المتحدة تحذر من خطر تعرض ملايين السودانيين للمجاعة    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    أسعار النفط تتراجع قبيل اجتماع "أوبك+"    200 دولة في العالم و66 قناة تلفزيونية نقلت نهائي كأس الملك    جمعية لياقة تستقبل وفد سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بعرعر    سفير المملكة لدى اليابان: العلاقات السعودية اليابانية خلال السبعين السنة القادمة ستكون أكثر أهمية    جامعة الطائف تقفز 300 مرتبة في تصنيف RUR العالمي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يطلق خدمة (المرشد التوعوي الرقمي)    استقبال الحجاج عبر منفذ البطحاء بالمنطقة الشرقية    انجاز جديد لميتروفيتش بعد هدفه في كأس الملك    بمتابعة وإشراف أمير تبوك.. مدينة الحجاج ب«حالة عمار» تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    ركلات الترجيح تمنح الهلال لقب كأس الملك على حساب النصر    بونو يُبكّي رونالدو بْزَّاف    موعد مباراة ريال مدريد وبورسيا دورتموند اليوم في نهائي دوري أبطال أوروبا    "أرامكو" ضمن أكثر 100 شركة تأثيراً في العالم    رصد 8.9 ألف إعلان عقاري مخالف بمايو    تدريب 45 شاباً وفتاة على الحِرَف التراثية بالقطيف    الإبراهيم يبحث بإيطاليا فرص الاستثمار بالمملكة    "كروم" يتيح التصفح بطريقة صورة داخل صورة    ضبط مقيمين من الجنسية المصرية بمكة لترويجهما حملة حج وهمية بغرض النصب والاحتيال    اختتام ناجح للمعرض السعودي الدولي لمستلزمات الإعاقة والتأهيل 2024    ثانوية «ابن حزم» تحتفل بخريجيها    ترمب: محاكمتي في نيويورك «الأكثر جنوناً»    ضبط مواطنين في حائل لترويجهما مادة الحشيش المخدر وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم بزيارة تفقدية    مشرف «سلمان للإغاثة»: 129 مليار دولار حجم المساعدات السعودية ل169 دولة في 28 عاماً    وكيل إمارة حائل يرأس اجتماع متابعة مكافحة سوسة النخيل الحمراء    خلافات أمريكية - صينية حول تايوان    «الجمارك»: إحباط تهريب 6.51 مليون حبة كبتاغون في منفذ البطحاء    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والنبوي    رياح مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    5 مبتعثات يتميّزن علمياً بجامعات النخبة    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    "سامسونغ" تستعد لطرح أول خاتم ذكي    ترقية 1699 فرداً من منسوبي "الجوازات"    المملكة ضيف شرف معرض بكين للكتاب    توجيه أئمة الحرمين بتقليل التلاوة ب"الحج"    أطعمة تساعدك على تأخير شيخوخة الدماغ    الرياضة المسائية أفضل صحياً لمرضى للسمنة    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    الخريف لمبتعثي هولندا: تنمية القدرات البشرية لمواكبة وظائف المستقبل    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    «الدراسات الأدبية» من التقويم المستمر إلى الاختبار النهائي !    كيف تصبح زراعة الشوكولاتة داعمة للاستدامة ؟    5 أطعمة غنية بالكربوهيدرات    المملكة تستضيف الاجتماع السنوي ال13 لمجلس البحوث العالمي العام القادم    كيف نحقق السعادة ؟    المعنى في «بطن» الكاتب !    تشجيع المتضررين لرفع قضايا ضد الشركات العالمية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    أمير القصيم يكرم 7 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منطقة البحيرات العظمى في قلب افريقيا . عقيدة حرب العصابات والوضع الملتهب في اوغندا
نشر في الحياة يوم 22 - 04 - 1999

في منتصف ايلول سبتمبر 1997، كتبت في صفحة "الرأي" ثلاث حلقات عن السياسة الاميركية في القارة الافريقية في ما اصطلح على تسميته في مطابخ القرار الاميركي ب"النظام الأفريقي الجديد" اوضحت فيها ان القارة القديمة ستكون معرضة لهجمة اميركية جديدة، ليس بالبعد الاستراتيجي النابع من اهمية القارة، كما فعلت ذلك الامبراطورية البريطانية والدولة الفرنسية في السابق ولكن بأسلوب "ادارة الأزمة" على الطريقة الاميركية الذي يعمد الى صقل السطح المتماسك ظاهرياً من دون النظر في التشققات او الكسور احياناً الموجودة تحته.
وجاءت زيارة الرئيس بيل كلينتون لغرب القارة ووسطها، خلال العام الماضي، والتركيز الاميركي على اوغندا كدولة محورية في منطقة البحيرات العظمى، وشهادات حسن الأداء الاقتصادي من البنك الدولي والمؤسسات المالية الاميركية والتركيز على اثيوبيا واريتريا لقيادة "منطقة تجارة تفضيلية" في منطقة القرن الافريقي والعمل على اعادة الديموقراطية ومحاربة الفساد في نيجيريا لمساعدتها لما لها من ثقل لتلعب دوراً مفتاحياً في غرب القارة، لتؤكد ما ذهبت اليه المقالات. إذ انه لا يتوقع ان تتوقف المعارك الطاحنة في القرن الافريقي وما يدور فيه في وقت قريب، كذلك لا يتوقع ازالة ما علق في نفوس الطرفين من ترسبات، وهو امر يفرض تناول اوغندا كبؤرة استقرار او توتر في منطقة البحيرات الكبرى لتأثيرها السالب والموجب في مناطق تماس ملتهبة في غربها مع الكونغو الديموقراطية وفي شمالها مع السودان وفي جنوبها مع رواندا وفي شرقها مع كينيا وتنزانيا.
وقبل الدخول في تناول اوضاع اوغندا اليوم وتأثيرات ذلك على الأمن الوطني في الدول المجاورة، لا بد من إلقاء الضوء على قاسم مشترك للاختيار الاميركي لشركائه الجدد في القارة عدا السنغال في اقصى القارة غرباً، ونيجيريا في الجنوب الغربي للقارة، وهي ان هذه الدول وصل حكامها الى سدة الرئاسة فيها عن طريق حرب العصابات.
فرؤساء اوغندا واريتريا وأثيوبيا لديهم، غير حرب العصابات الطويلة، قواسم مشتركة اخرى منها:
أ ثلاثتهم كانوا من التيار الماركسي المتطرف الصيني.
ب ثلاثتهم يمثلون في بلدانهم أقلية أثنية.
ج ثلاثتهم تلاميذ للمعلم نيريري سابقاً في الرؤية الافريقية للاشتراكية.
د ثلاثتهم بدلوا ولاءاتهم القديمة بتحالف جديد مع القطب الأوحد.
و ثلاثتهم تبنوا نهجاً جديداً من "الديموقراطية الهلامية" التي لا تتسق مع القيم الديموقراطية السائدة التي يبشر بها القطب الأوحد كسيدٍ للعالم الحر.

وللدخول في تناول اوضاع اوغندا كنموذج، وكدولة ذات تأثير بارز في السلام والاستقرار في السودان، للروابط والتداخل العرقي مع الجنوب، وللعلاقة المتميزة والصداقة التي تربط بين قائد حركة التمرد في السودان العقيد جون قرنق والرئيس يوري موسفيني، لا بد من تناول عقيدة حرب العصابات الافريقية، والمأزق المنهجي الذي تؤدي اليه افرازاتها حتى ولو نجحت ميليشياتها في الوصول الى سدة الرئاسة.
فحرب العصابات التي يرمز اليها المصلح الغربي ب: "GUERILLA WARFARE" اخذت هذا الاسم من اللغة الاسبانية وهي تعني "الحروب الصغيرة غير النظامية" وتعني بالضرورة قيام مجموعة صغيرة بمحاربة قوة نظامية كبيرة لهدف جدير بالتضحية. وعقيدتها تعتمد المقدرة الاستخبارية العالية، وعدم مواجهة الخصم في معارك مفتوحة، والعمل على انهاك الخصم وتشتيت جهوده بحرب استنزاف طويلة والاعتماد على مبدأ المباغتة بتكتيكات عرفت ب"أزآر في الشرق، واضرب في الغرب، ثم اهرب".
نمت هذه العقيدة القتالية في افريقيا في ظروف سياسية اختلفت باختلاف الدول والأسباب وكمثال لذلك:
أ في اقطار مستعمرة، حين رفضت قوى الاحتلال انتقال السلطة الى الوطنيين.
ب في اقطار يغلب عليها التنوع العرقي، ويظهر شعور بعض الجماعات العرقية بالتهميش.
ج في اقطار نمت فيها مذهبية عقائدية او صبغ اقتسام السلطة فيها صراع مذهبي او طبقي.
اذا نظرنا تاريخياً الى مثل هذه الحرب في منطقة البحيرات الكبرى زائير سابقاً، رواندا وبوروندي، اوغندا، وجنوب السودان نجد انها تكونت من خلايا صغيرة مؤمنة بأهدافها، لديها قيادات ملهمة، اجتذبت متحمسين آخرين، ثم تطورت وكبرت حتى صارت جيوشاً اشبه بالنظامية مثال لذلك جوزيف لاقو، مويس تشومبي، أجوكو، بول كاقامي، يوري موسفيني، وجون قرنق بعضهم مكنه انتماؤه العرقي لحرية الحركة بين مواطنيه، لامداده وحمايته، وهو تكتيك في حرب العصابات وصفه ماوتسي تونغ ب"لا بد ان يكون قائد حرب العصابات بين عصبيته اولاً، متمكناً من حرية الحركة بينهم كالأسماك في بيئتها المائية".
ولما كانت معظم قوات حرب العصابات في هذه المنطقة الملتهبة من افريقيا للعقود الأربعة الماضية تواجه جيوشاً اكبر منها حجماً، واكثر منها تدريباً وتتمتع وحداتها بزخم ناري لا يقارن بما تملك من اسلحة، ونسبة لأنها كلها تستقي استراتيجياتها وتكتيكاتها من نبع واحد، لجأت الى عقيدة او تشتيت خصومهم او دحرهم.
واعتمد كل قادة حرب العصابات الأفارقة في منطقة البحيرات الكبرى على:
1 أضرب ثم أهرب.
2 ضرب الأهداف الرخوة السهلة، للاثارة الاعلامية فقط، ثم ضرب المفاصل الضعيفة تكتيكات الكواسر الافريقية في الغابة.
3 التركيز على ضرب الأهداف الاقتصادية، بما في ذلك البنى التحتية للاقتصاد، وما لذلك من آثار سالبة حين وصول هذه الميليشيات للحكم في دولة شاركوا في تحطيم بناها التحتية والاقتصادية. مع تجنب ضرب الأهداف العسكرية لتكلفة الانتصار عليها "المعدات والأفراد".
4 التحول التدريجي من ضرب الأهداف الاقتصادية والعسكرية الرخوة، الى إحداث اكبر قدر من المعاقين "لا الموتى" مع القوات النظامية "باستخدام ا لالغام المضادة للأفراد"، لاعتقادهم بأن ذلك يشكل مشكلة لقادة الميدان في عمليات الاخلاء، ثم الضغط على الحكومات من ذوي المعاقين والرأي العام بعدم جدوى القتال. لكن الجيوش النظامية، لجأت للأسلوب نفسه الألغام ما حول هذا السلاح الى عقيدة الأرض المحروقة وجعل افريقيا ومنطقة البحيرات صاحبة اعلى رقم للألغام في الكيلومتر المربع الواحد ما ادى الى تعطيل الأرض وعرقلة عمليات التنمية وتأخير الاعمال لعقود طويلة.
5 لما كانت عقيدة حرب العصابات تقوم على مبدأ عدم تسجيل انتصار ساحق ضد القوات النظامية، وتميل الى سياسة الانهاك والاستنزاف لجر الدولة الى طاولة المفاوضات نجد نتيجة لهشاشة الجيوش النظامية وغياب استراتيجية الدولة تحت حكم النخب نشوء ما تعارف عليه بدائرية الحرب. اي بعبارة اخرى، وصول رجال حرب العصابات الى الحكم، وتحول بقايا الجيوش النظامية الى مجموعات تقاتل الدولة الجديدة بعقلية خصومهم السابقين. اي تحول الجيوش النظامية السابقة الى رجال حرب عصابات في الأدغال.
والمثال على ذلك الكونغو الديموقراطية، واوغندا. فحين لاحت بوادر النصر لقوات كابيلا في الكونغو، وموافقة الديكتاتور السابق، موبوتو على التفاوض لايجاد حل سياسي، ضغط كابيلا في اتجاه النصر العسكري الحاسم من دون ان يرى خلف جدار السلطة، امكان تحول المهزوم الى متمرد على السلطة الجديدة في منطقة لديها إرث طويل من التمرد والتمرد المضاد.
وفي اوغندا وهي الدولة المصطنعة والمركبة تركيباً متنافراً، لم ير يوري موسفيني، ان القوى التي ركبت هذه الممالك المتنافرة تاريخياً، والقوى التي ساندته وأوصلته الى الحكم، ستفرز بصورة حتمية قوى اخرى تنازعها السلطان والنفوذ في دولة مفصلية تقع في منطقة القلب لاعصار المصالح والاستقطاب للقوى الكبرى وبعض مراكز النفوذ الاقليمي في القارة الفتية.
النموذج الاوغندي
حدود الدولة الاوغندية الحالية مثل غيرها من الدول الافريقية، رسمتها السياسة البريطانية خلال حقبة استعمار القارة. وتشكلت من ممالك متناحرة متحاربة هي: مملكة البوغاندا في الوسط، والبوسوغا في الشرق، والبونيورو في الغرب ومملكتا التورو والأنكومي في الجنوب الغربي. وكانت توجد قبائل في الشمال واقصى الشرق تخضع لزعماء قبليين، لكنها لم تعرف النظم الادارية المتطورة، ولم يخضع منتسبوها لأي سلطة مركزية ولم تدفع في حياتها خراجاً أو ضرائب لأي سلطة، كقبائل الأشولي، التي يوجد نصفها الآخر داخل حدود السودان الجغرافية، وقبائل الكراواج التي يوجد نصفها الآخر داخل حدود كينيا الحالية. كل هذا الخليط المتنافر غير المتسق تم دمجه داخل الدولة الجديدة التي سميت اوغندا بعد ان تم حذف حرف B من اكبر الممالك في الدولة الجديدة وأعرقها اي مملكة البوغاندا BUGANDA التي كان يحكمها "الكباكا".
سميت هذه الدولة بعد الاستقلال "دولة اوغندا المستقلة" حين احتفظت كل واحدة من الممالك المكونة لها بنوع من انواع الحكم الذاتي. ففي 1962 اصبح ملتون أبوتي رئيساً للوزراء واصبح الكبابا ملك البوغاندا رأساً رمزياً للدولة، علماً بأن الدكتور ميلتون أبوتي ينتمي الى قبائل اللانجي في اقصى الشمال الغربي، وهم يمتون بصلة قرابة ودم مع ابناء عمومتهم من قبائل الزاندي والأمادي في الجزء الغربي من الاقليم الاستوائي في السودان.
سارت الأمور بصورة لا بأس بها حتى عام 1966، حين عزل الدكتور أبوتي الكباكا ملك البوغاندا من منصب رأس الدولة، وألغى النظام الإداري لمملكة الكباكا وأعلن نفسه رئيساً لاوغندا التي تحولت حينها الى جمهورية اوغندا. ولم يكن أبوتي يعلم بأن هذه الخطوة غير المحسوبة ستجر عليه وعلى بلاده عقوداً من الحروب الطاحنة وعدم الاستقرار.
ففي 1971 أطاح انقلاب عسكري قاده القائد العام للجيش الاوغندي الجنرال عيدي أمين دادا بحكومة الرئيس أبوتي. حكومة أمين شهدت عامين فقط من الهدوء والتسامح بين مكونات الدولة الاوغندية، قبل ان يتحول نظام الجنرال أمين الى واحد من أكثر النظم دموية وقهراً في اقليم البحيرات.
افرازات القهر والدم والنزوح في نظام أمين امتدت آثارها الى الدول المجاورة بحكم التداخل العرقي وعدم وجود حدود طبيعية، الأمر الذي دفع تنزانيا الى وضع يدها وقواتها في تحالف مكشوف مع جيش التحرير الاوغندي إذ دخلت قواتها العاصمة كمبالا وأطاحت بحكومة الجنرال أمين في 1978.
أعقبت ذلك حكومة انتقالية بقيادة البروفسور يوسف لولى، ممهدة لعودة الدكتور ملتون ابوتي للحكم بعد الانتخابات العامة في 1980. ملتون ابوتي لم يتعلم من دروس الماضي ولا فهم التركيبة الاوغندية الهشة والمعقدة. اتسمت فترته الثانية بالدموية والقهر والانتقام من كل من كان له ضلع أو دور في اخراجه من الحكم عام 1971.
للعداوات التاريخية المستحكمة بينه وبين مملكة البوغاندا القوية الراسخة، أخرج كل ضباط البوغاندا من الجيش، وركز التجنيد وسط قبائل الشمال فقط "الأشولي" و"اللانجيز" في الشمال الغربي حتى أصبح الجيش مؤسسة خاصة لقبائل الشمال. يوري موسفيني ابن الجنوب الغربي - وكان وقتها عضواً في مجلس الدفاع الأعلى - خرج الى الغابة في مناطق جبال القمر حدود زائير ورواندا وأسس مجموعة صغيرة من قبيلته وأبناء عمومتهم التوتسي، بدأت في النمو والسيطرة على جنوب غرب اوغندا في منطقة الغابات المطيرة بين بحيرتي ألبرت وفكتوريا.
جنرالات الأشولي، والجنرال توتي أكيلو، والعميد بازيليو أكيلو، الذين دان لهم الجيش شعروا بأن سياسة أبوتي وعقدة الانتقام المتأصلة في نفسه ستقود القطر الى التمزق وعدم الاستقرار، فقرروا الاطاحة بالديكتاتور أبوتي. لكن الخلاف سرعان ما دبّ بينهم وانقسم الأشولي على انفسهم الأمر الذي مكن ميليشيات موسفيني من دخول العاصمة كمبالا، وتبدلت الأدوار. مليشيات الغابة دخلت المدن، وجيش المدن تحول الى ميليشيات ذهبت هي الأخرى للغابات في الشمال هذه المرة، مكونة جيش المقاومة الوطني وذهب الجنرال اكيلو الى تنزانيا وعاد بعد فترة الى اوغندا ليموت في بلدته قولو. ودخل العميد أكيلو الى أراضي أبناء عمومته الأشولي داخل الحدود السودانية وأنشأ نواة الجيش المذكور أعلاه قبل ان يموت في العاصمة السودانية الخرطوم.
انقسم جيش المقاومة الاوغندية NRA، الى جيشين: جيش الرب LRA في الضفة الشرقية للنهر في الشمال الاوغندي وغالبيته من قوات الأشولي، الا انه تبنى مسيحية اصولية في مقاصده. وقوات جبهة غرب النيل WNF الذي انشأه جمعة أوريس أحد وزراء حكومة الجنرال أمين السابقة. وعلى رغم ان الجيشين يعملان بصورة مستقلة، الا انهما حظيا بدعم من الحكومات السودانية المتعاقبة، رداً على الدعم المستمر لقائد التمرد السوداني العقيد جون قرنق من صديقه الرئيس موسفيني منذ وصول الأخير الى السلطة في 1986.
الصراع الدولي
دفع الصراع الفرنسي الأميركي على النفوذ في منطقة البحيرات على أعتاب القرن الجديد، بمخططي السياسة الأميركية الى اعتماد اوغندا دولة مفتاحية في المنطقة. وموسفيني حليفاً أول لهم، بعد ان تأكد لهم ان حليفهم السابق الجنرال موبوتو في طريقه الى الذهاب "بالموت او الشيخوخة" او بانهيار حكمه الذي عجزوا عن اصلاحه. وتدفقت على موسفيني الأموال والمساعدات العسكرية وشهادات حسن الأداء الاقتصادي، لكن جذوة الثورة والتمرد ظلت متقدة خلف دخان الجلبة الاعلامية الاميركية. وكابيلا الذي وصل الى الحكم في الكونغو على انقاض نظام كان حليفاً استراتيجياً لأميركا لعشرين سنة خلت، كان لا بد لمصالح نظامه الوليد والقوى التي أوصلته للحكم ان تتناقض مع السياسة الاميركية في المنطقة وحلفائها. ففتح جبهة في غرب اوغندا مع قبائل الهوتو وميلشياتها في مناطق العصبية القبلية لموسفيني "منطقة جبال القمر" هي أكبر من مقدرة اوغندا على الصمود أو تصفيتها.
الحلم الاوغندي والنجم الاوغندي الساطع في طريقه الى الأفول. فبانشغال اوغندا في جبهتها الغربية تمكن "جيش الرب" من التغلغل في العمق الاوغندي حتى الحدود الكينية شرقاً، وليس بمستبعد ان يتمكن هذا الجيش من قطع الشرايين الرئيسية التي تربط العاصمة كمبالا بميناء الصادر والوارد في ممباسا في كينيا.
وتمكنت جبهة النيل الغربية من توسيع مدى عملياتها العسكرية الى العمق الاوغندي في الجزء الغربي، حتى الجنوب الغربي، لترتبط بميلشيات الهوتو التي اختطفت السياح الأميركيين والبريطانيين في منطقة نفوذ موسفيني ومسقط رأسه والمثابة التي كون فيها ميليشياته الأولى من 1980.
يؤكد القادمون من اوغندا وجنوب السودان الآن ان الحركة من "قولو" شمال النهر وحتى حدود السودان لم تعد آمنة، بل مستحيلة من دون مصاحبة الأطراف العسكرية. وان الرحلة من قولو حتى حدود السودان التي كانت لا تتجاوز 5 ساعات أصبحت تحتاج الى اسبوعين على الأقل لتجميع القوافل، والأطواف العسكرية المصاحبة.
البوغاندا أصحاب الملك العريق في أواسط اوغندا، الذين ظلوا في حالة من الهدوء النسبي والاستقرار كونوا أخيراً "جبهة الحرية الاوغندية" و"جيش الحرية الاوغندي" UFF/A بقيادة هيرمان سموجو، أحد مرشحي الرئاسة السابقين وأعلنوا مسؤوليتهم عن الانفجارات التي هزت العاصمة كمبالا ومدينة عنتيبي خلال زيارة الرئيس الاميركي بيل كلنتون لاوغندا العام الماضي.
من هنا يبدو ان المنطقة الآمنة في اوغندا اليوم هي كمبالا وعنتيبي وما حولهما حتى بحيرة فكتوريا أي خمس مساحة اوغندا فقط، وان العد التنازلي بدأ لنهاية عقد التنمية والاستقرار.
اوغندا بموقعها المتميز في قلب القارة، وبتركيبتها المعقدة من أكثر الأقطار تأثيراً على ما حولها. ومشاكل الحكم فيها مثل غيرها من جيرانها هي مشاكل سياسية لا يمكن حلها عن طريق حرب العصابات والميليشيات القبلية وانشطاراتها الاقليمية، بل بالجلوس الى طاولة المفاوضات وايجاد صيغة بالتراضي للحكم في اطار الدولة الواحدة، والنأي عن التدخل في شؤون الغير، إذ يكفي أقل جهد من أي دولة مجاورة لإشعال حريق في اوغندا لن ينطفئ لأعوام عديدة، تكون نتائجه عقد جديد من عرقلة التنمية فيها وفي ما حولها.
* مساعد الأمين العام للحزب الاتحادي الديموقراطي في السودان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.