يشكل الاعلام في الاردن مساحة واسعة في السياسة والحكم والادارة والعمل العام وشؤون البلد والناس، ويكاد الوصف الذي اطلقه الملك حسين على رئيس الوزراء الاردني السابق عبدالكريم الكباريتي بأنه "رجل اعلامي" ينطبق على الاردن "البلد الاعلامي" حيث يصوغ الاعلام القرارات والمواقف، وحيث يستخدم رصيداً واستثماراً حقيقياً. الامثلة والظواهر المؤيدة لهذه المقولة كثيرة جداً وطريفة وملفتة، فعلى رغم أهمية الاعلام في الاردن فإن الاعلام الاردني في مستواه المهني متواضع ومحدود ومصدر للكآبة والملل. الكباريتي ليس الشخصية السياسية الوحيدة التي اعتبرت "اعلامية" وان كان يتميز بأنه يشكل تياراً او "لوبي" اعلامياً فاعلاً مؤثراً، فالامير حسن ولي العهد السابق واجه انتقاداً شبيهاً في معرض تفسير نقل ولاية العهد منه الى الامير ثم الملك عبدالله. وكان وصفي التل، أهم رئيس وزراء اردني حتى الآن، رجلاً اعلامياً من طراز فريد، حتى انه استهدف بشخصه في مرحلة من العداء والتنافس بين الاردن ومصر. وألغى الملك حسين زيارة الى مصر لأن الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر اشترط الا يصحبه في الزيارة رئيس حكومته آنذاك وصفي التل، اي ان عبدالناصر كان مستعداً لتقبل الملك حسين ومصالحته، لكنه لم يستطع ان يصالح وصفي التل الذي يخضع لتوجيهات الملك وقراراته وينفذ سياساته. ويشكو جميع النواب على اختلاف اتجاهاتهم من الظلم الاعلامي، ويطالبون باستمرار بمساحات اوسع في الصحف والاذاعة والتلفزيون. ولم يجد احد النواب حرجاً في أن يقول في اجتماع برلماني رسمي ان التلفزيون خصص له وقتاً اقل من غيره من زملائه النواب. ويصلح الاعلام والتعامل الاعلامي مع الاشخاص والحكومات ليكون مؤشراً او مصدر استنتاج لتوجهات وقرارات سياسية مختلفة، بعضها بالغ الاهمية. فالحكومة السابقة "حكومة الطراونة" كانت عند جميع الناس بحكم الراحلة عندما توقف التلفزيون نهائياً عن ادراج نشاطات رئيسها ووزرائها في الاخبار، فغيابها عن التلفزيون كان عند الناس غياباً عن الساحة، وعندما نشرت صحيفة يومية مقالة لوزير الاعلام السابق صلاح ابو زيد كان ذلك دلالة الى انه عائد الى الحياة السياسية، بعد غياب طويل جداً. حتى ان احداً لم يعد يتذكره، وبالفعل فقد تولى بعد ذلك المقال بيومين منصب مستشار سياسي، وكان التجاهل الاعلامي المبالغ فيه لرئيس الديوان الملكي السابق جواد العناني مؤشراً على رحيله القريب. ثمة حالة تصلح للدراسة في كليات الاعلام والصحافة، فقد استطاعت حكومة الكباريتي بإدارتها الاعلامية لمسألة مشاركة الحركة الاسلامية في الحكومة ان تخترق "الفيتو" الاخواني وتفرض القضية على أجندة الاخوان المسلمين، ومناقشتها على جميع المستويات التنظيمية ومن جوانبها المختلفة والسياسية والعملية والشرعية، وان تطرح في مجلس شورى الجماعة ثم اتخاذ قرار بعدم المشاركة، على رغم ان هذه المشاركة لم تطرح رسمياً على الاخوان ولم تعرض عليهم، لكن طرحها الكثيف في وسائل الاعلام كلها ومشاركة قيادات الحركة المؤيدة والمعارضة في المجال الاعلامي الدائر، جعلها قضية تنظيمية داخلية. ومن الظواهر الاعلامية الملفتة في الاردن وجود خطابين اعلاميين، خارجي وداخلي، ينال اولهما حظوة واهتماماً يثير حسرة واستفزاز المشتغلين بالاعلام المحلي حتى الرسمي منه، فممثلو وسائل الاعلام الخارجية يحظون بتكريم وفرص ومعلومات لا يقارن بها ما يحصل عليه المشتغلون بالاعلام المحلي، حتى ان وكالة الانباء الرسمية "بترا" نقلت اكثر من مرة اخباراً اردنية بالغة الاهمية ومتعلقة بجهات رسمية مهمة جداً عن وكالة الانباء الفرنسية، ومديرة مكتب هذه الوكالة هي الاعلامية الوحيدة التي اتيح لها حتى الآن مقابلة الملك عبدالله، وكانت محطة CNN اول مؤسسة اعلامية نقلت خبر تغيير ولاية العهد في الاردن، وقبل ذلك المحت وسائل الاعلام الخارجية، خصوصاً صحيفة "الحياة" الى تغيير ولاية العهد في الاردن ونشرت مجلة "الوطن العربي" تقريراً تؤكد فيه هذا التغيير "القادم"، لكن الاعلام المحلي ظل غائباً عن ذلك او ينفيه حتى اللحظة الاخيرة وحدوثه بالفعل. ويقال في الاردن على سبيل التندر ان بعض مراسلي وسائل الاعلام الخارجية يملكون من التأثير ما يجعلهم بارومتر الصعود والسقوط والنجومية والافول. لكن تغييرات مهمة تحدث في العالم اليوم ستخل بمعادلة الاداء الاعلامي الخارجي وحساباته، ذلك ان هذا الاداء كان موجهاً الى العالم الخارجي ولم يكن متاحاً للمواطن في الداخل، ولكنه اليوم بفعل الانترنت والقنوات الفضائية صار متاحاً للمواطن، بل انه الداخل يهتم به ويتابعه اكثر من الخارج. وألاحظ ان رسائل مندوب "الحياة" في عمان سلامة نعمات تغيرت كثيراً خلال السنوات العشر الاخيرة باتجاه مخاطبة الداخل ومراعاة حساباته او استهدافه. وكان واضحاً ان سلامة نعمات لم يكن يحسب حساب القارئ في الداخل ولا الجهات السياسية والوطنية في الداخل التي يكتب عنها. وانا هنا استخدم "الحياة" مثالاً لاني اتابعها بانتظام منذ مطلع التسعينات، اي ان وسائل الاعلام الخارجية اصبحت في المحصلة محلية اضافة الى كونها خارجية. والمحير في الاعلام الاردني انه على رغم تدني مستواه المهني والأدائي وضحالة كثير من المشتغلين فيه، فإنه عبقري في خلق انطباعات تخالف الحقيقة تماماً. وفي المقابل فإن ما يميز الاردن حدس اعلامي عام ليس مستمداً من وسائل الاعلام لكنه يشبه البوصلة، واستعداد كبير لدى الناس جميعهم للحديث والمناقشة بوضوح وبساطة، وتواضع ورغبة لدى المسؤولين في الحديث، تجعل الاردن موضوعاً مستمراً ومكرراً في وسائل الاعلام يفوق حجمه بكثير. انه بالفعل "بلد اعلامي". * كاتب أردني.