وزارة الرياضة تحقق نسبة 100% في بطاقة الأداء لكفاءة الطاقة لعامي 2023 -2024    الصين تؤكد تفاصيل الاتفاق التجاري مع الولايات المتحدة    الهلال يضرب موعدا مع السيتي في مونديال الأندية    انزاغي: أهداف الهلال كبيرة في مونديال الأندية    الهلال يتأهل إلى دور ال 16 في مونديال الاندية    طقس حار الى شديد الحرارة على معظم مناطق المملكة    ماكرون: "السيناريو الأسوأ" يتمثل بخروج إيران من معاهدة حظر الانتشار النووي    رئاسة الشؤون الدينية تُطلق خطة موسم العمرة لعام 1447ه    دول أوروبية بلا حدود داخلية    استمتع بالطبيعة.. وتقيد بالشروط    ترمب يصعّد معركته ضد باول.. حرب الفائدة تربك الأسواق الأميركية    الأمونيا الصديقة للبيئة ووقود الطيران المستدام يسرعان معدلات النمو للصناعات النظيفة    كرة القدم الحديثة.. عقل بلا قلب    القادسية.. موسم ذهبي وأرقام قياسية في موسم مثالي    أخلاقيات متجذرة    القبض على وافدين اعتديا على امرأة في الرياض    د. علي الدّفاع.. عبقري الرياضيات    في إلهامات الرؤية الوطنية    ثورة أدب    الأسيرة الفلسطينية.. حكاية الألم    اختتام فعاليات المؤتمر العلمي الثاني لجمعية التوعية بأضرار المخدرات    رسميًا.. رونالدو مستمر مع النصر حتى 2027    البدء بتطبيق"التأمينات الاجتماعية" على الرياضيين السعوديين ابتداءً من الشهر المقبل    نجران ترسم مستقبلها الإستثماري بنجاح مبهر في منتدى 2025    أمير جازان يستقبل رئيس محكمة الاستئناف بالمنطقة    القبض على (31) إثيوبياً في عسير لتهريبهم (465) كجم "قات"    أمير الشرقية يُكرِّم "مجموعة مستشفيات المانع" لرعايتها الطبية منتدى الصناعة السعودي 2025    موعد الظهور الأول لكيليان مبابي في مونديال الأندية    شبكة القطيف الصحية تطلق مبادرة "توازن وعطاء" لتعزيز الصحة النفسية في بيئة العمل    الأمير تركي الفيصل : عام جديد    تدخل طبي عاجل ينقذ حياة سبعيني بمستشفى الرس العام    مفوض الإفتاء بمنطقة جازان يشارك في افتتاح المؤتمر العلمي الثاني    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي، ويناقش تحسين الخدمات والمشاريع التنموية    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    لوحات تستلهم جمال الطبيعة الصينية لفنان صيني بمعرض بالرياض واميرات سعوديات يثنين    الخط العربي بأسلوب الثلث يزدان على كسوة الكعبة المشرفة    مجلس الشورى" يطالب "السعودية" بخفض تذاكر كبار السن والجنود المرابطين    تحسن أسعار النفط والذهب    في ربع نهائي الكأس الذهبية.. الأخضر يواصل تحضيراته لمواجهة نظيره المكسيكي    عسير.. وجهة سياحة أولى للسعوديين والمقيمين    وزير الداخلية يعزي الشريف في وفاة والدته    حامد مطاوع..رئيس تحرير الندوة في عصرها الذهبي..    تخريج أول دفعة من "برنامج التصحيح اللغوي"    الخارجية الإيرانية: منشآتنا النووية تعرضت لأضرار جسيمة    تصاعد المعارك بين الجيش و«الدعم».. السودان.. مناطق إستراتيجية تتحول لبؤر اشتباك    غروسي: عودة المفتشين لمنشآت إيران النووية ضرورية    أسرة الزواوي تستقبل التعازي في فقيدتهم مريم    الجوازات: جاهزية تامة لاستقبال المعتمرين    بحضور مسؤولين وقناصل.. آل عيد وآل الشاعر يحتفلون بعقد قران سلمان    استشاري: المورينجا لا تعالج الضغط ولا الكوليسترول    "التخصصات الصحية": إعلان نتائج برامج البورد السعودي    مرور العام    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الصحة بالمنطقة والمدير التنفيذي لهيئة الصحة العامة بالقطاع الشمالي    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل البريطاني    من أعلام جازان.. الشيخ الدكتور علي بن محمد عطيف    أقوى كاميرا تكتشف الكون    الهيئة الملكية تطلق حملة "مكة إرث حي" لإبراز القيمة الحضارية والتاريخية للعاصمة المقدسة    الرواشين.. ملامح من الإرث المدني وفن العمارة السعودية الأصيلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستشار الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف كارين بروتينتس : في الفخ الافغاني . اعترض اندروبوف بداية على التدخل في الازمة الأفغانية 5 من 5
نشر في الحياة يوم 28 - 02 - 1999

في العهد السوفياتي كان مقسم الشؤون الدولية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي مطبخاً فعلياً لصنع القرار السياسي. وكان كارين بروتينتس نائباً لرئيس هذا القسم ومسؤولاً عن ملف الشرق الأوسط والبلدان النامية عموماً، ثم غدا مستشاراً للرئيس ميخائيل غورباتشوف وبتكليف منه قابل العديد من الرؤساء والساسة العرب.
وتكشف مذكرات بروتينتس 74 سنة جوانب خفية من سياسة الكرملين حيال الشرق الأوسط وافغانستان وتسلط الاضواء على أوراق ظلت مطوية.
لعل الجميع يعترفون اليوم ان الانقلاب الذي حدث في كابول ونسب في بادئ الأمر الى "اصابع موسكو" كان في الحقيقة والواقع مفاجأة بالنسبة الى القيادة السوفياتية. فالعلاقات بين الحزب الشيوعي السوفياتي والحزب الشعبي الديموقراطي الافغاني الذي استولى على السلطة كانت فاترة غير منتظمة وليس لها تاريخ طويل نسبياً منذ العام 1967. ولم تكن معرفة موسكو بشؤون الحزب كبيرة، ما جعلها في غالبية الاحوال تخفف من غلواء زعمائه. ففي ايلول سبتمبر 1978 استقبل الأمين العام للحزب الشعبي الديموقراط محمد طرقيي امين اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي بوريس بونوماريوف وكنت برفقته. فقال لي طرقي مودعاً: "بلغ تحياتي الى اوليانوفسكي المسؤول عن افغانستان في شعبة العلاقات الدولية لدى اللجنة المركزية. كان يوحي الينا طوال سنين ان افغانستان بلاد متخلفة لم تنضج للثورة بعد. اما نحن فقد اعلناها، وها انا في قصر الرئاسة".
جاء في تقرير المخابرات الى الرئيس الاميركي بتاريخ 28/9/1979: "ليست لدينا ادلة قاطعة للجزم بأن السوفيات يقفون وراء انقلاب الماركسيين. ولا ريب ان الاتحاد السوفياتي كان الملهم الأول للحركة الشيوعية الافغانية وممولها ليس ذلك صحيحاً، فالحزب الشعبي الديموقراطي لم يتلق مساعدات مالية من الحزب الشيوعي السوفياتي اطلاقا". الا ان السوفيات كانوا حذرين جداً في علاقاتهم المباشرة مع الشيوعيين الافغان خوفاً من تأثيراتها المحتملة على العلاقات مع الحكومة الافغانية الشرعية. ولذلك لم تعترف موسكو رسمياً بوجود الحزب الشيوعي الافغاني".
ولم تطلع قيادة الحزب الشعبي موسكو على مخططاتها ربما بسبب التكتم والصبغة الاستقلالية للحزب، وربما خشية احتمال رفض الزعماء السوفيات تلك المخططات طالما انهم راضون عن موقف افغانستان كمنطقة عازلة ومحايدة قد تميل اكثر الى الاتحاد السوفياتي.
ثم ان الانقلاب نفسه كان ارتجالياً بقدر ما. كان التحضير له جارياً، الا انه قام في غير موعده بعد ان فرضته ملابسات خارجية سببها ان الحكومة بدأت حملة اعتقالات واسعة لأعضاء الحزب. وقال لي المشرف على التنظيم العسكري للحزب حفيظ الله امين ان رجال الشرطة داهموا منزله فتمكن من ارسال اشارة بدء الانقلاب من طريق ابنه الصغير.
ولم يؤيد الاتحاد السوفياتي الانقلاب الا بعد تردد وانتظار استغرق ثلاثة أيام. وكانت الاعتبارات العقائدية لعبت دورها بالطبع. الا ان الافضلية اعطيت لغواية الحصول على حليف مطواع على الحدود السوفياتية الجنوبية في منطقة مهمة استراتيجياً لمواصلة توسيع "المعسكر" الاشتراكي. والى ذلك سقطت الحكومة الافغانية التي كانت اخذت تتراجع بتأثير الاميركا عن توجهاتها السابقة الميالة الى موسكو.
في البداية بدت الاحداث الافغانية مشهداً عادياً معهوداً في زمن "الحرب الباردة" ولعبة شد الحبل بين الدولتين العظميين. وانتهز الاتحاد السوفياتي احدى تلك الفرص التي ظهرت في ظروف العالم الثالث وتصارعت فيها قوى وطبقات اجتماعية كبيرة أدى اختلاطها واشتباكها الى تبدلات جدية ارتدت في بعض الاحيان لبوس النزاعات الضارية. الا ان الاتحاد السوفياتي بدعمه وتأييده النظام الجديد في افغانستان بات في الواقع رهينة بيد قوى انعزالية غير ناضجة لم يتمكن من السيطرة على تقلبات اهوائها وأطوارها. ووقعت القيادة السوفياتية في الفخ عندما دخلت لعبة تحملها على زيادة الرهان باستمرار من دون ان تكون قادرة على توجيه تلك اللعبة والتحكم فيها، ناهيك عن كسبها.
فالبلاد التي تقبلت الانقلاب بهدوء سرعان ما صارت تبدي استياءها من سياسة السلطات الجديدة. وحاول الكرملين عبثاً ان يؤثر على من كانوا تحت "وصايته" ليقللوا من غلوائهم ويتخلوا عن التحويلات المتطرفة والمتسرعة ويوسعوا القاعدة السياسية والاجتماعية لنظام حكمهم ويضفوا عليه صفة ائتلافية، ظاهرياً على الأقل، ويجدوا سبيلاً الى التفاهم مع علماء الدين. وبذل السوفيات، من دون جدوى ايضاً، جهوداً لوضع حد للصراع بين التيارات المتنافسة داخل الحزب الشعبي الديموقراطي الافغاني نفسه، وخصوصاً بعد ان تحول في صيف العام 1978 الى حملة "تطهير" أتت على كبار اعضاء الحزب. ومارس مدير الأمن عضو المكتب السياسي للحزب سروري تعذيب كشتمند نائب رئيس الوزراء عضو المكتب السياسي ايضاً.
وفي تقرير المخابرات الآنف الذكر كتب الاميركيون "ان السوفيات جهدوا لاقناع محمد طرقي وحفيظ الله امين للبحث عن سبل سياسية لتخفيف التوتر. وأقنعوا الحكومة بالتخلي عن برنامج الاصلاح الزراعي، لكنهم اخفقوا في وقف الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الاخرى التي طبقها طرقي وأمين ونفّرت الافغان المتدينين". وفي وثيقة اخرى للمخابرات مؤرخة في تشرين الأول اكتوبر 1980 اعترف الاميركيون "ان الافغان تجاهلوا نصائح السوفيات في عدم الاستعجال ببناء الاشتراكية في افغانستان". وجاء تصرف الزعماء الافغان هذا نتيجة لادراكهم ان القيادة السوفياتية باتت في معنى ما اسيرة في ايديهم وما عاد بوسعها ان تتركهم في كف الاقدار.
ثم ان موسكو نفسها لم تكن تمتلك فكرة واضحة في شأن عدم لزوم "التحولات" الاشتراكية في افغانستان. ففي آذار مارس 1979 عندما رفض طلب ارسال القوات المسلحة السوفياتية الى هذه البلاد اكد يوري اندروبوف انها "لم تنضج بعد للثورة الاشتراكية" وأيده في ذلك اندريه غروميكو، الا ان قرار المكتب السياسي الصادر في 19 نيسان ابريل طالب "ببذل قصارى الجهود لمساعدة حكومة طرقي لتعزيز مواقعها والسير في طريق التحويلات الاشتراكية". وبعد ذلك في كانون الأول ديسمبر من العام ذاته اكد قرار آخر "ان افغانستان غير مستعدة الآن للبت في كل المسائل انطلاقاً من التعاليم الاشتراكية".
الى ذلك لم تكن "ثورة نيسان" محظوظة من حيث الزعماء. فان طرقي معلم سابق وشاعر رقيق يتحلى بالرفق والجاذبية ويتمتع بالاحترام، لكنه لا يصلح للدور الذي كان من نصيبه، فهو يفتقر الى العزيمة وقوة الارادة. ثم انه ادمن على المسكرات. وحضرت لقاءين معه ونشأ لدي انطباع وكأن نجاح الحركة في نيسان اسكره الى درجة لم يعد قادراً معها على التخلص من النشوة والغرور.
اما حفيظ الله امين فان غلالة الافكار الماركسية الشفافة لا تكاد تستر نزعته القومية البوشتوية المسعورة. كان يتمسك بآراء متشددة يمكن ان ننعتها بالستالينية مقرونة الى عادات افغانية لا تخلو من موروث العلائق المتخلفة. كان يقول انه يعرف طباع الافغان جيداً، ويزعم ان الافغاني يفكر في شيء ويتكلم عن شيء آخر ويفعل شيئاً لا هو هذا ولا ذاك. وكان امين يعتبر نفسه ثورياً بروليتارياً من المعدمين. ولا جدال انه شخصية اقوى من طرقي، الا ان قوة ارادته وقابلياته التنظيمية اقترنت بالتصلب والقساوة.
كان الموقف في افغانستان يتأزم يوماً بعد يوم. اتسعت المقاومة المسلحة التي كانت تتلقى المساعدات من باكستان وبعض الدول العربية بمشاركة توجيهية من الولايات المتحدة وبرعاية المخابرات المركزية، حتى ان وزير الخارجية الاميركي سايروس فانس بعث الى سفارته في كابول في ايلول سبتمبر 1979 برقية اعرب فيها عن قلقه من نشاط مسؤولين اميركان في مخيمات اللاجئين الافغان في باكستان. وساهمت الصين في العمل المشترك.
وفي جلسة 17 كانون الأول 1979، قبل دخول القوات السوفياتية افغانستان، اتخذت اللجنة التنسيقية المختصة برئاسة زبيغنيو برجينسكي وبحضور نائب الرئيس الاميركي مونديل ووزير الدفاع براون ونائب وزير الخارجية كريستوفر ورئيس الاركان الجنرال جونس ومدير المخابرات المركزية الاميرال تيرنير قراراً بتحسين تمويل المجاهدين الافغان وتزويدهم بالسلاح ووسائل الاتصال بالتعاون مع الباكستانيين والانكليز.
ومنذ بدء الملحمة الافغانية سعت اوساط معينة في الولايات المتحدة الى جر الاتحاد السوفياتي الى اعماق المستنقع في افغانستان ومهما بدا الأمر غريباً فقد كانت لتلك الاوساط المتنفذة مصلحة في دخول القوات السوفياتية افغانستان وكانت تنتظر خطوة موسكو هذه ربما بفارغ الصبر. ففي حديث دار بيني وبين الجنرال الاميركي اودوم المدير السابق لشعبة الشؤون السوفياتية في مجلس الأمن القومي في ايلول 1995 اثناء لقاء في اوسلو لقدامى الاميركان والروس العاملين "في السياسة الخارجية" قال بصراحة "انهم" كانوا راغبين جداً في "زحف السوفيات" على افغانستان ولم يحركوا ساكناً للحيلولة دونه.
وكان برجينسكي اكثرهم تمسكاً بهذا الموقف. فاذا كان الاميرال تيرنير مدير المخابرات المركزية آنذاك يخشى ان يؤدي تسليح المجاهدين الى دفعهم لمغامرة انتحارية في مواجهة 75 الف جندي سوفياتي فان برجينسكي لم يشغل باله بهذه المشكلة، حسب تصريحاته، ولم يكن يعتبر التدخل السوفياتي مأساة، بل كانت تعنيه جوانب اخرى منه. فهو يجعل الاتحاد السوفياتي "ينزف دماً"، وهو يعزز المواقع الاميركية في السياسة الخارجية، وخصوصاً في الاقطار الاسلامية لاستعادة "الخط الاستراتيجي" الذي حطمته الثورة الايرانية. والاكثر من ذلك ان "الصقور" في الصفوة السياسية وفي الادارة الاميركية نفسها كانوا يريدون حمل الرئيس جيمي كارتر على التراجع عن الانفراج الدولي والعودة الى سياسة الكبح والردع في التعامل مع الاتحاد السوفياتي.
واعتباراً من ربيع 1979 شدد برجينسكي على افغانستان، كما يقول في مذكراته، واوحى الى كارتر ان الاتحاد السوفياتي يسعى، على ما يبدو، للوصول الى المحيط الهندي عبر ايران وباكستان. وعزز مزاعمه هذه بحجج تاريخية غير موثوقة. وفي مذكرة بعثها الى الرئيس الاميركي في 26 كانون الاول 1979 كتب بريجينسكي يقول: "اذا حقق السوفيات نجاحاً في افغانستان فان حلم موسكو الازلي في الوصول الى المحيط الهندي رأساً سيتحقق. فالازمة الايرانية اخلت بتوازن القوى في جنوب غربي آسيا، وهذا يمكن ان يؤدي الى الانتشار السوفياتي في ثغر الخليج العربي وفي خليج عمان". ومما يؤسف له ان "البيت الابيض" تعكز على تخريجات برجينسكي الخيالية. وجاء في محضر جلسة مجلس الامن القومي رقم ن س 26. س تاريخ 2/1/1980 حين بحثت التدابير ضد الاتحاد السوفياتي بسبب دخول قواته افغانستان "ان الرئيس الاميركي صرح بأنه غير واثق من ان قراراتنا الراهنة قادرة على منع الروس من دخول باكستان وايران".
بحثت القيادة السوفياتية للمرة الاولى مسألة ارسال القوات الى افغانستان في آذار مارس 1979 حين تلقت طلباً في هذا الشأن من الزعماء الافغان في اعقاب الانتفاضة التي اندلعت في مدينة هراة المتاخمة لحدود الاتحاد السوفياتي. وكان جواب رئيس الوزراء السوفياتي الكسي كوسيغين متحفظاً اقرب الى الرفض. ودرس المكتب السياسي الموضوع في جلسة تغيب عنها الامين العام للحزب ليونيد بريجنيف متعمداً. واجمع الثلاثي القيادي كوسيغين وغروميكو واندروبوف على ضرورة "الكفاح من اجل افغانستان"، الا انهم ماكانوا يميلون الى ارسال القوات المسلحة الى هناك. والشخص الوحيد الذي ابدى اصراراً في هذا الشأن هو وزير الدفاع دميتري اوستينوف. واعترض اندروبوف قائلاً: "سيتهموننا بالعدوان". وأكد غروميكو: "لن نتمكن من تبرير التدخل بأية اصول قانونية. فافغانستان لم تتعرض لعدوان خارجي يبرر الدفاع عنها". وفي جلسة اخرى حضرها بريجنيف قال بالحرف الواحد: "لا يليق بنا الآن ان ننجر الى هذه الحرب".
الا ان الموقف السوفياتي تبدل بعد ذلك. وعندما سألت بونوماريوف عن اسباب ماحدث تملص من الرد الصريح. وكان القول الفصل، على حد فهمي، يعود الى بريجنيف الذي تأثر بحجج معاونه الكساندروف.
المواجهة بين المجاهدين الذين ازداد عددهم آنذاك الى 35 - 40 الفا حسب بعض المعطيات وبين قوات الحكومة اكتسبت صفة الحرب الفعلية، وتكررت طلبات كابول لارسال قوات سوفياتية، "ولو فرقتين"، حتى كادت تبلغ 20 طلباً. الى ذلك بدأ نظام كابول "يأكل" بعضه بعضاً، حين نشأ خصام بين محمد طرقي وحفيظ الله امين لشدة رغبة الثاني في تولي مهمات الاول. وثمة ادلة على ان موقف موسكو أزّم الخلاف بين الزعيمين الافغانيين وزاد من الشكوك في سلوك امين. ومع تطور الخلاف بين الرجلين اخذت موسكو تتدخل علنا في مصلحة طرقي.
عندما عاد الرئيس الافغاني من زيارة الى كوبا توقف في موسكو وكان له لقاء مع بريجنيف واندروبوف فحذراه من المخاطر التي تنتظره من جانب امين ومن خطط وضعت لتصفيته جسدياً. وتسنى لي ان اطلع على برقيتين من مصادرنا في كابول تتحدثان عن استعدادات لنيران رشاشات يتعرض لها طرقي اثناء استقباله في المطار. الا ان شيئاً من هذا القبيل لم يحدث. وبالعكس كانت هناك معلومات لا استطيع الجزم بصحتها تفيد ان امين نفسه نجا باعجوبة من محاولة اغتيال في طريقه الى المطار في اليوم نفسه.
ويذكر ان الخلاف بين الزعيمين الافغانيين انتهى الى اطاحة طرقي واعتقاله ومقتله. واعتقد ان مشاركة موسكو في ذلك الخلاف وتأجيجه ابشع خطأ ارتكبه الجانب السوفياتي. ولم يكن من حقنا الحكم عما اذا كان امين عميلاً اميركياً بالفعل كما زعم سياسيونا الذين دفعوا الاتحاد السوفياتي الى التدخل العسكري. وعلى رغم ما في "دفتر خدمة" امين من غموض انكر تيرنير مدير المخابرات المركزية السابق في لقائه معنا في اوسلو وجود ارتباطات لأمين مع دوائره.
وعلى اية حال فالانباء القائلة ان امين لم يكن يثق بالاتحاد السوفياتي تتعارض مع الوقائع. فكيف نفسر طلب امين ارسال قوات سوفياتية الى افغانستان سبع مرات في غضون شهرين؟ وعندما ابلغه رئيس اركان الجيش الافغاني الجنرال يعقوب قلقا ان القوات السوفياتية تتوارد بأعداد اكثر بكثير مما تم الاتفاق عليه قاطعه امين قائلاً: "ثم ماذا. كلما ازداد عددهم كان ذلك افضل لنا".
واعتقد اننا كنا متحيزين ضد الرجل. فهو "شخصية صعبة"، فيما تعود سياسيونا على "شد عنان" حلفائهم مفضلين الخضوع والطاعة. ومهما يكن من امر فقد وجدت القيادة السوفياتية نفسها يوم 14 ايلول 1979 امام افغانستان يحكمها رجل لا تثق به. وعندما اعترفت به موسكو رئيساً للجمهورية ابلغت في رسالة الى هونكر بتاريخ 1/10/79 "سنراقب سلوك امين بكل اهتمام". وفي 29 منه خرجت لجنة الشؤون الافغانية لدى المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي باستنتاج مفاده ان امين "غير مخلص ومراءٍ" تجاه القيادة السوفياتية. ومن هذه الناحية دشن استلام أمين السلطة مرحلة جديدة في العلاقات بين موسكو وكابول وعجّل خيار التدخل العسكري السوفياتي. فارسلت موسكو ما سمي بالكتيبة الإسلامية أولاً ثم توالت الكتائب والأفواج. وبدأ آخر وأفظع مشهد في المأساة الأفغانية.
واستدرك فأقول إن موسكو كانت ستواجه مسألتي مصير النظام الحاكم في كابول ودخول القوات السوفياتية في كل الأحوال، حتى بغياب أمين. فالحكومة الأفغانية آنذاك لم تكن قادرة على البقاء من دون حراب السوفيات.
صدر قرار التدخل المسلح في 12 كانون الأول 1979. وجاءت تبريراته العلنية مزيفة، فيما بدا الادعاء أن التدخل تم تلبية لطلب الحكومة الأفغانية وقاحة ما بعدها وقاحة. فالمقصود بتلك "الحكومة" هو أمين الذي قضى عليه في ما بعد أولئك الذين جاءوا لنجدته. وحتى في وثيقة القيادة السوفياتية للاستهلاك الداخلي ورد وصف دعائي مراء للأحداث في أفغانستان. إلا أن ذلك لا يعني غياب المبررات الوجيهة لذاك القرار المشؤوم، وفي مقدمها أمن الدولة السوفياتية... آنذاك كانت أفغانستان في الواقع الجار الوحيد في آسيا الذي تربطه علاقات ودية مع الاتحاد السوفياتي. وكان لدى القيادة ما يبرر الخوف من الدسائس الأميركية. ولعل الولايات المتحدة لم تكن تنوي توزيع صواريخها في قندكوش كما ادعى بعض الصحافيين السوفيات، إلا أنها حاولت نقل محطة الانذار المبكر من إيران بعد الثورة الإسلامية إلى شمال أفغانستان.
في بداية كانون الأول 1979 كلفني بونوماريوف ان أحرر مذكرة تتضمن رأي شعبة العلاقات الدولية لدى اللجنة المركزية للحزب في شأن التدخل المسلح في أفغانستان. وكنت مع بعض زملائي ضد هذا الاجراء لخطورة عواقبه الدولية ونظراً للمأزق المحتمل في أفغانستان نفسها. وعندما علم الكساندروف بأن المذكرة سلبية قال غاضباً: "أتريدوننا أن نسلم أفغانستان إلى الأميركيين؟".
آنذاك بدأ الأميركيون يشيدون قواعد حربية جديدة في المنطقة، وتحشدت قواتهم في المحيط الهندي للتدخل في إيران تم فعلاً على رغم فشله، وفي الأول من كانون الأول قبل كارتر اقتراح برجينسكي في شأن زيادة الوجود العسكري في "حزام الأزمات" الذي ادرجوا ضمنه خاصرة الاتحاد السوفياتي بكاملها. واعتبر الكرملين تلك المخططات خللاً في التوازن الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كما اعتبر تصرفات واشنطن في أفغانستان محاولة لادراجها حلقة أخرى في سلسلة تطويق الاتحاد السوفياتي.
إلى ذلك، اشتدت المخاوف من تأثير الاصولية الأفغانية على المسلمين في آسيا الوسطى السوفياتية. ولم تكن تلك المخاوف من دون أساس. ففي تشرين الأول اكتوبر 1984 مثلاً حرضت وكالة المخابرات المركزية بإيعاز من مديرها وليم كيسي المجاهدين الأفغان على غزو أراضي أوزبكستان وطاجكستان. وجرت محاولات في هذا الاتجاه.
وكانت ثمة اعتبارات أخرى تتعلق بالمواجهة الشاملة ضد الولايات المتحدة. فالمنطق هنا يعتبر فقدان موقع بلد ما بحد ذاته أخطر من الموقع نفسه، طالما أنه يعني هزيمة للمعسكر الاشتراكي بأسره. ثم ان هزيمة الحزب "الشقيق" ربما تغدو "سابقة" ذات تأثير سلبي جداً على سمعة الاتحاد السوفياتي.
إلى ذلك، نشأ لدى موسكو آنذاك انطباع وكأن الولايات المتحدة تخلت عن الانفراج الدولي من دون ان تصمم بعد على خلع "ردائه". ولذلك امتد طريق القوات السوفياتية إلى أفغانستان عبر التقارب الجديد بين الولايات المتحدة والصين اقيمت محطة انذار مبكر أميركية على الحدود الصينية - السوفياتية، وعبر قرار حلف شمال الأطلسي بتاريخ 12/11/1979 لتوزيع 572 صاروخاً أميركياً جديداً متوسط المدى في أوروبا إلى جانب صواريخ "ام اكس" الاستراتيجية، يضاف إلى ذلك تخلي الولايات المتحدة عن الاتفاق في شأن الشرق الأوسط ووقف المحادثات في شأن المحيط الهندي وما إلى ذلك.
ويبدو ان السوفيات استنتجوا ان مزايا التدخل المباشر في أفغانستان باتت أكثر من الثمن الذي سيدفعونه بشكل ردود فعل اقليمية وأميركية. ولم يكونوا يتوقعون رد فعل دولياً عنيفاً، ذلك أنهم لم يشهدوا مثل هذا الرد أثناء أحداث المجر وتشيكوسلوفاكيا وأنغولا واثيوبيا. وبهذا المعنى يمكن القول إن طريق القوات السوفياتية إلى كابول مر كذلك ببودابست وبراغ ولواندا وأديس ابابا.
وأخيراً كانت وراء قرار التدخل حسابات القيادة السوفياتية الخاطئة تماماً في شأن امكان حل المشكل الأفغاني بالتدخل العسكري. والأدهى من ذلك ان القوات لم ترسل في بادئ الأمر من رجال القتال، بل لتتولى فقط مهمات الحاميات في المدن الكبرى ولأمد قصير نسبياً، على اعتبار ان مجرد وجودها سيؤدي إلى توافر الاستقرار. لكن ما حصل هو العكس، حيث اكتسب كفاح المجاهدين نهائياً صبغة التحرر الوطني ضد الاحتلال السوفياتي.
وهكذا اختار الزعماء السوفيات في كانون الأول 1979 الطريق الخاطئ تماماً، طريق الكارثة. ولعل خيار التدخل المسلح لم يأت من دون تفكير، ذلك ان سير الأحداث نفسه فرضه عليهم كما حدث في أنغولا واثيوبيا. إلا أنهم دخلوا الفخ بأنفسهم في نيسان 1978 انطلاقاً من منطلق الحرب الباردة و"التضامن الشيوعي". وتحول ما اعتبروه عملية موضوعية وقتية تورطاً في الحرب الأهلية الأفغانية استمر حوالى عشر سنوات وقلب تلك الحرب حرباً أفغانية - سوفياتية غير عادلة، وربما اجرامية، وفاشلة مثل حرب الأميركان ضد الفيتناميين.
جاءت المغامرة الأفغانية انعكاساً لتشابك عجيب بين وقائع سوفياتية متعارضة. فالجبروت العسكري والنووي كان في ذروته، فيما بلغ الركود السياسي وعقم القيادة أبعد حدودهما. ولا ريب أن الأوضاع الشاذة في هرم الدولة والحزب الشيوعي آنذاك لعبت دوراً بالغاً في قرار دخول الأراضي الأفغانية في وقت كانت فيه سلطة الأمين العام للحزب غير محدودة من حيث المبدأ، خلافاً لأهليته البدنية والذهنية. ونشأ في المكتب السياسي يومها "ثلاثي" اندروبوف وغروميكو واوستينوف وله الكلمة الأولى في صنع القرار، وهو الذي كان يقنع بريجنيف بلزوم اعلانه لاحقاً.
وكان القرار "الأفغاني" من صنعهم أيضاً. اتخذوه حتى من دون استشارة خبراء وزارة الخارجية وشعبة العلاقات الدولية لدى اللجنة المركزية. ولم يوقع القرار سوى 5 من أعضاء المكتب السياسي والمرشحين لعضويته وعددهم 16. ولم يوقعه الكسي كوسيغين رئيس الوزراء قيل كان مريضاً. وفي الحقيقة لم يعقد المكتب السياسي جلسة لاتخاذ قرار مدروس. وما حصل فيه ان الاقلية اغتصبت وتجاهلت رأي الأكثرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.