كانت بداية جهاز الاستخبارات التركية عسكرية اكثر منها مدنية، وبعد استقرار الامور في ايدي الجمهوريين العلمانيين تعددت اجهزة الاستخبارات التركية مع مرور السنوات. وتعددت اختصاصاتها. فهنالك جهاز مخابرات تابع لقيادة الامن الداخلي "البوليس"، وجهاز مخابرات تابع للجندرمة، وجهاز مخابرات تابع للجيش تتفرع عنه اجهزة برية وبحرية وجوية تختلف مهماتها باختلاف اختصاصاتها، غير ان مهماتها محدودة ومحصورة ضمن قطاعات معينة لا تسمع لها الصلاحيات بتجاوزها. فهذه الاجهزة اجهزة خاصة اذا صح التعبير، وهنالك جهاز عام تتعدى صلاحياته كل الحواجز والحدود. هذا الجهاز بدأ عسكرياً ثم تحول الى جهاز امن مدني وعسكري يتألف من تشكيلات استخبارات الملة الامة وهو مرتبط بمجلس الامن القومي الذي يضم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الدفاع ووزير الداخلية وقائد الجيش، الى قادة القوات البرية والبحرية والجوية، ويستمد هذا الجهاز صلاحياته من اعلى مراكز القرار التركية، وتفوق سلطته سلطات اجهزة الامن والمخابرات التركية الاخرى. ويتسم هذا الجهاز بالسرية التامة في الداخل والخارج، وعناصره مختارة بشكل دقيق من القمة الى القاعدة، ويعتبر صمام امان النظام الجمهوري العلماني وحامي الاتاتوركية، والمؤتمن على النظام التركي الحديث. تمكن هذا الجهاز من اختراق كل الاحزاب التركية بشكل كلي او جزئي، سري او علني. ولهذا الجهاز علاقات مع عصابات المافيا، ويتم احياناً التنسيق لتنفيذ مهمات مشتركة تخدم مصلحة الطرفين. اعترف قادة المافيا التركية بمثل هذه العلاقات كما هو الحال مع عبدالله جاطلي الذي قتل في حادث سير صوصورلك. وخلوق كرجي المعتقل حالياً والمسؤول عن جرائم قتل ادعى تنفيذها بالتنسيق مع مخابرات "ميت" ضمن تركيا وخارجها. ان جهاز استخبارات "ميت" ضخم جداً ويتضمن اجنحة لها مصالحها الخاصة الى جانب المصلحة العامة، لذلك تتعدد اقنية عملها بتعدد الولاءات، وينعكس صراعها الداخلي على احوال عملائها في عصابات المافيا والاحزاب، فبينما يتمتع بعض الأعوان بحصانة غير قانونية في وقت من الاوقات، تزول الحصانة في وقت لاحق، ويتحول الجزار الى ضحية كما هو الحال في مصرع ملك القمار في تركيا عمر لطفي طوبال، وطارق اوميت، وعبدالله جاطلي، وخلوق كرجي وغيرهم. لا يقتصر التنسيق ما بين جهاز "ميت" وبعض عصابات المافيا، وانما هنالك اشارات واضحة الى اقنية اتصال مع العناصر الارهابية، والعناصر المضادة للارهاب. فوزير الداخلية السابق محمد آغار من حزب طانسو تشيلر كان ينسق بين جهاز "ميت" وزعيم المافيا عبدالله جاطلي، وخلوق كرجي، والنائب سادات بوجاق زعيم مجموعة كبرى من متطوعي "حراس القرى" المسلحين من قبل الحكومة التركية لمقاومة حزب العمال الكردستاني. ولا تنعدم وسائط الاتصال بين حزب العمال واولئك الحراس بسبب الشعور القومي الكردي المشترك بين الحراس الاكراد وحزب العمال الكردي. وهنالك تنسيق بين جهاز "ميت" ورئيس الوزارء السابق مسعود يلماظ الذي سقطت وزارته 55 بعد افتصاح علاقته مع المافيا. واخيراً تم تداول معلومات تفيد ان رئيسة الوزراء السابقة تشيلر اتخدت قراراً وزارياً بالقاء القبض على عبدالله اوجلان، لكن يلماظ سرب مضمون القرار الى اوجلان ففوّت على تشيلر فرصة نيل شرف القبض على اوجلان. وعندما حاولت وزارة نجم الدين اربكان وضع حد للصراع الدموي بين الاكراد والاتراك، وضرب عصابات المافيا والارهاب. تحرك جهاز "ميت" ومجلس الامن القومي وتم اسقاط الوزارة، وطويت ملفات المافيا، واستمرت اراقة الدماء، وتم حل حزب الرفاه. بعد سقوط وزارة يلماظ تم تشكيل الوزارة 56 برئاسة بولنت اجاويد بدعم من جهاز الاستخبارات على رغم تعارض الطرح اليساري مع النظام الجمهوري لاعطاء اجاويد دوراً قومياً يجذب اليه الاضواء ويزيد شعبيته للوقوف بوجه المد الشعبي الذي يحرزه حزب "الفضيلة" الاسلامي. تحرك جهاز الاستخبارات "ميت" وتحركت معه وسائل الاعلام التركية واضفت هالة البطولة على اجاويد فتم القاء القبض على خلوق كرجي المحكوم بالاعدام سبع مرات والمتهم بتصفية منظمة "اصالا" الأرمنية، وبذلك اعيد تجميع فلول اليسار التركي وحشدها وراء اجاويد. لكن التأييد الشعبي بقي راجحاً لصالح حزب "الفضيلة" الاسلامي، وازاء ذلك قرر جهاز الاستخبارات ومجلس الامن القومي التركي تقديم المزيد من الاعمال البطولية الى رئيس الوزراء، فتم حل حزب الديموقراطية الشعبية الكردي، فالتف بعض القوميين الاتراك حول اجاويد. لكن الالتفاف لم يصل الى المستوى المطلوب والانتخابات التركية اصبحت على الابواب 18/4/1999. وهذا يعني ان حزب "الفضيلة" الاسلامي سيحصد اصوات العرب والاكراد والمتدينين الاتراك. لذلك اتخذ قرار على اعلى مستويات الادارة والمخابرات بتقديم عمل بطولي يضاف الى سجل رئيس الوزراء المفلس شعبياً اجاويد فكان اعتقال اوجلان. واعتبر يوم القاء القبض عليه "يوم الظفر الاكبر" بحسب العناوين الرئيسية للصحف والمجلات التركية وباقي وسائل الاعلام. ونسب هذا الانتصار القومي لرئيس الوزراء، وراحت وسائل الاعلام تدعي انه فاتح قبرص. يتساءل الشعب التركي عن سبب التأخر بإلقاء القبض على اوجلان في السنوات الماضية. وهنالك من يربط بين اعتقال كارلوس ونقله من السودان الى باريس، ثم اعتقال اوجلان من نيروبي ونقله الى تركيا ما أثار اسئلة عن استقلالية جهاز الاستخبارات التركي "ميت" وارتباطه بالمخابرات المركزية الاميركية وغيرها من الاجهزة الاقليمية والعالمية. وهل هو على درجة من القوة مكنته من اعتقال اوجلان ام تلقى مساعدات من اجهزة المخابرات الاخرى. الحقيقة ان جهاز استخبارات "ميت" التركي من اقوى اجهزة الاستخبارات العالمية، ويمتاز عن اجهزة استخبارات منطقة الشرق الاوسط بالمقدرة والكفاءة العالية، وحرية القرار، والسرية التامة والانضباط. فهو جهاز مؤتمن على النظام الجمهوري العلماني، وهو جاهز للقيام بكل ما يخدم استمرارية هذا النظام ولو اقتضى الامر التضحية بالعملاء، وبعض الرؤوس بغض النظر عن اهمية خدماتها السابقة. فالمهم هو المحافظة على النظام والغاية تبرر الوسيلة. استطاع جهاز "ميت" اختراق كل اجهزة المخابرات في الدول التي شكلت محطات في مسيرة اوجلان منذ ان اعلن تمرده سنة 1975، وشكل حزبه المسلح سنة 1978. وبدأ تنفيذ العمليات في 19 تموز يوليو سنة 1987م فبلغ عدد القتلى العسكريين حتى 16/2/1999 اكثر من 4802 وعدد الجرحى 10343، وعدد القتلى المدنيين 4338، والجرحى 5289. وقتل من الموظفين 350، وجرح 198. ومن القتلى 141 معلم مدرسة، و31 امام مسجد، و70 مختاراً، و79 موظفاً و6 اطباء، و3 رؤساء بلديات و4 مهندسين الخ... وشكل القتلى الاكراد والعرب اعلى نسبة من القتلى المدنيين، ونسبة القتلى الاتراك اقل من العرب والاكراد. وقتل من حراس القرى 1134 حارساً وجرح 1741 حارساً، واعلى نسبة من القتلى والجرحى هي "حراس القرى" العربية التي تمتد من اورفة غرباً الى ماردين ومديات واسعرد ووان شرقاً. * زميل باحث في كلية الدراسات الشرقية والافريقية، جامعة لندن سواس جهاز "ميت" ساد في تركيا مصطلح ميت MIT. والحروف هي اوائل ثلاث كلمات عربية - تركية، او لها ملة تزاد اليها ياء النسبة فتصبح: ملي MILLI، والكلمة الثانية: استخبارات، ISTIHBARAT، والثالثة: تشكيلات TESKILAT.. وبما ان الجملة التركية تخالف العربية ترتيباً، يصبح على القارئ العربي ان يقرأ الجملة من آخرها لتصبح: تشكيلات استخبارات الملة، بدلاً "ملي استخبارات تشكيلات". ويقابل هذا المصطلح عربياً مصطلح الامن القومي. او امن الدولة. مؤسسة الاستخبارات التركية عريقة بدأت تنفيذ مهماتها منذ ايام السلطنة العثمانية على شكل مجموعات سرية تعاونت على اسقاط نظام السلطنة والغاء الخلافة العثمانية وقيام نظام الجمهورية القومية العلمانية. بدأت نواة الاستخبارات ضمن التشكيلات المعادية لنظام السلطنة فاندست عناصر المخابرات في الاحزاب ووجهتها وجهة ترضاها لخدمة اهدافها فسيطر عناصر المخابرات على "جمعية الاتحاد والترقي" وانصارها من عرب وآتراك، كما سيطرت على تشكيلات دعاة اللامركزية، وانصار الدستور، والاحزاب القومية المتطرفة التركية والعربية والبلقانية، فأججت عواطف الكراهية التي لامبرر لها بين النخبة الحاكمة. لم يتوقف نشاط المخابرات عند حدود التنظيمات المدنية بل امتد الى القوات العسكرية في البلقان والولايات العربية وشيئاً فشيئاً فسد الجيش العثماني وساده التناحر القومي والمذهبي والاقليمي وجاءت الحرب العالمية الاولى فألحقت القوى الخارجية هزيمة منكرة بالسلطنة ولعبت المخابرات دورها داخلياً، وبرزت لها هيكلية تنظيمية ذات اطر دقيقة في نهاية الحرب العالمية الاولى. ظهرت المخابرات التركية كقوة فعّالة في قيادة حرب التحرير اذ استقطبت الرأي العام بطرح شعار تحرير تركيا من القوات اليونانية الغازية التي احتلت ازمير وتوغلت في عمق تركيا ونسبت بطولات المجاهدين الاتراك في حرب التحرير الى عناصر المخابرات فاكتسبت هالة قومية فرضت الاحترام على الشعب التركي، وبعد ذلك لعبت الاستخبارات دوراً اساسياً في اسقاط السلطنة، وقيام النظام الجمهوري سنة 1923. بعدما قامت الجمهورية اشرف جهاز الاستخبارات على تطبيق الدستور الجديد وفرض القوانين العلمانية على رغم انوف الاتراك، وبدأ الجهاز يخسر سمعته الحسنة التي اكتسبها في ايام حرب التحرير التركية.