باخشوين ل"الرياض": 1200 خدمة رقمية تقدمها الوزارة عبر منصات متطورة    إطلاق النسخة الثالثة من معرض "إينا 3" للقطاع غير الربحي في الرياض بمشاركة خليجية ودولية واسعة    الزخم السعودي في أعلى تجلياته    "بترومين" راعٍ رئيسي لفريق "نيسان فورمولا إي" في سباق "طوكيو إي - بري"    تجمع جازان الصحي يدشن عيادة البصريات في مراكز الرعاية الأولية    لاعب الاتفاق يجري عملية جراحية في الدوحة    "الداخلية": تأشيرات الزيارة بجميع أنواعها ومسمياتها لا تخوّل حاملها أداء فريضة الحج    التحالف الإسلامي يختتم برنامجا تدريبيا في مجال محاربة تمويل الإرهاب    نجاح عملية فصل التوأم الملتصق الإريتري "أسماء وسمية" بعد عملية جراحية دقيقة استغرقت 15 ساعة ونصفًا    الجامعة العربية تدين رفض الاحتلال الإسرائيلي الانصياع لقرارات مجلس الأمن    نائب أمير الرياض يطّلع على البرامج والخطط المستقبلية لجائزة حريملاء للتفوق    أمير المنطقة الشرقية يرعى حفل تخريج 4966 طالباً وطالبة في جامعة حفر الباطن    رابطة العالم الإسلامي تُثمِّن إعلان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية رفعَ العقوبات عن سوريا    القيادة تهنئ رئيس جمهورية الباراغوي بذكرى استقلال بلاده    أسبوع الرياض للصناعة 2025 يؤكد الحراك السعودي لتشكيل مستقبل القطاع    الصحفية السعودية التي وقفت بثقة بين ولي العهد والرئيس الأمريكي    البث الموسيقي الرقمي (Streaming 2.0): عودة الفنان إلى مركز صناعة الموسيقى    العمري ل"الرياض" : زلزال 14 مايو ناتج عن انزلاق صفيحة أفريقيا تحت بحر إيجة    الماجستير لعبير أبو ربعية    مركز التنمية الاجتماعية في جازان ينفذ ورشة عمل بعنوان "تجهيز العروس الجيزانية"    الجمعية العمومية لجمعية الإعاقة السمعية بمنطقة جازان تعقد اجتماعها العادي الأول    وكالة الفضاء السعودية تستعد لإطلاق أول قمر صناعي    ميناء جدة الإسلامي يستقبل أُولَى طلائع حجاج 1446ه    2400 مشروع لتطوير 9200 غرفة فندقية في مختلف المناطق    أسرتا إسماعيل وكتوعة تستقبلان المعزين في يوسف    أفراح الزواوي والتونسي بعقد قران عبدالرحمن    كفيف.. فني تصليح أجهزة كهربائية    انطلاق "هاكاثون الابتكار الصحي الرقمي الأول"    أسرار رونالدو!!    برشلونة في مهمة حسم اللقب أمام الجار    جناح سعودي يستعرض تطور قطاع الأفلام في" كان"    "بينالي الفنون" يدعم صناعة الأفلام التناظرية    الملا يكرم العنود وحصة والصحفي في "رواية وفيلم"    بصمة على علبة سجائر تحل لغز جريمة قتل    تأمين ضد سرقة الشطائر في اسكتلندا    الأغذية المعالجة بوابة للإصابة بالشلل الرعاش    «الغذاء والدواء»: ضبط 1621 منشأة مخالفة خلال شهر    الحدود الشمالية.. تنوع جغرافي وفرص سياحية واعدة    عظيم الشرق الذي لا ينام    رفع كسوة الكعبة المشرفة استعدادًا لموسم الحج    10 مسارات إثرائية دعوية في المسجد النبوي    السعودية وأميركا.. خارج إطار النفط    في الشباك    ماركا: لابورت يعود للدوري الإنجليزي    إطلاق برنامج «الطريق إلى كأس العالم» للرياضات الإلكترونية    فعالية «تراثنا» تبرز الهوية الثقافية للمدينة المنورة    «الرئاسي الليبي» يدعو للتحلي بالوعي والصبر    «فهارس المخطوطات الأصلية في مدينة حائل»    لا حج إلا بتصريح    تعليق الحياة ليوم واحد    77% نموا بمطالبات التأمين    عماد التقدم    الهيئة الملكية لمحافظة العلا وصندوق النمر العربي يعلنان عن اتفاقية تعاون مع مؤسسة سميثسونيان لحماية النمر العربي    مُحافظ الطائف يشهد استعداد صحة الطائف لاستقبال موسم الحج    نائب أمير منطقة تبوك يشهد حفل تخريج متدربي ومتدربات التقني بالمنطقة    ولي العهد والرئيس الأمريكي والرئيس السوري يعقدون لقاءً حول مستقبل الأوضاع في سوريا    الكوادر النسائية السعودية.. كفاءات في خدمة ضيوف الرحمن    وسام المواطن الأول.. بمرتبة الشَّرف الأولى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وقف ضد العنصرية بشتى اشكالها مدافعاً عن حقوق الاقليات . سوداوية مشرقة : غونتر غراس والتنوير ، أو سوء فهم الماني
نشر في الحياة يوم 22 - 12 - 1999

حين نتحدث عن غونتر غراس يخطر في الذهن صورتان من الماضي الألماني القريب: ناقد كبير مزعوم، يمزق بجنون محموم تعسفي أمام أعين جمهور مثقف مندهش كتاب "حقل شاسع". ويعلن المؤلف في كنيسة بولس في فرانكفورت خجله مما آل اليه موقف المانيا المعادي للاجانب. فكلا الحدثين يشهدان بعض الشيء على تلك الهالة المتناقضة المحيرة التي تحيط بالكاتب غراس في نهاية هذا القرن.
انه الكاتب الألماني الوحيد الذي يتمتع باحترام عالمي لا محدود. ويعتبر في الوقت نفسه في وطنه، عند زمر معينة تمارس مهنة الحكم على الذوق، مشهوراً أو مثيراً للمتاعب، ويُشهد له بزعامة الكلمة، ومفعماً بالشك جداً. حيث يقوم النقد الأدبي بوظيفة الحاكم على الرأي سياسياً.
أما الملايين من قراء غراس في المانيا، وفي جميع أنحاء العالم، فيستجيبون لأعماله على نحو آخر. فالبحث العلمي حول غراس يناقش، ويحلل أعماله. وتظهر مساهمة معظم النقد الأدبي في المانيا الاتحادية بناءة في هذا المجال ايضاً، حين ينظر المرء، وهذا ما يحدث نادراً، الى أعماق الحكم على أعمال غراس التي ينبغي من وقت الى آخر تقويمها من جديد، لكي لا تصبح اكثر تعذراً على الفهم تحت تأثيرقبضات تفسير نقد أدبي يبدو انه يكلف نفسه أكثر مما في وسعه.
تنوير رمزي
بدأ كل شيء عام 1959 بقصة أوسكار ماتسرات، المشوه جسدياً بتعمد. شخصية قزمة، قاصرة، وهي في انسانيتها خشبة عوجاء. أجل، إنها نوع من مخلوق نحيل صغير السن، يصبح لسبب غامض جداً نسيجاً بالغ الدقة لرواية الكاتب. فذلك البطل المشوه لقصة "طبل الصفيح"، وابن تاجر البقالة ماتسرات من مدينة دانزيج، شاهد نازية ريفية الحياة اليومية الألمانية الشرقية، وحياةالبورجوازية الصغيرة في الجمهورية الاتحادية بعد الحرب، لا يستطيع حتى توضيح هويته الشخصية.
أوسكار، فنان "طبل الصفيح"، يبدو انه ظاهرة مشوهة، كائن كثير التناقض كالشر اليومي المحيط به. فالواقع في ضواحي مدينة دانزيغ يظهر انه لا يقل عنه تشوهاً من حيث النمو: ضيق الأفق، والأنانية، واللاأخلاقية، والإدمان على العيش اليومي الرتيب، والخضوع للسلطة. فالنازية التي أحرزت النجاح، هي عالم المصلحة الشخصية المحدودة الأفق.
يراقب أوسكار، الفاقد الإحساس من جراء الحضور الفعلي، ذلك العالم في غبطة ابتذاله، ويعبر عنه بصور قصصية غريبة غير متوقعة. ولكن يبدو انه يعيش بدقة، من دون انسجام، ومن حُرم منذ الطفولة بسبب المرض من الحنان، ومن اتخاذ اي موقف حاسم، بإمكانه ان يقص كل هذه الأمور في فظاعتها.
لم تقم قصة "طبل الصفيح" فقط بنقد مبدأي شديد، ولم تعمل على مناشدة الطيبة والحقيقة والجمال في ظل الكلاسيكية الحديثة الالمانية، بل قدمت ايضاً بصور لاذعة وغريبة مادة استطرادية معدة بسخرية كتجربة للأشياء المخيبة لمحاولة تثقيف جديد باءت بالفشل. ففي أجواء هايديغر النفسية الحافلة بالهمسات، أو في مسرح أحداث الفكرة العاطفية ذات التأنق الجمالي للكاتب بن، لم تستطع سوى رواية هذا الريفي المحرض ان تجعل الجوقة الصاخبة لهول وغبطة القومية ترفع صوتها. وثبتت صحة مقولة انتسنبيرغر: غص الألمان، ونقادهم لفترة طويلة بهذه القطعة الأدبية المشهورة.
ذنب الماني
أولى أوسكار كل اهتمامه لدقة احساسه، وابداعه، بإعادة اظهار التناسي، والكذب، وما هو مموه فكرياً. وفي الكتب التالية "قطة وفأر" 1961 و"أعوام تعسة" 1963، يصبح السرد القصصي تجربة معرفية مرة أخرى، ويتعلق الأمر من جديد بذلك المنظار التاريخي عن هستيريا القومية، والعرق، والحرب الالمانية البشعة، وكذلك بتأثيراتها اللاحقة، أي بطقوس التغلب على الماضي، والتبجح بإقامة المانيا الاتحادية، وتطبيع البورجوازية الصغيرة عادات الحياة، وزج الناس بعمى، أو برياء، في الذنب، وفي الاشتباكات الفكرية. ويبدأ تراكم قصصي ممزوج في توتر استطرادي لعرض هذا المشهد الشامل، للضحايا والشهود ومرتكبي الجريمة، بصورة تفصيلية حسب وجهة النظر، وعلى ضوء تكملة، وتصحيح، وتعارض الأهداف المتنافسة. فالحقيقة في "قطة وفأر" وفي "أعوام تعسة" يمن ايجادها في الفكرة الموحدة، وفي العبارات المتناقضة ظاهرياً، التي لا يمكن نقضها، وفي رواية الحقائق المجربة.
ففي المانيا ما بعد الحرب، كان التغلب على الماضي آيلاً للانحطاط الى مسعى تصور فكري مجرد، ولهذا امتلأ بأفكار نظرية مبلبلة جديدة، وبحلول اقتصاد السوق، وببقايا خيالات اشتراكية. ولكن قبل كل شيء انتقلت بصورة خفية الى هذا العالم المجدد صورياً، اي عالم المانيا الاتحادية المضطرب، أساطير تعسة عنصرية مشتقة من العهد السابق. وبصفته مؤلفاً "ثلاثية دانزيغ" كان غراس في بداية الستينات المحذر المشهور عالمياً منذ أمد طويل من الاستعادة المحدثة ومن التغيير الحاصل في مظهر النازية. وتبرز منذ ذلك الوقت اكثر فأكثر في وجهة نظره الفنية نقد المرحلة الحالية.
تظهر رواية "مخدر موضعياً" 1969 غراس في قمة نضاله السياسي في سبيل جمهورية المانية اشتراكية انسانية. فانحيازه الى الحزب الديموقراطي الاشتراكي والى فيلي برانت كان آنذاك العناوين البارزة في الصحف باستمرار. ففي رواية "مخدر موضعياً" يصبح علاج أسنان شتاروس، الفوضوي سابقاً والمدرس "العاقل" في مدرسة ثانوية الآن، تاريخ وعي مثقف يقف وسط ثورة الطلاب، ويتذكر شبابه النازي. فالراديكالية الطلابية عام 1968، وعقدة التضليل النازي للشباب في الرايخ الثالث، ينبغي عكسهما الواحدة في الأخرى بما لهما وما عليهما. غير ان الانعكاس التاريخي لا يسخر هنا لهدف تعليمي، بل على الأكثر كتحليل لتعصبات "لا يقرها العقل"، ويجري عرضها معلقة أمام أفق أزمنة "متنورة" فالرواية تصف فعلاً تاريخ وعي يتوقع ان يشتد فيه منذ أمد تغلغل جميع الأفكار من خلال الوسائط الاعلامية وكيفية اخراج وإظهار العمليات التقنية.
يقدم العمل الروائي لغراس في نهاية الستينات بصيغة ذكية مادة محاورة متنوعة عن "المثابرة، والشك، والعقل، والتعلم، والتردد، والبدء من جديد، والتحسينات التي من النادر ملاحظتها، والتطويرات المتوقع فشلها، والارتقاء خطوة تلو الأخرى". فهدف غراس هو تسخير الحكمة العملية المنعكسة في المناقشة الروائية من أجل تنوير خبرة مكشوفة وملهمة بديموقراطية في دولة الحزب الاتحادي المسيحي الألمانية.
في رواية "يوميات حلزون" 1972، يجري من خلال ملاحظات دقيقة، وتعليقات ابداعية، وانتقائية كدفاع ذكي، لم يكن له مثيل آنذاك، عن الشك "المعقول"، نسج صور فكرية، وانعكاسات متنقلة عن المعركة الانتخابية السياسية - التاريخية الالمانية بين 1965 و1969. فهذا "الكتاب الملوث" يعكس كعرض زمني وتأويلي ذي مستويات عدة "قضية بلوغ الثوري سن الرشد" المؤملة التي أثارت المانيا الاتحادية في أواخر الستينات ومطلع السبعينات. فشعار هذه التأملات عن الحياة، وعن احتجاج الطلاب لفترات ما بعد اعادة الوعي والتي أصبحت نظرية، هو "التوقف في التقدم"، فليست الكآبة والشك التي يراهما غراس، وقد امتلأت بحيوية مونتنيه 1، وليختنبيرغ 2، وشوبنهاور 3 اسوأ وسيلة ثقة حيال هذا القصور الذاتي للظروف الألمانية الاتحادية. وكما في رواية "يوميات حلزون" تقدم بعدها رواية "ولادة بتطريق الرأس" ورواية "الألمان ينقرضون" 1982 مواضيع عصرية نقدية.
صدرت قبل الروايتين المذكورتين رواية غراس الضخمة "البوت" 4 1977 التي تستعرض عوالم خيالية تشمل آلاف السنين، كما لو كانت تاريخاً عقلانياً للحضارة التي يبدو فيها البشر في تطورهم كمخلوقات. فالثقافة السياسية لألمانيا بعد الحرب ينبغي ان لا تصبح ضحية شبح وهمي هيغلي. فهذا المنظور الانساني كان في الدرجة الأولى المشروع القصصي الضخم الذي التزمت به رواية "البوت". فما بدأ في سالف العصور في جسد - الحب الاسطوري للأم الأولى الجبارة اللطيفة "أوا" AUA كنتيجة إشباع متعة من دون تاريخ للرجل أصبح جوهرياً في وقت ما بواسطة "برق منور من دون غموض" وما ان تنور الرجل حتى بحث عن كلمة تناسب "النظام الأبوي العقلاني"، وبدأ بالفرار من عالم النظام الأمومي، وغدا لا مستقراً، وأخذ يفكر ويخطط، وخطر في ذهنه مبدأ تقسيم العمل. فمهما كان "مصباح العقل" باهت الضوء، فقد تدخل الرجل الآن بنشاط مفرط في حكم التاريخ، لكن "نشاطه العظيم" تحول الى بشاعة لا متناهية.
كان عمل غراس الروائي تاريخاً مضاداً لكل التوقعات الخيالية عن زوال العالم الحالي، وضد أي رؤية لحاكم أو منتصر دار بخلده اختزال الخبرة التاريخية الى صيغ يستخدمها كما يشاء. فرواية "البوت" تقص عن الصراع الجسدي، والغرامي، والجنسي الناضح عرقاً، وعن سطوة الاحاسيس التي تحدد المصالح بعمق تاريخي بعيد الغور، كأمل مستقبلي يتعذر التكهن به. فالقدرة الإبداعية على نقل الأساطير شفوياً، والخيال الجامح الذي يمكن بواسطته "تجاوز حاجز العقل"، تجعل من تلك الأشعار الشعبية القديمة، وسائل غراس للارتياب، والنقد، والتصحيح التهكمي والهجائي للصور التاريخية المزيفة. ولذلك فالتنوير في أساطير رواية البوت لا تسرد للتدليل على لا معقولية المزاعم، بل من أجل الأفكار التي تكمن فيها.
إن رواية "الفأرة" 1986، هذه المحاولة للاستمرار في الكتابة قصصياً عن مشروع التنوير المتضرر صدرت في فترة ظهر فيها الشعراء الألمان، كما عبر عنهم غراس "متكهنين" مرة اخرى في الفترة التي صمتت فيها "حداثة الأمس مضطربة"، وأرادت موجة ما بعد الحداثة السماح لنفسها من دون اي التزام، بكل شيء وبكل ما يناقضه. فرواية "الفأرة" هي وسط اعادة تسليح حلف شمال الاطلسي، والجنون الذري، وكارثة البيئة العالمية، واستغلال العالم الثالث، تحذير عن نهاية العالم، ونذير ملحمي عن التحطيم الذاتي لكل ما هو انساني امام أفق العقلانية التقنية المتنورة. والعالم الذي تصفه الرواية بتحسس مسبق، في حالة الكارثة الزمنيةالنهائية، لا يعيش إلا من "نقيع الافكار المجدبة"، فالعقلانيات التجريدية والمعادية للطبيعة تكثفت الى ترابط جهل لا مهرب منه. فهذا المجتمع العالمي كان عاجزاً من الاساس "لو لم يستطع ارتشاف بعض معرفة متأخرة، ان لم تكن جديدة، فعلى الأقل من كلمات التمنيات القديمة التي يمكن ان تدعي الحرية والمساواة والإخاء".
ليس من العجب حين يظهر الآن على مسرح الاحداث "متنور" لأن كائنات احيائية وليدة تصورات الخوف والقرف البشري قادرة على التكييف مع الطبيعة، وتقرر كمجموعة واقعية الى أقصى حد، وناجية من الزوال، مستقبل العالم، ألا وهي: الفئران. ففي الرواية ينمو من دون ان يمنعه مانع، أحد مواليد الرعب للعقل الذي هو "مخلوق خيالي شرير"، الى مظاهر تعكس في ذاتها مشكلة العنف مضاعفة. وهذا هو ايضاً ثمرة تشوه الكائن البشري، وبوجه خاص لا شعوره. ان محاولات طرح قضايا الواقع هي كل ما يستطيع القاص الناسك التفكير به في دوامة من المناقشات والدلائل والاعتراضات، والرؤى والصور والقصص والذكريات والتصورات. ففكرته عن الجنس البشري المتقدم هي تحت رحمة عبث الانعكاس الاعلامي البراق، الذي تمثل في مركزه الفأرة دوره دور الطرف المقابل الناقد بمكر للتنوير والحضارة. ولا يجري في هذه الكارثة البشرية المبتدعة عن النهاية البشعة تقديم خرافة، بل ما هو مضاد للمثالية التي ما زالت تحاول فكرياً إفاقة امكاناتها العقلية في أشكال الزوال التاريخي. فرواية غراس هذه، تقص بسخرية الاسطورة القديمة كتاريخ خاسر بذاته، لكي تتخيل في الوقت نفسه اشعاراً يتسم ببشاعة مضحكة عن فقدان الخيال التقني العصري وتحطيم العقل.
يتضح الهدف التنويري لغراس في الرواية الأخيرة "حقل شاسع" 1995 في تشكيلة مهمة ترابطية متباينة جداً، يجري تقديمها كنسيج مادة متعددة الطبقات عن التاريخ "القومي" والتفاهم المعاصر. ويستطيع فقط من لا يود ان يرى في المؤلف الشخصيات القصصية المتعددة الأصوات، وذات التجربة، والمختلفة في الحوار فيما بينها، ان يتحدث في هذا المجال عن التشويه السيء لواقع الوحدة الوطنية. ولكن يبدو انهم لم يعودوا يريدون ان يحسنوا الظن بمعارض صقلته المناقشات الجمالية بعقلية قاص حكيمة، يميز بذهن حاد في البيئة المختبرية بين التجربة والخطأ، وبناقد للوحدة بأعلى صوت، و"شخص لا وطن له".
إن التقويم التافه لكونتر غراس، المشاجر في السياسة، أصبح في الوقت نفسه عرضاً متأصلاً. ولهذا يعوز البعض منذ زمن طويل النزاهة حيال هذا الكاتب العبقري الكبير المتصف بالدقة، وسرعة الخاطر، ولم يعد الأمر يتعلق بالحقد والجهل الشخصي لبعض النقاد، بل أصبح في الآونة الأخيرة أعراض احتراف نموذجي، يسوق مجموعة من شخصيات الاعلام والفكر - ليس الشباب منهم فقط - في المانيا الاتحادية الى حافة موت، النقد "هو لا يزال هو"، بسبب النكد للشعب العقلاني... هذا الكاتب الذي ملامح وجهه من معالم هذا القرن. فهو أحد الأوائل من جيل تاريخ البداية الجديدة لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ويدأب على ان تبقى الجمهورية في خجلها التاريخي، وتتحمل جمالية نزاهته أي تأنيب مهما كان، ولا زال ينذر بإثارة المناقشات. وهو الوحيد من بين الكتاب باللغة الالمانية الذي يتبوأ مكانة عالمية، وينتصر على اي رأي يهدف الى الحطّ من قدره، والى جعله ليس سوى اسطورة ادباء يزاولون السياسة، ويستطيع ان يفرّق شمل موظفي مؤسسات اعلامنا العصري المسكنين للرأي الى معسكرات مذاهب مختلفة متعصبة.
احكام خاطئة
يؤدي اي شيء يقوله او ينشره غراس الى القيل والقال، والى مختلف الآراء المرسلة على البديهة، والى شعائر الثناء والرفض، ولكن بمجرد ان يتعلق الامر بما يقدمه من انتاج ادبي، يُصاب نقدنا بهستيريا اطلاق احكام مسبقة وخاطئة عجيبة. وينبغي التأكيد مرة اخرى على ان هذا الموقف منه اصبح اعراضاً متأصلة. ولا يتعلق الامر في المقام الاول بشهرة الكاتب، بل هو نابع من خيبة الامل في مؤسسة الحكم على الذوق نفسها. وهي غير قادرة على التحرر من الوهم في ان هذا الكاتب المبدع، والمفكر للجمهورية الثانية، والممعن التفكير في المستقبل، استطاع على رغم الانعطاف التاريخي في المانيا الالتزام بالتراث.
ان جيل مذهب التنوير المتألق لجيل الكتّاب انتسنبرغر وفالزر وهابرماس وغراس، وان بدا في بعض الاحيان في مظهر يكسوه غشاء العتق، لا يثبت فقط كما في السابق، على انه جيل قادر على التمييز بسبب نموذج التفاهم الاجتماعي العاطفي لهذه الجمهورية، بل ويبدو في مشهده الثقافي الاخير اكثر قدرة على نقل الآراء من المرتدين الحديثين ذوي الاعمال السياسية المتلألئة الالوان عن نمط الحياة. هل من الممكن ان تصبح مهنة النقد الادبي المتسمة بالكتابة الصحافية ضحية كل ازمات التوجيه المؤكد على المغزى، لانها مثلاً لا تكترث غالباً بالعلوم المتعلقة بالموضوع؟
ضعف الاحساس الناجم من المحيط المرير جداً، والمعارك الفكرية، وكذلك التزاحم الشديد على اكتساب الشهرة، لا يمكن ان تبقى من دون ان تترك اضراراً دائمة على مستوى النقاش الادبي الجمالي في الحاضر الفكري لجمهورية الثقافة هذه.
رغبة في أفول الآلهة
نعرف منذ الجدل حول رواية "حقل شاسع"، انه من الممكن ان يقود هذا الموقف الى انفجار داخلي لمعيار الكفاءة الاختصاصية وملكة اصدار الحكم الادبي. فنحن نرفع اليوم من دون تردد الذكاء القصصي الجدير بالاعتبار لكاتب مثل انغو شولتسه الى سماء الشعراء، ونترك من دون حماية المادة الفكرية لعمل غراس الفني الذي يمكن اكتشاف اللغز فيه بالعلاقة مع القرن. حين تكون حريات الارادة الفكرية وعوائق التجربة متشعبة بعيدة الغور، ومعقدة، في مثل هذا العمل الادبي المعاصر القيّم، ينبغي في النهاية تقديمه على ضوء "نقدي" من دون تحيّز ووفقاً للاهواء.
يبدو انه سوء فهم الماني متميز، لان بعض النقد الادبي هنا يعيق منذ عقدين على الاقل سبل الحوار مع فنان الكلمة غراس، لكي يمكن الابقاء على هذا المواطن المشاكس المتعذر كبحه بعيداً ففي كل مرة اصطفى فيها غراس العقل وببراعة فنية على غرار ليختنبيرغ حرض جمهور قرائه الالمان على التفكير الذاتي. واما الوسط المعتدل في النقد الادبي فهو على العكس من ذلك لا يريد ان يسمع سوى نفسه ويعامله غالباً بمزاج حانق، وبمغالاة لا تكترث بالفن، ويبدو ان جوهرها نابع من رغبة متعذرة التحقيق في افول الآلهة.
ترجمة حسن ذو الفقا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.