- 1 - مهما قيل في "أسباب النزول" نزول النصّ الإسلاميّ المؤسِّس، فإن التّنزيلَ يعني أنّ هذا النصّ، في عِلّتهِ وغايتهِ، خطابٌ موجّهٌ من اللّه بوساطة رسوله إلى الإنسان، من أجل هدايتهِ وسَعادته. وضمن هذا المعنى، تحديداً، يمكن وصفه بأنّه نَصٌّ نزلَ في فتراتٍ زمنيّة، جواباً عن مشكلاتٍ متنوّعة، لكلّ منها في الفترة الخاصّة بها، فضاؤها المعرفيّ الخاصّ. وهو فضاءٌ غير ثابتٍ. وقد عَلَّمنا هذا الفضاء أنه لا يُحكَمُ برأيٍ أملتْهُ فترةٌ مُعيَّنة، على فترةٍ لاحقةٍ مغايرة. فلا بُدّ من أن تُفهمَ هذه الفترة ومشكلاتُها المغايرة، بِفَهْمٍ مغاير يؤدّي إلى رأيٍ خاصّ فيها. يمكن إذن أن نقول عن هذا النصّ إنّه نصٌّ إلهيٌّ - إنسانيّ: إلهيٌّ بإرساله، إنسانيٌّ بِتَلقّيه. أو لنقلْ: إنه نصٌّ "مكتوبٌ" إلهياً، مقروءٌ إنسانياً: القول للّه، والتأويلُ للإنسان. فلم ينزل الوحي لكي يبقى نصاً في ذاته ولذاتِه، وإنّما نزلَ لكي تتأمّلَ فيه العقول، وتتدبّرَه، وتَستقصيَهُ، وتتحاورَ معه وفيه وحولَه، ولكي تَسْتضيء به، نظراً وعملاً. لا نصّ إلا للقراءة. والقراءة، تحديداً، متعددة ومتباينة، وإلاّ لا تكون إلا تأطيراً وتقييداً. ولما كان مدارُ هذا النصّ سعادة الإنسان في الحياة على هذه الأرض، وفي الآخرة، فإنّ فَهْمَهُ أو تأويلَه مفتاحٌ لمعرفةِ المستوى الذي ينظر من شُرفتهِ هذا الإنسان إلى هذا النصّ وإلى نفسِه، في علاقته به، وفي نظرته إلى الكون معاً. فمستوى النصّ إذن، هو الذي يحدّد مستوى "الصورة" التي تُقدَّمُ عنه، أوْ تُرسَمُ له: أهي "ضيّقة" أم "واسعة"؟ أهي "غنيّة"، أم "فقيرة"؟ أهي "محرِّرة" أم مقيّدة"؟ أتَرى إلى الإنسان في أفقٍ كونيٍّ - إنسانيّ، أم ترى إليه في أفقٍ صغيرٍ من الشؤون الصّغيرة؟ -2- تعلّمنا الخبرة التاريخيّة كيف أنّ هذه "الصورة" كانت تتغيَّرُ تِبْعاً لمستوى العقول: كانت عاليةً في العقول العالية، وفقيرةً في العقول الفقيرة. وهذا مِمّا يؤكد أنَّ "أعظمَ" النّصوص و"أوسعَها" تبدو مِرآة العقولِ الصغيرة وميزانها نصوصاً "صغيرةً" و"ضيّقة". هكذا نُدرك أنّ الآفة التي تشوّه النّصوص الكبرى، وبخاصةٍ الإلهيّة، تكمن في العقول الصغيرة الضيّقة التي تفسّرها، لأنها تقلّص هذه النصوص وتضيّقها وتُحَجّمها جاعلةً إياها في مستواها. ولئن كانت هناك، استطراداً، أزمةٌ خانقة في كلّ ما يتعلّق بماضينا، الأدبيّ والدّيني، على السّواء، فإنها في المقام الأول، أزْمَةُ قراءة. - 3 - السؤال الآن، في هذا الإطار، وفي هذه الفترة الزمنيّة هو التالي: هل الفهمُ السائدُ لهذا الأصل يسير في أفق رساليّتهِ الإنسانية - الكونيّة، وهل هو في مستوى الإجابة عن المشكلاتِ الكبرى التي تطرحها هذه الفترة الزمنيّة؟ لا أريد أن أجيب، وإنما أريد أن أرصدَ وألاحظَ، تاركاً للقارىء أن يجيب هو نفسه. ومن يرصد الكتابات "الأصولية"، اليوم بمختلف اتّجاهاتها، يلاحظ أن الفهمَ الأصوليَّ السّائد للنصّ - الأصل يُعمّم "ثقافةً" دينية، تقوم في نظْرتها ونَهْجها على أسسٍ يمكن ان نحصر أكثرَها أهميةً، كما يبدو لي، في النّقاط التالية: أولاً: النصّ - الأصل لا يُفسَّر ولا يُفهم إلا بنصٍّ. المُجمَلُ في مكانٍ يُبسَط ويُفصَّل في مكانٍ آخر. ثمّة ترابطٌ وتداخلٌ وتعالُقٌ بين النّصوص تكشف غوامضَها، وتضيئُها. ثانياً: إذا تعذّر تفسير النصّ بالنصّ لسببٍ أو آخر، فلا بُدّ من اللّجوء إلى النّقل، وإلى المأثور. والسنّة هي المرتبة الأولى في ذلك. تليها أقوال الصحابة الذين "شاهدوا" قرائنَ، واختُصّوا بأحوالٍ تجعلهم أكثرَ درايةً بشرح النصّ وفهمه، عدا أنّهم، كما يصفهم ابن كثير، يتّصفون "بالفهم التامّ، والعلم الصحيح، والعمل الصالح". ويلي أقوالَ الصّحابة في المرتبة بعضٌ من أقوال بعضٍ من التابعين. ثالثاً: يترتّب على هذين الأساسين أساسٌ ثالثٌ صاغه ابن كثير في تفسيره للنص القرآني قائلاً: "تفسيرُ القرآن بمجرّد الرأي حرامٌ"، معتمداً في ذلك على حديث نبويّ يقول: "من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ"، وهو حديث يُروى بصيغةٍ ثانية تقول: "مَن قال في كتاب الله برأيه، فأصابَ فقد أخطأ". لأن هذا القائل يكون، كما يُوضح ابن كثير شارحاً: "تكلّفَ ما لا عِلمَ له به، وسَلكَ غيرَ ما أُمِرَ به. فلو أنّه أصاب المعنى في نفس الأمر، لكانَ قد أخطأ، لأنّه لم يأتِ الأمرَ من بابه". - 4 - الخلاصة الأولى التي توصِلنا إليها هذه الأسس الثلاثة هي أنَّ المسلم لا يجوز أن يتكلّم على كلّ ما يتعلّق بالنصّ - الأصل، إلا في "المعلوم" منه، وفقاً لطريقة النّقل والاتّباع. خصوصاً أنَّ السّلفَ، كما يحتجّ المعاصرون، كانوا يمتنعون "عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه"، كما يؤكّد ابن كثير، مؤيداً ما يذهب إليه بروايةٍ عن إبن عبّاس أنّه قال: "من القرآن ما استأثرَ الله بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتِها، ومنها ما لا يُعذرُ أحدٌ في جهالته". ولا أريد هنا أن أناقش هذه الرواية، وإنما أكتفي بأن أطرح حولها أكثر الاسئلة بساطةً: كيف يمكن ان يكون الإنسان مسؤولاً أمامَ نصٍ لا يفهمه ولا يعرفه والله، هو وحده، "استأثرَ بعلمه"؟ - 5 - الخلاصة الثانية هي أنّ الثقافة التي تعمّمها هذه القراءة تحوّل النصّ - الأصل إلى مجرَّد "شرْعٍ"، يبدو في ألطفِ صيغةٍ يمكن ان تقال، "وديعةٌ" ائتمَنَهم الله عليها، هم وحدهم، دون سائر البشر من المسلمين الآخرين. وهم يتصرّفون في كلّ ما يتعلّق بها، كأنها "ملكٌ خاصٌّ" لهم - أعني لطرائقِ علمهم وفَهْمهم. وهذا مِمّا أدّى عملياً، بفعل الصراع بين المذاهب والآراء والاتجاهات والمصالح، وبخاصةٍ الاقتصادية - السياسية، إلى وضعٍ ثقافيّ - دينيّ، يحتاج كما أرى إلى نَقدٍ جذريّ. ففي هذا الوضع يتحوّل النصّ - الأصل، بفعل حسّ امتلاكه المهيمن، إلى أداةٍ للسلطة والهيمنة، أي إلى أداةٍ للعنف، حيث لا يُكتفى بنبذ التآويل المعارضة، وإنما يُكفّر أصحابها كذلك، وتُباح دماؤهم، كما يحدث اليوم. لكن من يسمح لنفسه بأن يعطي نفسه سلطة إلغاء الآخر المخالف وقتلهِ، أفلا يبدو كأنّه يُعطيها سلطةً إلهيةً؟ في هذا الوضع أخيراً، يصبح النصّ - الأصل مُغلقاً على معنىً واحد، ولا يعودُ مدارَ حرّيةٍ وتأمّلٍ، بل يُصبح مدارَ طاعةٍ وخضوع، وىُصبح بوصفِه كذلك تابعاً لعالمٍ جاء أساساً لكي يستتبعه. أفلا يحق لنا آنذاك، أن نقول إنّ النص الذي جاء ليغلُبَ العالم، يعمل هؤلاء الذين يدافعون عنه، على أن يغلبه العالم؟ المقالة المقبلة: حروب المعنى