أمير القصيم يهنئ القيادة الرشيدة بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك    وزير الخارجية يستعرض العلاقات التاريخية مع رئيس المجلس الأوروبي    نيمار يُعلق على طموحات الهلال في كأس العالم للأندية    يامال يصف ظهوره الأول في كأس أمم أوروبا بأنه «حلم»    متحدث الداخلية: اكتمال المرحلة الأولى من خطط أمن الحج    ثنائي إنجليزي يتنافس لضمّ سعود عبدالحميد    فسح 2.1 مليون رأس من الماشية استعدادًا للحج    ضبط 25 مخالفًا نقلوا 103 غير مُصرَّح لهم بالحج    بدء نفرة الحجاج إلى مزدلفة    الرئيس الشيشاني يُغادر المدينة المنورة    وزير الداخلية يؤكد اعتزاز المملكة واهتمام القيادة بخدمة ضيوف الرحمن    «الرياض» ترصد حركة بيع الأضاحي.. والأسعار مستقرة    النفط يسجل مكاسب أسبوعية بفضل توقعات الطلب القوية رغم انخفاضه    خبراء صندوق النقد: استمرار ربط الريال بالدولار مناسب للاقتصاد    بدء مفاوضات انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي    40 نيابة قضائية لمباشرة قضايا موسم الحج    حرس الحدود بعسير يقبض إثيوبي لتهريبه 45 كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر    رئيس مصر يزور المتحف الدولي للسيرة النبوية    العيد في غزة حزين وبلا أضاحي    الشيخ المعيقلي في خطبة عرفة: الحج إظهار للشعيرة وإخلاص في العبادة وليس مكانًا للشعارات السياسية ولا التحزبات    خالد الفيصل يطمئن على سير الخطط المقدمة لضيوف الرحمن    «دله الصحية» تقدم عبر مستشفى مركز مكة الطبي رعاية طبية عالية الجودة لخدمة ضيوف الرحمن    إسبانيا تقسو على كرواتيا بثلاثية في افتتاح مشوارها بيورو 2024    خادم الحرمين وولي العهد يتلقيان برقيات تهنئة بمناسبة عيد الأضحى المبارك    نائب أمير منطقة مكة يستقبل وزير الحج والعمرة في مقر الإمارة بمشعر عرفات    تصعيد أكثر من 42 مليون سلعة تموينية للحجاج في عرفة ومزدلفة    وزير الخارجية يترأس وفد المملكة بقمة السلام في أوكرانيا    أكثر من 1.8 مليون حاج وحاجة يقفون على صعيد عرفات لتأدية ركن الحج الأكبر    وزير الحج يعلن نجاح خطط التصعيد من مكة ومشعر منى إلى صعيد عرفات    (621) مليون مستفيد ومستمع لترجمة خطبة عرفة عالميًا    تصعيد في جنوب لبنان.. واشنطن تخشى الانزلاق لحرب    سياسي مصري: قصف مخيمات النازحين «جريمة حرب»    مع دخول الصيف.. سكان مخيمات غزة يواجهون «الجحيم»    "الصحة" تُحذر الحجاج من أخطار التعرض لأشعة الشمس    وزير الإعلام يتفقد مقار منظومة الإعلام بالمشاعر المقدسة    رجل أمن يحتضن الكعبة.. خدمة وشوق    الأجواء المناخية بطرق المشاعر المقدسة    أبحاث تؤكد: أدمغة الرجال تتغير بعد الأبوّة    انضمام مسؤول استخباراتي سابق إلى مجلس إدارة شركة Open AI    نائب أمير مكة يتابع أعمال الحج والخدمات المقدمة لضيوف الرحمن    السعودية تتسلم علم استضافة أولمبياد الفيزياء الآسيوي 2025    2000 إعلامي من 150 دولة يتنافسون في الأداء    مركز العمليات الأمنية ل«عكاظ»: نرد على المكالمات في ثانيتين    مصادر «عكاظ»: الشهري يدرس عروض أندية «روشن»    «السيادي السعودي» يعتزم الاستثمار في الهيدروجين الأخضر و«المتجددة»    النائب العام يجري جولة تفقدية على مركز القيادة والتحكم للإشراف المباشر على أعمال النيابة العامة بالحج    «الزامل للتنمية القابضة» شريكٌ في «عنان إسكان»    «SSF» قوات النخبة.. تدخل سريع للحماية والتأمين    حجاج صندوق الشهداء والمصابين والأسرى والمفقودين يحطون رحالهم في منى    4 أطعمة مناسبة أثناء تناول حقن التنحيف    40 عاماً لتخطي سوء معاملة طفل !    مركز البحوث السرطانية: لا تتجاهل البقع الزرقاء !    الأخضر تحت 21 عاماً يخسر من بنما بركلات الترجيح في بطولة تولون الدولية    فيلم "نورة" من مهرجان "كان" إلى صالات السينما السعودية في رابع العيد    120 مليون نازح في العالم    صحفيو مكة يشيدون بمضامين ملتقى إعلام الحج    هدايا بروح التراث السعودي لضيوف الرحمن    العيسى: تنوع الاجتهاد في القضايا الشرعية محل استيعاب الوعي الإسلامي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لقاء مع "رابطة أدباء الاختلاف" في الجزائر . أصوات بحثت عن فرديتها وانكسرت ... فكان لا بد من الإنفتاح الثقافي 2 من 2
نشر في الحياة يوم 25 - 01 - 1999

كنا نشرنا نهار السبت الماضي الحلقة الأولى من هذا اللقاء الذي أجراه الشاعر نوري الجراح مع "رابطة أدباء الاختلاف" في الجزائر، وفيه تحدثوا عن تجاربهم الأدبية ومعاناتهم في ظلّ الأوضاع الراهنة.
هنا الجزء الثاني من اللقاء، ويواصل فيه الادباء الكلام عن علاقاتهم بالحركات الادبية والشعرية في العالم العربي.
نجيب أنزار:
اتصور ان الأسئلة متشعبة جداً عندما يكون الأمر متعلقاً بما يجري في الجزائر، خصوصاً في العشرية الأخيرة. طبيعي ان يوجد مثل هذا المناخ، ووجهات نظر، ومقارانات، وتحليلات، تصورات معينة. وفي الأخير عما نبحث؟ نبحث عن إضاءة مشهد متشابك في خيوطه، في مادته، في روحه، هناك ما يمكن أن نصنفه في خانة السياسي، الاجتماعي، الحضاري، العام، الثقافي، الإبداعي، الجمالي، الإنساني. لكن أنا لا أستطيع أن أضع نفسي في مواقع عدة لأجيب عن كل هذه الأسئلة، أو الإنشغالات. لكن في مسار كتابتي استطيع ان اتوقع، واتحدث عن تجربتي، ممكن جداً ان اتقاطع مع تجربة غيري من شعراء وكتاب من "جيل" واحد لأن المشكلة ان هناك خلافات كثيرة حول "المجايلة" والمفهومات المختلفة لها.
طبيعي ان أجد ان هذه المحطات في مسار الكتابة هي تقريباً، ابنة عشرين سنة من المخاضات والصراعات المستجدة في الوطن الجزائري. في العام 1988 كنا في الجامعة جيلاً من الطلاب، جئنا إلى الكتابة والوعي، وإلى مخاضات المجتمع الجزائري من أحد الفضاءات الأكثر توتراً وحيوية وديناميكية هي الجامعة. ونشأت مخاضات دفعت بنا إلى الارتماء في احضان الكتابة، ووجدنا انفسنا في مغامرة الكتابة، وفي غمرة تناقضات فجرّت فينا اسئلة حارقة من نوع: ماذا نريد من جزائرنا هذه؟ كيف هي صورتها وماذا نريد لها أن تكون؟
كنا لا نستطيع ان نكتب إلاّ ضمن خارطة سياسية معطاة لنا تتوزعها اطراف معينة. هناك حزب واحد له ارث تاريخي ووطني ونضالي، لكنه حزب بعيش أواخر أيامه بحيث أفرز كل تناقضاته ورماها في وجه الجزائريين وفي حياتهم. وهناك مجموعات من المصالح تتجاذب أطراف هذا النظام. وبالتالي كنا ما ان نشرع في الكتابة حتى ننخرط في الفعل السياسي، وفي مخاض اجتماعي، وفي صيرورة اجتماعية، في لحظة تاريخية حرجة وحاسمة أدت كل معطياتها إلى انفجار البنية الاجتماعية، وحدثت هزة اكتوبر 1988. وهنا كانت المواجهة الأولى مع الأسئلة الحقيقية. هذه الهزة رمت بنا في غمرة انفتاح ديمقراطي، وفي الواجهة صحف ومجلات ونقاشات في السياسة والثقافة والوعي وجماليات الكتابة الجديدة، والحداثة، إلخ...
ومع بداية التسعينات، وكنت في مسار الكتابة التجريبية، أعي العالم عبر حداثة هي حداثة زمنية مرتبطة بسياق اجتماعي وتاريخي للمجتمع، وكنت ممن حملوا اشواقاً وأحلاماً وتطلعات دعت إلى تصحيح بعض المعطيات، وفي الوقت نفسه كانت هناك، في الشعر مثلاً، كتابة قديمة ما زالت تؤمن بأوهام التقليد، من "القصيدة العمودية" وحتى "الأوبريت النضالي"، وهذه اعطيت لها التسهيلات، ورعتها مؤسسات الدولة والمنظومة التربوية، وكانت لها الهيمنة في المنابر والجرائد الحكومية، وفي الفضاءات الثقافية الرسمية كانت لها المكانة المطلقة، ولها التغطية الدعائية الكاملة. هذا في حين ان مسار الكتابة التجريبية منذ أواسط الثمانينات، وحتى الآن، كان يشهد تحولاً داخلياً عميقاً، وثمرته كتابة تجريبية حداثية تتطلع إلى تجديد أشكال الكتابة وموضوعاتها ورؤاها بحيث تتحقق حساسية جديدة ونظرة جديدة إلى الكون وإلى العلاقات الإنسانية، وإلى الإنسان نفسه، وإلى اللغة كأداة هي الأكثر اجتذاباً لصراعات الإنسان مع الوجود.
وقد ظهر في هذا التيار الجديد شعراء من امثال عمار مرياش، عادل الصياد، مصطفى دحية، أحمد عبدالكريم، سعيد هادف، عبدالله الهامل، أبوبكر زمّال، وغيرهم...
وسوف نجد ان لكل من هذه الأسماء وغيرها خصوصيات كتابية على رغم ما تشترك به. وقد أثار لقاؤنا عن قرب، ومن بعد، أسئلة حول جدوى الكتابة، وحول لمن نكتب؟ وهل إن كتابتنا تستجيب للحظتها الزمنية؟ وهل بإمكاننا ان نرسي تقاليد معينة في الكتابة، تتميز، حقاً، بالجدة والاختلاف عمّا هو سائد، أكان هذا الاختلاف جمالياً، او فلسفياً، أو أداتياً، أو وجودياً؟ وضعنا الرهان وخضنا التجربة، وبدأت تظهر نتاجات جيدة، وقد صارعنا من أجل تثبيت هذه الكتابة، ولكي تشغل حيزها الطبيعي في المشهد الثقافي والجمالي في الجزائر.
هذا الصراع لم يكن وليد قوانين او مواثيق تسبب بها تأسيس جمعية ثقافية في ظلّ التعددية الداهمة بدورها، بل إن هناك نضالات سابقة، هناك عامل تفعيل ثقافي سابق على انفجار 1988، وعلى الإنجازات اللاحقة. وبالتالي فإن الأصوات المبدعة التي التقت في "رابطة الاختلاف" إنما التقت لأن لديها ما يجعلها تلتقي في منتدى ثقافي مختلف بات يفتش عن مكانه في "المشهد" وفي "السوق". هذا بشيء من الاختصار. أما عن التواصل والانفتاح على الآخر، والنظير جمالياً عربياً وأوروبياً، فنحن في الجزائر منفتحون خصوصاً على الأداب اللاتينية، وبصفة خاصة الفرنسية، وكذلك على الأدب المشرقي، إنما صلتنا أكبر مع الأدب المغاربي. أما الانفتاح على المشرق بمعنى حقيقي فهو يحتاج إلى أدوات وشروط تاريخية. هنا، في الجزائر نزعات لعزل بلادنا ثقافياً، هناك أيضاً نمط من الثقافة الإسلامية المبسطة لخدمة أغراض معينة بما يهمل الجانب التنويري النقدي المتطلع الحداثي صاحب الاسئلة على مستوى كوني. وأنا أرى انه مع "النظام الدولي الجديد" تبدو الأمور في حالة تغيّر نحو صراع ثقافي وإعلامي كوني.
في الثمانينات كان المعطى الثقافي متحدراً عبر القنوات المشرقية، وكنا نقرأ الحركة التجديدية العربية في بداياتها منذ صلاح عبد الصبور، وبدر شاكر السياب، وحتى أنسي الحاج ومحمد الماغوط، ومحمود درويش، وسعدي يوسف، وغيرهم.. للأسف لم نكن نسافر كثيراً، لكننا كنا نتابع بعض ما انتجته البؤر الجمالية الجديدة في سورية ولبنان ومصر والعراق، وكنا نحصل على الكتب بواسطة المعارض. وقد نشطت قراءاتنا، فبعض نصوص الجيل الجديد في الجزائر حملت تناصات مع النصوص الغائبة.
لكن ماذا عن معرفتكم بجيل السنوات العشرين الأخيرة في الكتابة العربية الحديثة؟
نجيب أنزار:
هذا الجيل، للأسف، غائب عن الجزائر، لأن قنوات الاتصال انقطعت منذ مطلع الثمانينات.
عادل الصياد:
الغريب ان هذا الانقطاع مع المشرق ومستجداته الفكرية والجمالية تأكد في نهاية الثمانينات مع ذروة ما يسمى ب "الانفتاح" و"التعددية". وهذه من المفارقات العجيبة لهذا "الانفتاح" وهذه "التعددية".
وأضيف على ما كان يقوله نجيب، ان لحظة "الاختلاف" جاءت عندما بلغت الخطابات الأخرى سواء الثقافية، أو الاقتصادية، أو السياسية، وهذه كلها معطيات ثقافية في نهاية الأمر، لم تعد قادرة على الإضافة فإن الاختلاف جاء سبباً جديداً، ولطرح السؤال؟ وإضاءة بعض الفتحات حتى يتنفس الجيل الجديد في الجزائر، ويحقق ذاته، ويعترف بالتحقق للآخرين.
هل تظنون أن مشروع التعددية في الجزائر على رغم كل المآخذ على هذا المشروع هو في سبيله إلى تكريس نفسه كصياغة ثقافية واجتماعية أم ان احتمال انتكاسة المشروع والعودة عنه إلى النظام السابق ممكنة؟
نجيب انزار:
لا أظن ان العودة ممكنة، فالتاريخ متقد، ومتحرك، وله دينامياته. الجزائر في أزمة سياسية عميقة، لكنها أزمة في طريقها إلى الحل، وهناك أزمة في الوعي ستجد في النهاية خطاباتها. ما ينقص هو ذلك النوع من الديمقراطية القائمة على التسامح، الانصات إلى الآخر، تكريس الرجوع إلى العقل، وقيم العقل بدلاً من هيمنة الجنون. وهذا طبيعي في المخاض العصيب، صيرورة الأشياء ستقود إلى الأفضل بالضرورة، لا سيما بعد انفجار العنف. هناك بوادر بدأت تعلن عنها التكتلات الحاصلة في المجتمع الجزائري، ضمن القيمة الإنسانية للإختلاف. الاختلاف طبعاً وليس الخلاف، أو الأخلاف، الاختلاف الذي يجمع مجموعة من الحساسيات، والنظرات، والخبرات لتكون في منظومة معينة تتيح لها فرصة التعبير والإنتاج والكتابة، الحوار، النقد، مراجعة الذات، والإنصات إلى الآخر، والتقدم في المجال الزمني.
العمل الثقافي كما نعرف هو عمل بطيء المفعول جداً، وليس كسائر الأعمال الآخرى. العمل السياسي مثلاً اسرع كثيراً في النتائج، وله أجهزته، وأدواته المباشرة. أما الجانب الثقافي، والانتاج الجمالي خصوصاً، في الرواية، والسرد، الشعر، والنقد فإن تأثيرات هذا الجانب تحتاج إلى صيرورة أوسع وأطول عمراً.
لا مناص من رؤية الأشياء وقد أخذت تتيح توجها يعطي المنتوج الثقافي حقه من الوجود. وهناك الدور الإعلامي الذي بدأ يسترجع، نوعاً ما، سطوته ومصداقيته، وإذا ما اتيح مخرج سياسي لمجموعة الأجهزة التي تهتم بمجال الثقافة فإن في وسعها ان تستثمر في منتوج ثقافي قادر على ان يفرض هويته في سوق عربية ودولية تتجاذبها مصالح كبيرة، حيث لا مجال ابداً للعزلة الثقافية ولا للرداءة، ولا للأفكار التي لا تساير طموحات الإنسان في هذه القرية الصغيرة التي نسميها العالم.
وأظن ان ليس هناك بؤرة غنية ثقافياً، متوثبة ومتقدة، وحركية في التاريخ كالجزائر، والأحداث الراهنة هذه يمكنها أن تصنع شاعراً كبيراً له خصوصية كبيرة جداً، استناداً إلى ثراء في التجربة الإنسانية. فنحن نشهد اليوم تصارع الأفكار، والتلاقي، وفتح الحوار مع ثقافات أخرى، ونتأمل في الوعي وفي حالات الحداثة، والانتاج الفكري على مستوى كوني. ونشهد ولادة بؤر مؤثرة في مجريات الأحداث، الخ...
لكن السؤال، مرة أخرى، هو: هل انتم، معاً، تنتمون إلى يتمكم الشخصي، بمعنى انكم لستم استمراراً جمالياً لأحد، أو حتى تأسيساً جديداً في مواجهة جماليات سابقة، ولكن لديكم ما تستندون إليه في الكتابة العربية الجديدة، أم انتم، مثلاً، جزائريون يكتبون بالعربية، بمرجعيات جمالية مشتقة من ثقافتكم الفرنسية؟
نجيب أنزار:
نحن امتداد للشعر العربي في أزمنته المختلفة. نحن لم نأت من فراغ.
عادل الصياد: هنا لدينا خصوصية تاريخية. فالجزائر المستمرة منذ سنة 1830 سنة احتلال الفرنسيين الجزائر بالتأكيد انتجت الكثير من الشعراء. ولو عدنا إلى بداية هذا القرن وحتى 1962 سنة استقلال الجزائر فإن الشعراء كانوا يصدرون عن واقعهم ويعبرون عن ذواتهم في موقفهم من الاستعمار. فالشعر كان دائماً في حاجة إلى قضية تبرره، إلى معطى من خارج الشعر حتى يقول الشاعر شعره. وفي سياق هذه الخصوصية كسرت كل الأصوات التي كانت تبحث عن فضاءات للفرد، فالقضية، آنذاك كانت تفرض نفسها على الشاعر وذاته التي باتت مغيبة تماماً وراء الموضوع. والمؤرخون الجزائريون يطلقون على الفترة الممتدة من 1962 وحتى 1968 ب"فترة الصمت". فالشاعر الجزائري بعد حلّ المسألة الوطنية وجد نفسه، فجأة، بلا قضية. ففي فترة بناء الدولة الوطنية، كان الشاعر الجزائري، ما عدا استثناءات قليلة، يحتاج، دائماً، إلى قضية خارجه، وقد وجدها جلّ الشعراء في موضوع بناء الاشتراكية، وبالتالي لم يبدأ البحث عن الذات في الشعر بحثاً حقيقاً وعميقاً حتى مطلع الثمانينات، على رغم ان التجديد كان قد بدأ منذ السبعينات مع بعض الأصوات المتفردة، لكن مع انفجار 1988 بدأت كما عبر زملائي مرحلة جديدة في الوعي.
ما دمتم تطمحون إلى تأسيس جماليات جديدة للكتابة فإن ذلك بالضرورة سيفرض علاقة جديدة مع اللغة. ترى ما الذي يميز العلاقة المقترحة لكم مع اللغة مثلاً، وما الجديد في ذلك؟
نصيرة محمدي:
قلت ان "الاختلاف" قائم على رفض العلاقة الجاهزة مع اللغة التي تتضمن قيم الأبوية، والوصاية، والمسلمات الجاهزة. بالنسبة إليّ فإن ما أطمح إليه هو لغة خارجة عن القانون، لغة تكسر الجاهز المقدس لتقول المسكوت عنه، ولتفضح الذات في مواجهتها للأسئلة، واصطدامها مع الحياة والعالم، هي لغة صارخة، لغة من شأنها أن تفضح وتعري. نحن نبحث عن جماليات مفقودة، نكتشفها عبر ذواتنا، وعبر تواصلنا مع مبدعي المشرق العربي، ومع الثقافات الأخرى، هي لغة جديدة تحمل وعياً جديداً تنويرياً، اللغة المسائلة، البسيطة التي لها عمقها واسئلتها التي لا تنتهي.
ابو بكر زمّال:
انا علاقتي باللغة كعلاقتي بعاشقة كلما فرّت مني ازداد شوقي إلى الإمساك بها.
وهي لغة من مواصفاتها انها تخرج من عنفوان اللحظة، والحصار الحرج، وقلق الذات بخلاف الحال مع مبدعي فترة السبعينات، حيث اللغة خارجية والتعامل معها خارجي، السبب ببساطة كما ذكر اصدقائي انها لغة صيغت لتصف موضوعاً خارجياً. بينما نجد اليوم علاقة مع اللغة من طراز مختلف تماماً علاقة حرة، حركية مفاجئة، على اعتبار ان كل معنى ينبض داخل لغته التي افترضته، وعلى اعتبار ان اللغة هي وليدة خبرة وجودية وإنسانية وجمالية خاصة. لذلك هي علاقة ذات وجوه كثيرة ولا يمكن نمذجتها، فهي في كل مرة تطرح شيئاً جديداً نسبة إلى جدة التجربة التي تصوغها اللغة. من هنا قلت انها علاقة فيها ما هو هارب. ما هو عصي على التثبيت إلاّ لمرة واحدة، يتبدل بعدها كل شيء، الشاعر، وموضوعه، وخبرته، ونتائجه. ففي كل مرة نحاصر اللغة في تحولاتها ونضبطها في موقع.. لئلا يمكننا بعدها ان نضبطها في الموقع نفسه.
بشير مفتي:
أظن ان السؤال في أوله قصد إلى أي مدى تتقاطع تجربة الكتابة الشعرية والقصصية الجديدة مع تجربة الكتابة الجديدة في العالم العربي. في الجزائر، الانقطاع لا يعني اننا لا نقرأ نهائياً ما يصدر في المشرق أو المغرب، لكن في الجزائر ظهرت عدة "موضات" من تلك التي تظهر في العالم العربي كظاهرة "قصيدة الجسد" و "الصوفية" في الكتابة، و"الشعر اليومي"، يمكننا ان نجد هذه العوارض في الكتابة الشعرية لدينا. ففي الجزائر مثلاً شعراء الجنوب، حيث الصحراء من امثال مصطفى دحية في مجموعته "اصطلاح الوهم" أو احمد عبدالكريم في مجموعته "تغريبة النخلة الهامشية" ومولود خيزار في مجموعته "رمي الرمل"، وعثمان لوصيف في جموعاته الكثيرة" 8 مجموعات، ويمكننا القول ان الوصيف هو الذي يؤطر هذه التجربة ويشكل أباً روحياً لها. وقد جرى تبني هذه المجموعة من الشعراء من طرف علي أحمد سعيد الذي تقاطع معهم ونشر لهم في مجلته "مواقف" متبنياً الحساسية التي يفصحون عنها.
بعد ذلك هناك شعراء الشمال أو شعراء المدينة، كنجيب أنزار الذي يمرّ في شعره بأكثر من مرحلة، بدء بمرحلة النضال اليساري، حيث الكتابة التي تعبر عن طبقة اجتماعية معينة وفي مرحلة ثانية بدأت حساسيته تدخل في قلق التجريب، حيث الانشغال السوريالي، واشترك مع شاعر موجود بيننا هو عادل الصياد بإصدار بيانات شعرية منها "بيان الصعلكة"، وتلك التجربة كانت تنطوي على تأثر بالمدرسة الفرنسية في التجريب وعلى بيانات الدادائية. وهنا اتذكر قصيدة "في برج الألف" لنجيب انزار، و"جثة" لعادل الصياد، هاتان القصيدتان تعبّران عن قلق التجريب، وكان معهما الشاعر عبدالله بوخالفة الذي انتحر في ما بعد. هناك حساسية ثالثة في وهران، وهي مدينة سعيد هادف وبختي بن عودة. والثاني اغتيل سنة 1993 وهذه المجموعة اشتغلت على نوع من اللغة ذات البعد العدمي، وقد اسس أعضاؤها "جمعية آفاق" ونظموا ملتقيات شعرية وأدبية واصدروا بياناً مشتركاً نشر في جريدة "المسار المغاربي"، وذلك مع بداية التسعينات، وضربت التجربة مع اغتيال بن عودة. طبعاً هذا ليس كل المشهد الشعري في الجزائر، إنما هنا بعض الحساسيات، فإلى جانب هؤلاء وغيرهم هناك شعراء يتبنون ايديولوجيات اسلامية، فهم موجودون وقد تبنتهم "رابطة إبداع" التي قدمت إصدارات عديدة بينها عدة مجموعات قصصية وشعرية، وهؤلاء يتكئ اغلبهم على خطاب شعري وأدبي محافظ نوعاً ما. وهم يجدون مرجعيتهم في شعر السبعينات، ويستندون ايديولوجيا إلى الشاعر مصطفى محمد الغماري، الذي كان يمثل التجربة الشعرية الإسلامية. ومن بين هؤلاء الشعراء نورالدين دوريش، محمد شيطا، ياسين بن عبيد، وهؤلاء غالبيتهم من قسنطينة، حيث قلعة الشعر المحافظ، هذا في ما يتعلق بالشعر مثلاً.
لكن الملاحظ على التجربة الشعرية الجزائرية، ان لا تواصل بين "الجيل الجديد" و"الاجيال السابقة"، وأنا أرى في ذلك نوعاً من الامتياز. فلو انزار وعادل الصياد مثلاً كانا في سورية ولبنان وتحت وصاية أب شعري كنزار قباني، أو أنسي الحاج، أو أدونيس، مثلاً، ربما إن تجربتهما لن تذهب أبعد بسبب احتمالات الهيمنة الأبوية التي يمكن ان يمارسها الشعراء الكبار. والذي يحصل، هنا، في الجزائر، أن الأجيال تبدي انقطاعاً في ما بينها، ليس بمعنى عدم قراءة الأثار السابقة، وإنما بمعنى عدم قبول الخضوع من قبل جيل نزولاً عن ما ينادي به أو يريده جيل آخر أسبق زمنياً.
تعقيباً على ملاحظة أبو بكر زمّال، أسأل ترى هل ما عدده من مستجدات جمالية وتعبيرية هو من ميزات الانقطاع بين الأجيال، وبين الداخل والخارج، أم انه من ميزات، وثمرات الانقلاب على السائد أكان هذا السائد داخلياً ام بفعل الصلة مع الخارج؟
النقطة الثانية: هل إن الداخلي منقطع عن الخارج، أو انه متحقق بفضل وجود خارج، على اعتبار أنه لا يمكننا أن نجد داخلاً ما لم يكن لهذا الداخل خارج يؤكد وجوده؟
نصيرة محمدي:
هو متشابك معه ومتصارع معه، وفي حالة بحث عن خصوصيته أيضاً.
الإذن هو إما في حالة حوار أو تعطل لهذا الحوار بين داخل هو الجزائر وخارج هو العالم العربي.
بشير مفتي: من شدة الانقطاع في التواصل بين شعراء الجزائر وشعراء العالم العربي، هناك فجوات كبيرة، ثم ان المبدع الجزائري ليس مؤمناً "اصلا" بفكرة المركز والأطراف. نحن لا نحتاج ان نأتي بتزكية من المشرق حتى نصبح كتاباً في الجزائر، هذا وهم تجاوزناه، وتخلصنا منه، أو انه لم يعد مسألة محورية. لأننا نعتقد اننا، هنا، في الداخل إنما نؤسس انفسنا وكتابتنا ونصوصنا، وهذه النصوص ستفرض نفسها على الآخر المشرقي إذا كانت حقيقية، وإذا كانت قادرة على فرض نفسها بجدارة في الداخل الجزائري، حتى لو كانت المؤسسات الرسمية في المشرق هي التي تدير الثقافة وتحركها وتفرض مقاييسها وتواطؤاتها الكثيرة، كما نعلم، فالأمور ليست بريئة في الأدب أيضاً، فهناك مصالح وأجهزة تبرز أسماء، وتقتل أسماء، فقط، لعلاقات شخصية. نحن في غنى عن ذلك. نحن نريد ان نكتب كتابتنا في الجزائر، إن هي ادركت خصوصيتها وتميزها وجماليتها، ووصلت إلى مبتغاها، أو إلى رحلتها، حيث تحاول ان تصل. ندرك ان الانطلاقة ستكون من هنا. إننا نؤمن، أيضاً، ان الجزائر هي مركز ثقافي مع وقف التنفيذ، سيكون لها دور، وهذا حتى باعتراف المفكر سمير امين عندما اعتبر الجزائر مركزاً اساسياً. لكن القضية فقط تحتاج إلى وقت. لأننا نملك كل الأمكانيات. وأنا اتحدى ان يكون في أي بلد عربي مؤسسات ثقافية كما في الجزائر. وكل ما في الأمر ان هذه الموسسات معطلة الآن، مشلولة لأنها لم تسير، ولأن الناس الذين يملكون الكفاءة استبعدوا من هذه المؤسسات. وبالتالي مجرد ان يتغيّر هذا الوضع ستتغيّر الصورة بالضرورة.اتحدث عن المطابع، مثلاً، نحن في الجزائر، مثلاً، نملك أكبر عدد من المطابع في العالم العربي، وأكبر مطبعة في أفريقيا. وعلى مستوى المؤسسات الثقافية، فقد زرت، مثلاً، وزارة الثقافة في سورية، وهي قائمة في فيلا صغيرة، نحن في الجزائر، اتحاد الكتاب، وحده، لديه امكانات تشبه امكانات وزارة الثقافة في سورية. المقصود ان هناك مؤسسات ثقافية ضخمة جداً في الجزائر، لكن السؤال هو من الذي يمكنه ان يدخل المعركة من أجل تفعيل هذه المؤسسات. هذا هو السؤال.
أبو بكر زمّال:
هناك، على الأقل، لدى الجيل الجديد احساس حرّ بذاته.. وأنا أشعر مثلاً بأن ما ينتجه الجيل الجديد من الشعراء هو من الأهمية إلى درجة لم يسبق إليها الشعر الجزائري. ربما إن القيم، وما ينتجه من مواجهة ذاتية الطابع بين الشاعر وعالمه إنما تقدم تجربة غير مسبوقة في الشعر الجزائري المعاصر، وربما كانت هذه من ميزات الانقطاع بين جيل وجيل، وبين الداخل والخارج.
نصيرة محمدي:
اعتقد ان التجربة الشعرية الجزائرية الحديثة متعددة الأوجه وقراءتها تحتاج متابعة على مستويات مختلفة للإلمام بالمستجد فيها. فهناك الحس الصوفي، وهناك البعد التجريبي، وهناك التركيز على المهمش واليومي، وفيها حتى ما يمت بصلة إلى "الإصلاحي" وهذا كله يشكل التجربة الجزائرية الحديثة. وكل هذا التداخل يشكل خصوصية شعرية. هذه لا تعتمد على رموز او معطيات من الخارج، بمقدار ما هي تحفر داخل خصوصيتها الجغرافية، وتناقضاتها الإنسانية، والجمالية. وبمعنى آخر فإن اللغة التي تنتج ذاتياً إنما تشكل بتعبير آخر نصوص الهجرة إلى الداخل. الداخل الإنساني الذي يتطلع إلى عالم آخر جديد.
حول الموضوع نفسه فإن كما تطرح مسألة المركز والهوامش بين دول عربية وأخرى، فإنه لدينا في الثقافة الجزائرية لغة الهوامش ولغة المركز. لغة المركز لا تملك عناصر ديمومتها بالمعنى الجمالي، بينما نجد ان لغة الهوامش هي الأقدر على ان تجرح في الذات وفي الذاكرة، وكذلك في الأرض المجروحة. وأظن ان هذه اللغة الجديدة المتنامية هنا وهناك في هوامش الثقافة الجزائرية، إنما تملك يوماً بعد يوم اسباب تطورها، وبالتالي مصداقيتها عبر صيرورتها وتحولها في المسار الابداعي الجديد.
آسيا موساي:
اسمحوا لي فقط ان أعارض الزميل بشير مفتي حول مستقبل الثقافة الجزائرية. مع الأسف أنا انظر إلى هذا المستقبل بكثير من التشاؤم.
يقول مفتي اننا نملك أكبر عدد من المطابع في العالم العربي، هذا صحيح، لكن المشكلة تكمن في اننا ورثنا هذه المطابع ولم نكن نحن بناتها، وصناعها، ولا صنّاع مشاريعها. لذلك من الطبيعي أن اغلب هذه المصابع أغلق واغلقت قاعات السينما وحولت إلى نشاطات أخرى، في حين لا تمارس غالبية المؤسسات الثقافية أي نشاط ثقافي. فهي هياكل بلا روح ولا حركة يعشش فيها ما لست أدري. كل هذه الصور أدت إلى ولادة المثقف السلبي، فهو ببساطة مثقف لا يملك قراراً، ولا رأي له من ثم، فهو، إذن، لا يشكل قوة يمكنها ان تعارض ما يجري اليوم من تحويل المكتبات إلى مطاعم، وإلى مقرات للأحزاب، يحدث هذا في الجزائر على عتبة القرن الواحد والعشرين، وفي زمن الإنترنت لا نستطيع ان نحصل على كتاب. المؤسسات موجودة والمكتبات موجودة، ولا بد انك لاحظت ان شارع ديدوش مراد وحده يحتوى على ستة مكتبات ضخمة، لكن هذه مجرد مقرات مغلقة، فهي كانت مكتبات.
هذه هي صور من المشهد الثقافي لعين تحاول ان ترى ما هو موجود أمامها على سبيل اكتشاف الواقع.
وعلى صعيد آخر نحن لدينا مثقفون معربون لم يستطيعوا ان يفعلوا اى شيء لا للغة العربية ولا لتواصلنا مع العرب. ولدينا مثقفون فرانكوفونيون لم يجعلونا ننفتح على أوروبا والعالم. والجزائر في نهاية الأمر لا هذا ولا ذاك.
والمصيبة ان الجزائري العادي لا يستطيع ان يتواصل إلاّ مع الجزائري. فحوار بين جزائريين لن يفهمه الفرنسي لأنه خليط بين عربية وفرنسية ولن يستطيع ان يفهمه العربي. إذن لمصلحة من تبقى الجزائر البلد العربي الوحيد الذي يعيش هذا الوضع الثقافي الخاص، ولماذا؟
ابو بكر زمّال:
اعتقد ان مهمة النقد ان يقرأ واقع الثقافة، لكن ليس من مهمتي الفردية ان اقول ان وزارة الثقافة عاطلة عن تقديم السياسة الثقافية. هذا امر يحتاج إلى جهود جبّارة وعظيمة وإلى امكانات جماعية. وفي خضم ما يجري في مجتمعنا اليوم، الصوت الفردي لا يمكن ان يحقق اي شيء مهم، لا سيما في ظلّ غلبة "السياسي" على حساب "الثقافي".
يمكننا بطبيعة الحال تقديم اقتراحات، مثلاً نحن في "رابطة أدباء الاختلاف" لدينا مشاريع عديدة، لكن تحقيقها يحتاج إلى جهود كبيرة، وإلى اتصالات خصوصاً ان الجزائر تعيش ظروفاً استثنائية، وفي مثل هذه الظروف نحتاج وقتاً أكبر لنستطيع تحقيق جزء من طموحاتنا وأحلامنا، نحن يهمنا ان تخرج الجزائر من هذه الدوامة الدموية، ويهمنا ان نؤسس لنظام ثقافي وطني يتيح مجالاً للتعددية والاختلاف والجديد المبتكر.
ولنقل بصراحة ان الفكر، او الخيال، او اللغة، او الكتابة، هذه كلها موجودة، وما ينقصنا حقيقة هو الامكانات المادية ليكون في وسعنا التأسيس لأرضية تمكننا من اصدار كتب ومجلات تحمل نتاجنا الإبداعي والفكري.
آسيا موساي:
في الجزائر ظاهرة سائدة تتمثل في اخفاء كل ما هو سيء، وكل ما هو متعفن، إخفاؤه بأغطية براقة، ففي الجزائر حسب ما يمكن ان يستشف من كلام بعضنا هنا كل شيء على ما يرام! الوضع الثقافي جيد جداً، والجزائر مرشحة لأن تكون عاصمة ثقافية. هذا هو الخطاب السائد، لكن الحقيقة هي غير ذلك على الإطلاق. فوزارة الثقافة مثلاً تصدر مجلة واحدة، وهذه المجلة يصدر منها عدد واحد في السنة، وهناك إحساس بأن هذا كاف، فمجلة واحدة تكفي. نحن إن كنا نعري هذه السلبيات والمساوئ، فهذا لا يعني اننا نكره احداً، او اننا نكره وطننا، على العكس من ذلك، نحن قلنا اننا نحب وطننا، وتاريخنا، ولغتنا، العربية، وتراثنا لكن بطريقتنا، ولسنا مجبرين على ان نصمت عن المساوئ والسلبيات، فهذه تبدو لي طريقة غريبة في حب الوطن والانتماء إليه!
بشير مفتي:
بطبيعة الحال الجزائر ليست احسن من غيرها من البلدان العربية على الصعيد الثقافي، لكنني أقول اننا بلد استثنائي في كل المجالات. صحيح ان الديمقراطية يمكن ان نقول انها شكلية، وأنها أقرب إلى ان تكون واجهة، لكن في نهاية الأمر هناك في الجزائر ديمقراطية، وهناك حرية تعبير. أنا مثلاً، طبعت روايتي "المراسيم والجنائز" وهي تتضمن إدانة صريحة للسلطة، والمعارضة، ولم يأت أحد ويمنعني من نشرها، ولم يأت أحد يستنطقني حول مضمون روايتي.أظن اننا يجب ان نستثمر هذه الجوانب. وما أراه ان السلطة تدرك ذلك، وهي تركت هامشاً كبيراً لحرية التعبير. وحتى وزارة الثقافة في الجزائر نحن في "رابطة كتاب الاختلاف" لدينا مشروع معها لطبع عشرة كتب. لكن القضية تحتاج إلى شيء من الوقت، وإذا كانت السلطة في الماضي قد احتقرت المثقف، فلأن هذا المثقف لم يعطها صورة مشرّفة عن نفسه. فكان، باستمرار، يصعد إلى المناصب العليا ويتبوأ مراكز خطيرة، لكنه لم يفعل اي شيء للثقافة، بل إن المثقفين الجزائريين، على هذا الصعيد، كانوا انتهازيين يعتاشون على حساب الثقافة.
كان هناك عدة شعراء استغلوا مناصبهم للحصول على امتيازات خاصة تتيحها هذه المناصب من سكن وسيارات وغير ذلك، وهؤلاء كان آخر همهم هو الثقافة، من هنا فإن السلطة أخذت تحتقر المثقف. فقد كان هذا هو الوجه المعطى له. كجيل جديد يهمنا ان نغيّر هذه الصورة، المصلحة الشخصية تركناها جانباً فهي وجه آخر من حياتنا له حيّزه الخاص بنا، أما عندما نتحدث عن الثقافة فإن ما يهمنا هو تجسيد الأفكار التي نؤمن بها. أظن ان الجزائر شاءت أم أبت مقبلة على خيار التعددية حتى النهاية، فهو خيار مطروح في الواقع ولا أحد يستطيع ان يتجاوزه. و"تيار الاختلاف" هو التيار القائل بترسيخ التعددية وترسيخ الديمقراطية. هذا هو الرهان الحقيقي للجزائر اليوم، وليس بوسعنا ان نغطي الشمس بالغربال، لأن الجزائر شئنا ام ابينا هي دولة دخلت طور التعددية الثقافية، والسياسية، ومن دون القبول بهذا المنطق لن نخرج من النفق. فسنوات الحزب الواحد، والأحادية الايديولوجيا انتهت ولن تعود، ولا يجب ان تعود بأي شكل من الأشكال. هذا هو المناخ الفكري الذي يحركنا في "رابطة أدباءالاختلاف" ومن أجله نناضل، ومستعدون من أجله ان نذهب إلى ابعد مدى ممكن، ونحن نعرف خطورة مثل هذا الطرح في مرحلة خاصة في حياة وطننا، شهدنا فيها كثير من الاغتيالات التي ذهب ضحيتها مثقفون اصدقاء لنا، شعراء ومبدعون، وإلى جانب الذين اغتيلوا هناك اصدقاء لنا انتحروا بسبب التأزم السياسي والاجتماعي في البلاد. لكن هذا المسار مسارنا حتى لو كان على حساب أشياء كثيرة قد نضحي بها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.