ارتفاع أسعار النفط عند التسوية    أمير القصيم يكرم بندر الحمر    نائب أمير الرياض يعزي رئيس مركز الحزم بمحافظة وادي الدواسر في وفاة والدته    نجل بولسونارو: والدي دعم ترشحي لرئاسة البرازيل في 2026    البيت الأبيض: أوروبا معرضة لخطر «المحو الحضاري»    اكتشاف استثنائي لمئات التماثيل الجنائزية بمقبرة تانيس في مصر    سالم الدوسري عن قرعة المونديال : لكل حادث حديث... حالياً تركيزنا على كأس العرب    أمير الرياض يتوج الفائزين بأول السباقات الكبرى على كأسَي سمو ولي العهد للخيل المنتَجة محليًّا ولخيل الإنتاج والمستورد    مساعد رينارد يتفوق عليه في فوز الأخضر الكبير بكأس العرب    الأخضر يتغلب على جزر القمر بثلاثية ويتأهل لربع نهائي كأس العرب    جمعية ريف تُكرَّم في المنتدى الدولي للقطاع غير الربحي لحصولها على شهادة الاستثمار ذي الأثر الاجتماعي عن مشروع "مطبخ طويق"    منتخب السعودية يتأهل لربع نهائي كأس العرب بالفوز على جزر القمر    المكسيك تواجه جنوب إفريقيا في افتتاح كأس العالم 2026    الأخضر الأولمبي يتغلب على البحرين بخماسية في كأس الخليج    تقارير.. حقيقة خروج نونيز من الهلال في الشتاء    نادي وسم الثقافي بالرياض يعقد لقاءه الشهري ويخرج بتوصيات داعمة للحراك الأدبي    سيبراني تختتم مشاركتها في بلاك هات 2025 وتُعزّز ريادتها في حماية الفضاء السيبراني    جامعة القصيم تحصد الجائزة الوطنية للعمل التطوعي لعام 2025    Gulf 4P, CTW & Mach & Tools 2025 المنصّة الإقليمية الرائدة للابتكار والتقدّم الصناعي    بمشاركة 3000 مستفيدًا من منسوبي المساجد بالمنطقة … "الشؤون الإسلامية" تختتم برنامج "دور المسجد في المجتمع" لمنسوبي مساجد الشريط الحدودي بجازان    خطيب المسجد النبوي يبيّن مكانة آية الكرسي وفضلها العظيم    الدكتور المعيقلي يزور مقر الاتحاد الإسلامي في جمهورية مقدونيا الشمالية    مستشفى الملك خالد التخصصي للعيون يفوز جائزة أفضل مشروع حكومي عربي لتطوير القطاع الصحي    الذهب يستقر مع ضعف الدولار وسط رهانات خفض أسعار الفائدة وتراجع عوائد السندات    مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري يشارك في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2025    وزير التعليم يلتقي القيادات بجامعة تبوك    اللواء العنزي يشهد حفل تكريم متقاعدي الأفواج الأمنية    هيئة الهلال الاحمر بالباحة تشارك جمعية الاطفال ذوي الاعاقة الاحتفاء باليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة    جمعية التطوع تفوز بالمركز الأول في الجائزة الوطنية للعمل التطوعي    اعلان مواعيد زيارة الروضة الشريفة في المسجد النبوي    المجلس العالمي لمخططي المدن والأقاليم يختتم أعماله    التوصل لإنتاج دواء جديد لعلاج مرض باركنسون "الشلل الرعاش"    أمين جازان يتفقد مشاريع الدرب والشقيق    تهامة قحطان تحافظ على موروثها الشعبي    الدفاع المدني يحتفي بيوم التطوع السعودي والعالمي 2025م    أمير تبوك يستقبل معالي وزير التعليم ويدشن ويضع حجر الأساس لمشروعات تعليمية بالمنطقة    جمعية سفراء التراث تحصد درجة "ممتازة " في تقييم الحوكمة لعام 2024    معركة الرواية: إسرائيل تخوض حربا لمحو التاريخ    سفير المملكة في الأردن يرعى حفل ذوي الإعاقة في الملحقية    قمة البحرين تؤكد تنفيذ رؤية خادم الحرمين لتعزيز العمل الخليجي وتثمن جهود ولي العهد للسلام في السودان    أمير منطقة تبوك يكرم المواطن فواز العنزي تقديرًا لموقفه الإنساني في تبرعه بكليته لابنة صديقه    مفردات من قلب الجنوب ٣١    أمير تبوك يواسي في وفاة محافظ الوجه سابقاً عبدالعزيز الطرباق    فرع الموارد البشرية بالمدينة المنورة يُقيم ملتقى صُنّاع الإرادة    سمر متولي تشارك في «كلهم بيحبوا مودي»    معرض يكشف تاريخ «دادان» أمام العالم    الناتو يشعل الجدل ويهدد مسار السلام الأوكراني.. واشنطن وموسكو على حافة تسوية معقدة    أكد معالجة تداعيات محاولة فرض الأحكام العرفية.. رئيس كوريا الجنوبية يعتذر عن الأخطاء تجاه «الشمالية»    برعاية خادم الحرمين..التخصصات الصحية تحتفي ب 12,591 خريجا من برامج البورد السعودي والأكاديمية الصحية 2025م    تعاون سعودي – كيني لمواجهة الأفكار المتطرفة    مقتل آلاف الأطفال يشعل الغضب الدولي.. العفو الدولية تتهم الدعم السريع بارتكاب جرائم حرب    آل حمدان يحتفل بزواج أحمد    صيني يعيش بولاعة في معدته 35 عاماً    ابتكار علاج صيني للقضاء على فيروس HIV    الكلية البريطانية تكرم الأغا    إقحام أنفسنا معهم انتقاص لذواتنا    لم يكن يعبأ بأن يلاحقه المصورون    القيادة تعزي رئيس سريلانكا في ضحايا إعصار ديتواه الذي ضرب بلاده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفاتيح افكار للبحث عن الهوية داخل التباسات التاريخ العربي ... انطلاقا من العراق
نشر في الحياة يوم 04 - 09 - 1998

سننطلق في بحث التباسات الهوية من نموذج العراق، فمنذ حرب الخليج الثانية يدور لغط واسع حول التباسات الهوية العراقية، مصدره بالدرجة الاولى، الاهواء السياسية التي فرضتها عوامل خارجية واخرى داخلية . وسادت فكرة تنفي الهوية العراقية تاريخيا اعتمادا على اطروحة مبسطة كما هي عادة السياسة في تبسيط التاريخ والعلم مفادها ان العراق لم يظهر الى الوجود ككيان سياسي الا في عشرينات هذا القرن، وعلى هذا التبسيط تقوم فكرة الغاء الهوية والغاء تاريخيتها.
هذه الفكرة توزعت، كما هي العادة في المنطلقات الايديولوجية، في كتابات ومنطلقات سياسية روجت، كما يبدو، لاستقبال فكرة تقسيم العراق وتمهيد الارضية الذهنية لذلك. وقامت هذه الفكرة اساسا على الغاء التاريخ، او على الاقل، على ترقيم صفحاته ترقيما عشوائيا بحيث بدا التسلسل الزمني مرتبكا بين صفحات التاريخ فضلا عن الثغرات التي ملأته. وفي بلد مثل العراق له مأثرة المرور بتاريخ معقد ودرامي ومركب تكون العلوم ضرورية جدا للاشراف على تخوم معالجة موضوع الهوية. ولعله لهذا السبب، اي لضرورة العلوم في البحث والسياسة - العربية بالذات - تشعر بالضجر من التعايش مع العلوم غابت موضوعة الهوية.
استطيع القول دون مجازفة ان اول من بحث موضوع الهوية العربية هم المستشرقون. ولذلك فاننا دائما مشغولون بالاهتمام بفكرة الآخر عنا. والبحث في الهوية، عربيا، هو في جزء منه، نوع من الرد على الآخر. واذا كان موضوع الهوية لا يشغل بال النظام السياسي الذي يساهم في احيان كثيرة في تغيير معالم الهوية عبر اجراءات سياسية وقرارات تأخذ شكل الحروب والتغيير الديموغرافي القسري، فان موضوع الهوية هو رد فكري على المواقف السياسية في بعض اهدافه.
التاريخ هو الاطار الوحيد الذي يمكن ان يكون حدودا للعوامل المختلفة في صناعة الهوية. وتاريخ اي شعب هو تاريخ تشكل هويته. واذا كان التناغم الاجتماعي عنصرا من عناصر استقرار الهوية فان انعدامه يشكل احد عوامل التغير في الهوية. لعل تاريخ الشرق العربي الذي تميز بعدم وجود مرحلة اقطاعية على مستوى التشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية، تميز بوجود مراحل طويلة من الاقطاع السياسي طبعت ملامح الهوية بطابعها الخاص واعتمد على الفصل بين الدولة والمجتمع وعلى تحويل المجتمع الى جهاز يخدم الدولة التوليتارية الاستبدادية التي تحاول صهر القوميات والطوائف والافكار السياسية في بوتقة واحدة. هنا نستطيع ان نعثر على طابع خاص في الهوية العراقية هو رد الفعل تجاه محاولة الصهر هذه واعادة انتاج الاختلاف من قبل قطاعات المجتمع المختلفة ومن قبل الفرد بالتمسك بطابع وطني اعلى من التمايز القومي والمذهبي والفكري. ان تاريخ تشكيل الهوية العراقية هو تاريخ الصراع بين الصهر ومحاولة نفيه ورفضه في الاطار الوطني .
لم يكن القوميون على حق تام حين افترضوا ان تاريخ العراق تشكل في سياق تشكل التاريخ العربي وحده. وهذا ماجعل موضوع الهوية اليوم موضوعا قابلا للتزمت القومي والانغلاق في اطار الخصائص القومية المبالغ بها. ان الموقع الجيوبولتيكي للعراق والوضع الاقليمي المتعدد الجوانب القومية والثقافية والمذهبية لموقعه، وتاريخه قبل الفتح الاسلامي لعبت دورا خاصا في تشكيل هويته. ان عروبة العراق ليست هويته. كما ان عروبة اي بلد عربي آخر ليست هويته. من هذا المنطلق الخلافي ربما نستطيع ان ننطلق ارحب في معالجة موضوع الهوية.
يذكر المسعودي في مؤلفه "مروج الذهب"، جريا على عادة عدد آخر من الجغرافيين والمؤرخين العرب القدامى، خصائص بلدان وقوميات عدة في حديثه عن سكان العالم القديم والعالم المعاصر له. وتتداخل افكار المسعودي مع الملاحظة والبحث الخاص به ومع الروايات التي يتناقلها التاريخ الشفاهي والمكتوب آنذاك. وبما ان العلوم المعروفة اليوم لم تكن علوما آنذاك فان ملاحظات المسعودي يمكن اعتبارها ملاحظات انثروبولوجية او مبادئ انثروبولوجية اخذت بعين الاعتبار الاختلاف بين السكان وطبيعة البيئة وطرق المعيشة والخصائص القومية البشرية والاجتماعية وغيرها من العوامل التي ساهمت في تكوين فروقات تشير الى الاختلاف في الهوية.
واذا قلنا ان التاريخ هو الاطار الذي تبحث فيه الهوية فان ذلك يعني ان الهوية هي تراكم زمني. ولعل تاريخ العراق خضع لهذا التراكم الزمني الذي زادته الاحداث والوقائع الكبرى المتلاحقة عمقا ومأسوية بحيث غدت الهوية العراقية ضربا من ردود الافعال المتباينة لحفظ الذات اختلط فيها العنف بالتسامح، والتطرف باللامبالاة، والفكر بالوجدان، والسيف بالكلمة، والمناحة بالاغنية، والمغامرة بالصمت.
والجغرافيا صنو التاريخ في تشكيل الهوية. فهي الواقع المحسوس لاقامة الهوية اثناء تشكلها في التراكم الزمني. ولذلك فان المسعودي نفسه يذهب الى ذكر خصائص الاقاليم التي تميز بعضها عن البعض الآخر مما يجعل من العروبة مثلا اطارا خارجيا للهوية التي تتشكل من خصائص ابعد من الفرع القومي وحده.
قبل ان تكون العشيرة اطارا لتشكل الهوية، لعبت دويلات المدن دورا في جعل الطقوس تعكس خصائص الهوية. ان العشيرة في العالم العربي تغذي الاطار الجمعي للهوية اكثر مما يغذيها العنصر، بحيث تصبح الهوية العشائرية اقوى من الهوية القومية. ان القومية او الانتماء العرقي ظلا تحت سلطة العشيرة. وفقط في النظر الى العنصر الآخر الرومي او الفارسي او التركي كانت تقوم الهوية بدورها على الصعيد الرسمي، اي على صعيد الدولة في العصر العباسي. اما في العهد العثماني فعادت العشيرة لتشكل الاطار الذي تتشكل الهوية داخله، وذلك بسبب تفكك المجتمع العربي في ظل السيطرة العثمانية وشعور العرب بالغربة عن الدولة الامبراطورية التي سلبتهم السيادة على انفسهم، فعاد الانتماء القبلي الى سابق عهده من القوة والمتانة بحيث اصبحت المعارضة السياسية والفكرية التي كانت سائدة في العصرين الاموي والعباسي معارضة عشائرية، صرفة في ظل الحكم العثماني. ان تاريخ الحفاظ على الهوية العربية اكتسب صفة عشائرية. ولم ينجح الانتماء القومي من خلال فكرة القومية العربية الناصرية مقابل الغرب في ان يكون هوية مميزة في الخمسينات والستينات الا على المستوى السياسي فحسب، هذا المستوى الذي ارضع الهوية القومية كثيرا من التعصب ضد الآخر.
اما على المستوى الثقافي فان الماضي يلعب الدور الابرز في خصائص الهوية العربية. ويشكل هذا نوعا من التناقض في الهوية العربية من جانب، ومن جانب آخر يعيق التجلي العصري للهوية العربية بتفاعلها مع الآخر واعادة طرح الذات من خلال حاضرها ومعاصرتها، اي بما اكتسبته من معارف وقيم وعادات عبر اعادة صياغتها، خصوصاً في عصر اتسم بالعولمة على نطاق واسع. نستطيع ان نضرب فرنسا مثلا، حيث تعاني الثقافة الفرنسية اليوم من الطابع الاميركي للحياة. ويشكل هاجس استخدام الانكليزية في العلوم التقنية والخدمات عبئا على المثقفين الفرنسيين الذين وصل ضغط هذا الهاجس عليهم الى ان تعمد الحكومة الى اصدار نوع من تشريعات مثل حماية الانتاج الفكري والفني لمنع السيطرة الاميركية على هذ الميدان، اذ تقرر تخصيص ستين في المائة من برامج التلفزيون للانتاج التلفزيوني الاوروبي.
ان عولمة الفكر تصيب الهوية مباشرة وتتعامل مع انماط العيش لتحويلها الى نمط عالمي واحد وصولا الى الهوية العالمية التي تفتقر الى الخصائص الوطنية والقومية التاريخية. وتبدو فرنسا مثالا على مرحلة الخوف على الهوية في اوروبا مقابل العراق الذي انتجت اجراءات نظامه السياسي من حروب وسياسات قسرية وغيرها عوامل تقوم بتفكيك هويته. وعلى رغم الدعوة القومية فان تمزق الهوية القومية قام بفعل الدولة القومية التي تضفي الصفة القومية على حكم العشيرة او الحزب او الزمرة او الطغمة.
التكيف الذي تضطر الهوية الى ممارسته هو نوع من الحفاظ على الذات. بينما يبدو الرفض المتطرف وكأنه تحميل الهوية قدرة الدفاع عن تاريخ تنتمي اليه من دون ان تتزود باسلحة الحاضر في وقت تتسرب القيم والافكار والانماط المختلفة للعيش الى المجتمع. واذا قلنا ان التاريخ هو وعاء الهوية فان ذلك يعني ان جذورها تمتد اليه. ان تاريخ الحروب الذي صنفته المنظومات الايديولوجية المختلفة في اهداف اقتصادية او سياسية او دينية كان يحتوي في صفحاته على اهداف اخرى لا تبتعد عن اهداف الحفاظ على الهوية عبر الدفاع او محاولة توسيع اطارها عبر الغزو.
تعيننا العودة الى الاساطير بمعرفة انماط العيش والتفكير. واذا اخذنا اساطير العراق القديم فسنعثر على اطار للهوية انتقل من دويلات المدن الى سومر الذي نقلته الى بابل التي اعادت، على سبيل المثال، صياغة بعض الاسماء كما حصل لانانا السومرية التي تحولت الى عشتار البابلية، في محاولة لاعادة صياغة هوية هذه الاساطير التي انتقلت من سومر الى بابل واكد. اما وظائف تلك الاساطير فقد بقيت كما هي لتشكل استمرارا في الاطار الثقافي للهوية. وكان رمز هذا التواصل هو كبير الآلهة مردوخ الذي كان ينتقل من مدينة الى اخرى في الحروب التي تعرضت لها بابل ليكون رمزا لوحدة البلاد مما نعبر عنه اليوم بالوحدة الوطنية.
هنا نعثر على عناصر تجتمع لتكون مضمونا للهوية ودلالة لها في الوقت نفسه. فالعقائد والطقوس والاسماء والاماكن ومظاهر الحياة الاجتماعية وانماط العيش وطبيعة ادوات الانتاج ووسائله سواء كانت زراعية او تجارية او صيد او رعوية تلعب دورها في تشكيل العناصر المتعددة للهوية مع سيادة عنصر من هذه العناصر. فالعلوم والمعارف كانت تساهم في تشكيل هوية المواطن البابلي في الوقت الذي كانت الحروب والحياة العسكرية تساهم في تشكيل هوية المواطن الآشوري. فضلا عن ذلك فان التمايزات تشمل البيئة التي اولاها الفارابي اهمية قصوى اذ جعلها عاملا في تشكيل الاخلاق والشيم. فاختلاف الهواء واختلاف الموقع بالنسبة للكواكب واختلاف الاغذية بسبب اختلاف المياه والتربة عناصر تمايز بين الامم في رأي الفارابي وبهذا التمايز تدخل في عناصر تركيب الهوية. اما الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل" فيحيل الى ضروب الاختلاف في الامم والاجناس حسب الاقاليم السبعة مرة وحسب طبيعة الاقليم تكون الطبائع حسب عنصري اللون واللسان او حسب الاقطار الاربعة اي الشرق والغرب والجنوب والشمال التي تكون عاملا في حظ الاختلاف في الطبائع والشرائع. او حسب الامم اي العرب والعجم والروم والهند، وهي أمم ذلك العصر.
وبينما يقرر المسعودي تقسيم الامم حسب الموقع او الاتجاه او الرس، فان القاضي صاعد في كتابه "طبقات الامم" يعتبر الامم القديمة سبعة، ويعتبر ان النوع البشري يتميز داخله بثلاثة اشياء هي الاخلاق والصور واللغات. والامم السبعة هي الاولى الفرس والثانية الكلدانيون وهم السريانيون والبابليون والجرامقة اهل الموصل والنبط "وهم اهل سواد العراق" ومصر والشام وجزيرة العرب ويعتبرها مملكة واحدة ولسانا واحدا هو السرياني ويقول "وهو اللسان القديم"، والثالثة اليونانيون والروم والافرنج والجلالقة وبرجان وصقالبة والروس والبلغر واللار ومملكتهم واحدة ولسانهم واحد. والامة الرابعة القبط من اهل مصر واهل الجنوب من حبشة ونوبية وزنج وبرابرة ولغتهم واحدة وملكهم واحد. والخامسة هي اجناس الترك. والسادسة هي الهند والسند ومن اتصل بهم. والسابعة هي الصين ومن اتصل بهم من سكان بلاد عامور بن يافث بن نوح. وطبيعي ان مثل هذا التقسيم يضم ماهو تقسيم قاري واقليمي اكثر مما هو رسي او لغوي اذ يقول ان هذه الامم السبعة كانت محيطة بجميع البشر ثم افترقت وتشعبت لغاتهم وتباينت اديانهم. ويعتبر التمايز الرئيس بين الامم هو العلم فالامم طبقتان واحدة اهتمت بالعلوم والمعارف وهي "الهند والفرس والكلدانيون واليونانيون والروم واهل مصر والعرب والعبرانيون" اما الطبقة الثانية من الامم حسب التصنيف العلومي والمعارفي السائد آنذاك فهي "الصين ويأجوج وماجوج والترك والخزر واللار والصقالبة والبلغر والروس والبرابر واصناف السودان من الحبشة والنوبة والزنج وغانة وغيرهم"
وعلى ما في التصنيف القديم من تعميمات وافتراضات نقلية فانه يبدو نوعا من التصنيف المقارن او يبدو مقاربة لواقع نقلي وعياني يأخذ بنظر الاعتبار التمايزات ويقرر تفسيراته وفق المستوى المعرفي السائد آنذاك. وفائدة مثل ذلك التصنيف تكمن في ان تمايزات الهوية ليست عرقية فحسب، وليست ثابتة وراسخة لاتأثير للبيئة والمحيط والظروف العامة من سياسية واقتصادية واجتماعية عليها. وبمعنى ما، فان الاطار الثقافي للهوية يقوم على عدة عناصر يقوم تراكمها الزمني بتكريسها واظهارها.
من الواضح ان العامل الاجتماعي والاقتصادي يلعب دورا ملموسا في الهوية. ان اقوام الصيد او الرعي او الزراعة تضطر للتكيف وفق نظام الطبيعة واسلوب العيش الامر الذي يقرر عددا من القيم والاعراف التي تؤطر النظام الاخلاقي الذي يترك آثاره بارزه في ملامح الهوية. وينتقل هذا النظام الى العصر الصناعي بوظيفته ويقرر التمايزات في الهوية العصرية ايضا. فالتكافل الذي يقرره اسلوب الحصول على معيشة جماعية او الفردية التي يقررها اسلوب العيش بالتنافس ينشآن عددا من السلوكيات والقيم والعادات والمفاهيم التي تدخل في تشكيل الهوية، وبذلك تكون الاتكالية اوالعلاقة مع السلطة السياسية ودورها في حياة الجماعة او الفرد منعكسة في خصائص الهوية.
اذا اخذنا مثلا من امثلة التقسيم المرحلي للتاريخ فسنجد ان مرحلة او طورا مثل نمط الانتاج الآسيوي قد ساهم بتشكيل قيم هوية معتمدة على تدخل الدولة وضرورة مركزيتها وقوتها، الامر الذي اعطى اهمية للدولة في الهوية الشرقية تفوق الاهمية التي ينظر بها الفرد في الغرب الى الدولة الغربية. بذلك تدخل علاقة المواطن بالدولة في تكوين الهوية التي تقدس ماهو اعلى. من هنا تأخذ الدولة قدسيتها في ذهنية المواطن لانها مسؤولة عن حماية مصادر عيشه. ومن هنا اخذت الدولة الشرقية منذ العصور القديمة ارتباطها بالآلهة فاصبحت في نظر المواطن تفويضا إلهيا قبل ان ينتقل مثل هذا الشكل الى اوروبا في القرون الوسطى. واذا اتفقنا مع الفارابي في قيمة الطبيعة في التمايز القومي والثقافي فان ذلك يعني ان نعطي السلطة السياسية وطبيعتها القانونية والاجتماعية في الشرق اهمية كبيرة في تشكيل الهوية. فاقوام الشرق اعتمدت على ضرورة توفير قنوات الري بمساعدة سلطة مركزية قوية قادرة على استخدام وتوظيف قوى اجتماعية كبيرة وعلى تنظيم حشود بشرية هائلة لانجاز مهمات تعجز التجمعات البشرية الصغيرة عن انجازها. ولهذا تأخذ الايديولوجيا، تجاه الجماعة، دورا مؤثرا في الشرق. ومن خلال هذه الايديولوجيا تنشأ تأثيرات تترسب في الهوية. وتلعب العقائد بمختلف اشكالها الدينية والسياسية والاجتماعية دورا في هوية الشرق الذي يوصف بالروحاني. وهذه الصفة التي تعطي للعواطف دورا في تشكيل الهوية تجعل من العاطفة قيمة اجتماعية مؤثرة في الطبيعة العملية لمجتمع ما تنعكس في نمط علاقاته وبالتالي في هويته. ومن خلال هذا الانعكاس تتجلى الثقافة الاجتماعية في الهوية لتكون شكلا لمضامين قد تبقى مترسبة او غير متجلية في العلاقات الاجتماعية. واذا ضربنا امثلة من التاريخ نضرب مثلاً الحجاج بن يوسف الثقفي الذي عرف باستبداده وطغيانه الى الحد الذي دفع الخليفة عمر بن عبدالعزيز الى القول محتجا "لو جاءت كل امة بجباريها وجئنا بالحجاج وحده لغلبنا الامم" وقد كان الحجاج لا يتسامح مع خصومه لكن الثقافة الاجتماعية التي كانت سائدة كانت تجبره احيانا على التسامح تمشيا مع قيم هذه الثقافة التي تشكل عناصر الهوية وليس حبا بالتسامح كاطلاقه سراح اسير يتحلى بالشهامة او القدرة على الخطابة او لبلاغته وفصاحته لان الثقافة الاجتماعية التي كانت سائدة كانت قائمة على احترام مثل هذه المعايير التي تشكل جوهر قيم المجتمع الثقافية والاجتماعية. وعناصر الهوية هذه التي تعتمد على التقدير الفردي، حلت محل غياب القانون، اذ ان غياب القانون لحقب طويلة لعب دورا قويا في غياب احترام القانون والاعتماد عليه في الهوية الشرقية. كما نضرب مثلا آخر قد يكون متناقضا مع المثل الاول وهو ان التكايا والتنظيمات الدروشية التي توجت انحلال الصوفية في عهد انهيار الدولة والمجتمع ثقافيا قد حلت محل دور الثقافة، فظهرت في العراق على سبيل المثال تنظيمات دروشية مثل الطريقة القلندرية والطريقة المولوية المنسوبة لمولانا جلال الدين الرومي في القرن الثالث عشر وكذلك الطريقة البكتاشية بعد الاحتلال العثماني للعراق والتي كانت طريقة رسمية خاصة بجنود المشاة المسمون بالانكشارية. لكن هذه الطرق الثلاث ولاسباب مختلفة منها انها دخيلة في وقت يحاول العراق فيه الحفاظ على هويته في ظل الاحتلال المغولي لم تستطع الصمود امام الطريقتين العراقيتين، القادرية المنسوبة الى الشيخ عبدالقادر الجيلاني الحسيني في بغداد، والرفاعية المنسوبة الى الشيخ احمد الرفاعي الحسيني في البصرة، وهما الطريقتان اللتان شاعتا في العراق وبعض البلدان العربية والاسلامية واصبحتا تنظيمين لقطاعات واسعة من الناس في ظل تدهور الاوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية. لقد حلت الثقافة التي تعكسها هاتان الطريقتان في الذاكرة الجمعية للقطاعات المنتسبة اليهما ولعبت دورها في رسم معالم جديدة في الهوية الاتكالية واشاعة الانتماء الصوفي محل الانتماء العشائري والاجتماعي وعكست النشاط السياسي من العشيرة الى الطريقة الصوفية كما حدث في الطريقة النقشبندية في القرن التاسع عشر.
* شاعر وكاتب عراقي مقيم في لندن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.