بمشاركة 4 فرق .. "الثلاثاء" قرعة كأس السوبر السعودي    تمنع "نسك" دخول غير المصرح لهم    «الاستثمارات العامة» يطلق مجموعة نيو للفضاء «NSG»    المملكة وسورية ومصالح العرب    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على سعود بن عبدالعزيز    قائد النصر "كريستيانو رونالدو" هدافاً لدوري روشن السعودي ب 35 هدفاً    «الصقور الخضر» يعودون للتحليق في «آسيا»    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة ضمك والرائد في دوري روشن    شوريون ل«التعليم»: أين إستراتيجيتكم ؟    قدوم 532,958 حاجاً عبر المنافذ الدولية    تقدير الجميع لكم يعكس حجم التأثير الذي أحدثتموه في المجتمع    تفقّد ميقات ذي الحليفة.. أمير المدينة: تهيئة الخدمات لتحسين تجربة الحجاج    صالات خاصة لاستقبال الحجاج عبر «طريق مكة»    حلول مبتكرة لمرضى الهوس والاكتئاب    القاضي الرحيم يتعافى من سرطان البنكرياس    الشمردل ينتزع ذهبية غرب آسيا للبلياردو    كوريا الشمالية تعلن فشل عملية إطلاق قمر اصطناعي لغرض التجسس    بولندا تبرم صفقة مع الولايات المتحدة لشراء صواريخ بعيدة المدى    شهادات الاقتصاد    نعم.. ضغوطات سعودية !    الديمقراطية إلى أين؟    ورحلت أمي الغالية    الاحتيال العقاري بين الوعي والترصد    موجز    ارتفاع استثمارات «المسار الرياضي»    كشف رب الأسرة    إسدال الستار على الدوريات الأوروبية الكبرى.. مانشستر سيتي يدخل التاريخ.. والريال يستعيد لقب الليغا    أخضر رفع الأثقال وصيف العالم    اليوم في ختام دوري يلو.. تتويج القادسية.. والخلود والعروبة في صراع الوصافة    الطائر الأخضر والمقعد الأزرق !    أمير المنطقة الشرقية يستقبل أعضاء مجلس إدارة نادي الاتفاق    الأمن العام: 50 ألفاً غرامة تأخر الإبلاغ عن مغادرة المستقدَمين في الوقت المحدد لانتهاء التأشيرة        طلب عسير    سرقة سيارة خلال بث تلفزيوني    الفريق البسامي يستعرض الخطط الأمنية للحج    القيادة تعزي حاكم عام بابوا غينيا الجديدة في ضحايا الانزلاق الترابي بإنغا    عبر دورات تدريبية ضمن مبادرة رافد الحرمين.. تأهيل العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    الفيصل تُكرم الطلاب الفائزين في مسابقتَي «آيسف» و«آيتكس» وتشيد بمشاريع المعلمين والمعلمات    حفلات التخرج.. البذل والابتذال    بدء أعمال إنشاء مساحات مكتبية في "ميدان الدرعية"    ولادة 3 وعول في منطقة مشروع قمم السودة    مكتسبات «التعاون»    إخلاص وتميز    كيف تصف سلوك الآخرين بشكل صحيح؟    إدانة دولية لقصف الاحتلال خيام النازحين في رفح    باخرتان سعوديتان لإغاثة الشعبين الفلسطيني والسوداني    نصائح للمرضى خلال رحلة العمر.. إستشاري: خذوا أدوية السكري في مواعيدها وتجنّبوا الإجهاد    سكري الحمل    دراسة تكشف أسرار حياة الغربان    أمير تبوك يستقبل المواطنين في اللقاء الأسبوعي    مجمع إرادة بالرياض يحتفل بيوم التمريض العالمي.. غداً    «جامعة نايف» تفتتح فعاليات الندوة العلمية «إدارة وتأمين الأحداث الرياضية الكبرى»    سلمان الدوسري يهنئ جيل الرؤية على التفوق والتميز    فيصل بن بندر يؤدي صلاة الميت على سعود بن عبدالعزيز    نائب أمير مكة يطّلع على استعدادات وخطط وزارة الحج والعمرة    جوازات ميناء جدة الإسلامي تستقبل أولى رحلات ضيوف الرحمن القادمين من السودان    وصول طلائع الحجاج السودانيين إلى ميناء جدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عاش في المغرب ولم تربطه علاقات بالنخب الثقافية . بول بولز : أكتب لأنني ما زلت حيا ولو لم أكن واقعياً لضعت كالدخان في الهواء
نشر في الحياة يوم 19 - 07 - 1998

بول بولز: كاتب أميركي الانتماء واللغة ومغربي في موضوعاته الادبية وشخصياته... وكتاباته التي تستوحي المغرب هي عبارة عن روايتين "دعه يسقط" 1952 و"بيت العنكبوت" 1955 وحوالى ثلاثين قصة قصيرة وعشرات المقالات التي تندرج ضمن ادب الرحلة، وبعضها نُشر بين دفتي كتاب "رؤوسهم خضراء وأياديهم زرقاء" 1957 ومعظمها لا يزال مخطوطاً، اضافة الى مئات، مئات الرسائل... ولعلّ هذا الامر جعل منه بحق عاشق هوية اخرى... وبينما خصّ بولز المغرب بهذا الفيض من الكتابات - هو معظم انتاجه - لم يكتب عن أميركا الا خمس قصص قصيرة تقدم صورة سلبية عنها وبلهجة شديدة!
وأسهم بولز في تأسيس تيارين أدبيين: واحد أجنبي امريكي سيخص المغرب وانسانه بأعمال أدبية عدة ونذكر من رواده وليام بورووز، براين غيسن، جون هوبكنز، ترومان كابوت... وآخر مغربي يسمّى رواده ب"رواة طنجة".
قطع الكاتب اكثر من سبعة وثلاثين الف كلم خلال ستة اشهر لجمع الموسيقى الشعبية المغربية وتسجيلها الآن محفوظة في مكتبة الكونغرس.
ولا يخلو شعره، كما ديوانه في "لا شيء تقريباً" الذي كتبه تحت تأثير السورياليين من جوّ المغرب والموضوع المغربي. وقد يبدو بولز ضحية مواقف واحكام مسبقة باعتباره كاتباً أجنبياً اختار ان يعيش في المغرب ولم تربطه علاقات بنخبة هذا البلد... ثم انه انسان كتوم، يفضل العزلة، متحرر من أسر كل ايديولوجيا، وقد بدأ حياته ستالينياً لأن الحزب الشيوعي الأميركي كان يطمح الى تحرير امريكا...
رجل متعدد، بل كاتب متعدد في همومه واهتماماته. في منزله، بل في غرفته، زرنا بول بولز وأجرينا معه حواراً فيما هو جالس في سريره الذي قليلاً ما يغادره.
لنبدأ حوارنا هذا بالحديث عن بول بولز المؤلف الموسيقي. كيف جئت الى الموسيقى؟
- ان الاهتمام بالفنون عامة" ومنها الرسم والموسيقى... يبدأ منذ الصبا...
تقول في سيرتك الذاتية انك شرعت تشتري الاسطوانات منذ نعومة أظافرك.
- ظللت أشتري الاسطوانات على الدوام منذ صباي. وكان أبي يشتري اسطوانات الموسيقى الكلاسيكية: تشايكوفسكي وأمثاله.
هل يمكن القول ان حب الموسيقى انتقل اليك من والدك؟
- في الحقيقة عليّ ان أجيب بدقة عن هذا السؤال. فأنا لا اتساءل عن مصادر الاشياء وبواعثها، فهي اما ان تكون متجلية أو لا تكون، وبالمقابل أذكر والدتي كانت ترغب في ان أدرس الموسيقى عندما كنت صبياً في الثامنة. كنت أدرس الموسيقى كل اسبوع وكانت والدتي تعتقد ان لي مواهب في الموسيقى، وعندما تكون لنا موهبة في فن ما فاننا نجده سهلاً ونتعاطاه ونخوض فيه باخلاص. اذاً فحُبّي للموسيقي لا علاقة له بالاسطوانات ثم أنني لم أكن اشتري اسطوانات الموسيقى الكلاسيكية بل الشعبية.
أي ما يسمى بCountry Music الموسيقى الريفية...
- ما معنى الCountry Music هذه؟ لا يوجد نوع موسيقي يحمل هذا الاسم؟ وقبل الآن لم يكن هناك نوع موسيقي يسمى بهذا الاسم وعليه فلا معنى لهذه التسمية. قد يكون الاسم من اختلاق شركات انتاج الاسطوانات لتسويق منتوجها.
تقول ايضاً في سيرتك الذاتية انك لم تكن تحب دروس الموسيقى وكنت تفضّل عليها تأليف قطع موسيقية!
- بكل تأكيد. لقد كنت أحب الحرية التي تواكب لحظة التأليف الموسيقي وتميّزها، ذلك ان اتباع نظام صارم - في التعلّم - يعتبر امراً صعباً لانه يخلو من اية متعة، ولو انه اعتبر امراً ضرورياً اذ لا يمكن ان ننتج شيئاً ذا بال اذا لم نمتلك أصول علم أو فن ما. ومن لم يمتلك تلك الاصول فهو جاهل. والجهل لا ينتج معرفة علمية أو فنية.
اعتقد ان الدروس الموسيقية الحقيقية هي تلك التي اعطاك اياها المؤلف الموسيقي - صديقك - آرون كوبلاند!
- انت تشير الآن الى مرحلة اخرى لم أعد فيها صبياً ذلك اني التقيت آرون وعمري ثمانية عشر عاماً.
وربما مكنك لقاؤك به وتتلمذك على يده من تعميق معرفتك بالموسيقى؟
- في الحقيقة. لم يكن علمي بالموسيقى غزيراً في يوم من الايام. هل أتأسّف على ذلك اليوم؟ لا اعتقد فلو كانت قدمي راسخة في علم الموسيقى لكنتُ استمررت في التأليف الموسيقي ولم اكتب كلمة واحدة في مجال السرد. فليس للانسان الا رأس واحد ويدان.
هل تعتبر الآن ان دروس آرون كانت نافعة ومفيدة؟
- نعم. بالطبع. لقد اعتبرتها نافعة ومفيدة حينذاك واعتبرها كذلك الآن ايضاً. ومعلوم اننا نعرف احياناً ما يجب علينا القيام به من دون ان نقوم به. لقد كنت اعرف انه يجب عليّ ان ادرس الموسيقى بعمق اكثر.
لا شك ان آرون أثّر فيك ووجّه مسيرتك الموسيقية.
- بالطبع. فقد كان تأثيره كبيراً ولكن لا يمكن ان أتحدث بالتفصيل عن ذلك التأثير.
اذكر ان آرون كوبلاند اعطاك دروساً في الموسيقى في أماكن مختلفة من العالم: في فرنسا، في المغرب طنجة...، في انكلترا لندن وفي ألمانيا برلين. واعتقد ان دروسه تشكل مرحلة خاصة في مسيرتك الموسيقية.
- نعم، ولم أشعر اني مؤلف موسيقي حقيقي الا عندما تعرفت على آرون.
ولعل ما يؤكد ذلك انك لما تعرفت عليه شرعت في تأليف مقطوعاتك الخاصة، اذ الّفت اول مقطوعة، هنا في طنجة، وكان ذلك سنة 1931.
- لست أدري هل هي أولى مقطوعاتي. لا اعتقد ذلك. متذكراً ربما تعلق الامر بأول مقطوعة قُدمت امام الجمهور. نهم. انها بالفعل اول مقطوعة قدمت امام الجمهور في لندن.
اذكر ان اول مقطوعة ألّفتها كانت في العام 1930 ولكني اعتبر العمل الثاني هو الولادة الحقيقية للمبدع والفنان، ولذلك يمكن ان نقول ان موسيقاك الحقيقية قد رأت النور هنا في طنجة.
- نعم يمكن ان نقول ذلك، ولعلك تقول ذلك لتربط بين بداية تأليفي الموسيقي وزيارتي الى المغرب كما تفعل مع بداية كتابتي للسرد! انك تلحّ على مغْربتي!
لقد تعرّفت ايضاً على فرجيل تومسون واعتقد انه أثّر فيك بمقالاته.
- نعم. بل كان تأثيره عميقاً. تعرفت عليه في باريس لانه كان يقيم هناك. لم يكن يكتب كثيراً حينذاك لكنه عندما ذهب الى نيويورك، فيما بعد، شرع يكتب يومياً. لقد أثر فيّ كثيراً بشخصيته.
كناقد موسيقي؟
- نعم. كان يكتب يومياً مقالات هي تقارير عن الحفلات الموسيقية.
هل أفدت من كتاباته تلك في تآليفك الموسيقية أم في عملك كناقد موسيقي؟
- لا استطيع ان أقول ان مقالاته اثرت في تآليفي الموسيقية ولكني استطيع ان أقول اني تأثرت كثيراً بمقالاته في نقد الموسيقى عندما شرعت اكتب النقد الموسيقي.
أشير الى انك كنت تنشر مقالاتك في نقد الموسيقى في جريدة "هيرالد تريبون" النيويوركية وذلك سنة 1942.
- نعم، وقد كانت تلك المقالات تكلفني جهداً كبيراً في بداية الامر ثم اصبحت اكتبها، فيما بعد، بشكل آلي.
هل أفدت من كتابة تلك المقالات في تآليفك الموسيقية؟
- لا استطيع ان احدثك عن هذا الموضوع، واعتقد ان الامر يتعلق بشأنين مختلفين، بدائرتي اهتمام مختلفتين. لا استطيع ان أقول لك هل أثّر هذا الجانب في الآخر، وان كان لكل شيء أثر في كل شيء" فأنا لست انساناً تحليلياً، كما تعلم.
ألّفت عدداً لا نهائياً من المقطوعات الموسيقية للمسرح النيويوركي، أود ان أسألك عن كيف تنشأ المقطوعة عامة" بشكل آلي مفاجىء أم بعد تفكير عميق؟
- الخطوة الاولى تكمن في دراسة النص المسرحي دراسة واعية، وعندما نفهم النص جيداً نعرف نوع الموسيقى التي تناسبه وربما تنفعه ضاحكاً وتضيئه بكل تأكيد: وعندما لا يروقنا النص يصعب علينا تحديد نوع الموسيقى التي يمكن ان تواكبه فتجعل استقباله من قبل الجمهور ممكناً ويسيراً.
هل كان تأليف اعمال موسيقية لمسارح نيويورك عملاً صعباً أم سهلاً؟
- على العموم كان سهلاً.
والتآليف الموسيقية الخاصة بك - الشخصية غير الموجهة الى المسرح التي لم تكن تنجز تحت الطلب..
- مقاطعاً صعبة التأليف أم الأداء؟
أقصد التأليف.
- لقد كان تأليف الموسيقى الشخصية أصعب بكثير من تأليف الموسيقى المواكبة للعروض المسرحية لانه كان يتطلب التفكير في الشكل. اما موسيقى المسرح فلم تكن بحاجة الى شكل، ان الامر يتعلق فقط بمواكبة نص مسرحي اثناء عرضه على الجمهور.
هل يمكن الحديث عن معنى تآليفك الموسيقية الخاصة، أقصد بذلك هل يمكن ان يكون لها معنى مثل أي نص أدبي؟
- لا يمكن ان أجيب عن سؤال مثل هذا الآن الامر يتعلق بالموسيقى ذلك ان الحديث عن الموسيقى باللغة العادية أمر صعب ضحك بينما يمكن الحديث عن الموسيقى باعتماد اللغة الموسيقية فقط...
ومعنى ذلك؟
- معناه ان نتحدث عن الموسيقى موسيقياً، بلغة الموسيقى.
أي باعتماد لغتها: النوتة، الاصوات...
- مقاطعاً وبخاصة الشكل.
ماذا تقصد بالشكل؟
- بكل بساطة أقول لكل قطعة موسيقية بداية، استمرار واخيراً نهاية. ولكن الانتقال من البداية الى النهاية يتطلب قطع مراحل عدة ويجب ان نحدد موقفنا أو موقعنا، باستمرار، في علاقته بهذه المراحل.
هل المقصود بالمراحل ما يُتعارف عليه بالحركات في الموسيقى؟
- ليس ذلك بالضرورة، إن الحركات تعبير أكاديمي.
نعم وانت في عملك الموسيقي كنت دائماً خارج الأكاديمية، رافضاً لتعليماتها...
- ضاحكاً المؤلفون الموسيقيون يكونون دائماً ضد الأكاديمية التقليدية لأنهم بموقفهم ذلك يطورون الأكاديمية لتتسع للإبداع.
وتتحرر من قوة التقنين وتتسع لكل جهود المؤلفين الموسيقيين.
- مقاطعاً إن الأكاديمية الاتباعية تفرض قوانين يجب عدم تجاوزها وهي تحول دون التطوير المضطرد للموسيقى، ألا تلاحظ ان خدمات الأكاديمية في القرن الثامن عشر مثلاً أقل من خدماتها في القرن العشرين؟ ألا تلاحظ أيضاً أن توسيع خدماتها وتطوير الموسيقى رهن بالمؤلفين غير الاتباعيين؟
لو سمحت الآن لننتقل الى الأدب. اعتقد انك بدأت تكتب السرد لأنك رأيت جين تكتب روايتها الأولى "سيدتان وقورتان" 1943 إذ واكبت تلك الكتابة بالقراءة والمناقشة، ومن جهة ثانية بدأت تكتب السرد لأنك زرت المغرب، فكان ما أُسمّيه أنا بولادتك الثانية حين تجددت انفعالاتك وأحاسيسك لتواصلك المباشر مع الطبيعة فوجب ان تعبر عن هذا الواقع الجديد بوسيلة جديدة: السرد أو النثر لا الموسيقى أو الشعر نفسه. وكانت أول قصة كتبتها تحمل عنوان "شاي فوق الجبل" 1939 وهي تتخذ من طنجة فضاءً لها؟ وهكذا جئت الى الكتابة.
- يجب أن أُضيف نقطة ثالثة وهي كتابتي للنقد الموسيقي إذ تقوم كتابته على تحويل الأفكار الى كلمات. الى نص. ثم هل أنت متأكد من أن قصتي الأولى هي "شاي فوق الجبل"؟
نعم ولكنك لم تنشرها إلا سنة 1950 بينما أول قصة نشرت لك هي قصة "العقرب" 1945 وقد كتبتها سنة 1944.
- بالفعل، بالفعل.
بول هل أطرح عليك هذا السؤال من جديد: لماذا تكتب؟ وقد اجبت عنه مرة بقولك: "لأنك تعيش في بلد الأحياء".
- لم يكن ذلك هو جوابي. لقد قلت بالحرف الواحد: "إني أكتب لأني ما زلت حياً ولم أمت بعد"، فترجم روندو دانيال هذا الجواب "بين الأحياء"، فأصبح الجواب يعطي الانطباع بأن الأمر يتعلق بأناس آخرين.
بول ماذا تحقق عبر الكتابة؟
- انها اداة للتعبير.
التعبير عن العواطف والإحساسات الإنسانية؟
- المعتقدات خاصة. الإحساسات لا دور لها في كتاباتي ضحك.
إذاً تحتل المعتقدات في كتاباتك مكانة رئيسية وتحتل الاحساسات مرتبة ثانوية.
- نعم، ولكني لا أقدم المعتقدات على أنها معتقدات، بل قد يشعر القارىء أنها توجه أفكاري.
انها المرة الأولى التي أسمعك تقول فيها هذه الفكرة ثم إن من يستمع اليك تميز بين الإحساسات والمعتقدات يخال أن هناك فرقاً بين المعتقد والإحساس.
- نعم هناك فرق بينهما. فالإحساس هو ما تشعر به أو تعيد الشعور به. أما المعتقد فهو النقطة التي نوجد بها في الواقع، أي كيف نستجيب؟ ما رد فعلنا على الأشياء؟...
هل تعتبر الكتابة ضرورة؟
- نعم، إنها كذلك. ولكن أقول لك ما قلته لك دائماً: ليس من مقصد للكتابة. إنها كالأكل كل الناس يأكلون ولا نسألهم لماذا يفعلون؟
ولكنهم لا يكتبون جميعاً!
- نعم، ربما لا يكتب من لا يشعر بالحاجة الى الكتابة أو من لا يرى أنها ضرورة.
يلاحظ ان فشل بعض شخوص اعمالك يسمو بها الى مرتبة البطولة!
- نعم، ان شخصيات اعمالي تتحمّل صعوبات كبيرة وعذاباً أليماً أسلطه عليها وإذا لم تتحمّل ذلك فإنها تموت.
وإن هذه الصعوبات أو ذلك العذاب هو ما يمنحها وضعية الأبطال.
- نعم، ذلك انه مفيد للغاية أن نقرأ عن حياة إنسان أو لحظات منها تعترضها الصعاب وعلى المعني بالأمر أن يتحملها، إنها صعوبات الحياة الواقعية ذاتها. وأعتقد ان على الكاتب ان يكتب عن الصعوبات وعن آثارها وطرق مواجهة الشخصيات لها. إن كل ذلك مفيد جداً في الواقع كما في التخييل.
ما هي بعض الأسماء التي تأثرت بها وتوقّفت عند ابداعها، وأعتقد أنه يأتي على رأسها ادغار آلان بو الذي كانت أمّك تقرأ لك قصصه!
- من الصعب ان يقول الكاتب ان هذ الأسماء قد أثرت فيه فهذا عمل الناقد. أما الكاتب فيمكن أن يشير الى الأسماء التي أحبّها ويمكن أن أذكر بالطبع ادغار بو، وخورخي لويس بورخيس، وترومان كابوت، وآرثر ماكل وفْلاَنْرِي اوكونور... هذا في ما يخص القصة القصيرة أما في مجال الرواية فيمكن أن أذكر اندريه جيد.
تتميز كتاباتك القصصية والروائية بالواقعية التي تعني بالنسبة اليك رغبة في الموضوعية، هل يجب على الكاتب أن يكون بالضرورة واقعياً؟
- نعم، وإلا كان وضعه شبيهاً بوضع الدخان في الهواء" يذهب ادراج الرياح، أي يذهب جهد الكاتب هباء منثورا.
اعتقد ان طقوس الكتابة عندك تختلف عن طقوس التأليف الموسيقي؟
- بالفعل، بالنسبة للكتابة اكتب في الغالب وأنا في الفراش. وقد كتبت رواياتي ومجمل قصصي القصيرة في الفراش وذلك بعد أن أهيىء ابريق قهوة أصب محتواه في ترمس. اكتب الروايات في الصباح أما القصص القصيرة فإنني أكتبها في أي وقت كان. وفيما يخص الموسيقى فإنني على عكس أغلب المؤلفين الموسيقيين أعزف مقطوعاتي ثم أدوّن النوتات الموسيقية بعد ذلك. إذ التأليف الموسيقي يتطلب الجلوس الى البيانو.
لو تحدثنا الآن عن أسماء الشخصيات في أعمالك التخييلية. وأقصد الشخصيات المغربية على وجه الخصوص. ما هو مقياس اختيار تلك الأسماء؟ هل هي الدلالة التي تحيل عليها أم أَنَّ هناك مقياساً آخر؟ أذكر الآن رواية "بيت العنكبوت" 1955 وبطلها عمار المؤمن المدافع عن الدين الإسلامي في صفائه الأول... يذكّر بعمر بن الخطاب وعدله، ووالد عمار الفقيه ادريس يحيل اسمه على مؤسس الدولة المغربية ادريس الأول...
- تأويلك لأعمالي جزء من اهتماماتك... قد لا أكون فكّرت في كل هذا وقد أكون فكّرت في بعضه، لكن دعني أقول لك أني أُعْنَى، لحظة اختيار أسماء الشخصيات المغربية خاصة وأحياناً الأجنبية، بالأصوات، بالرنَّة، وفي الغالب أحاول أن لا يتشكّل الاسم من أكثر من مقطعين.
اعتقد ان كتاباتك تحتل مكانة خاصة في تاريخ الأدب الأمريكي الحديث، هل يمكن أن تبدي رأياً في كتاباتك؟
- في الحقيقة لا أستطيع أن اقول شيئاً في هذا الصدد. اعلم أنك تريد ان تستدرجني، كالعادة... ضاحكاً لن أجاريك هذه المرة في ذلك...
اعتقد صادقاً أن أدبك يحتل مكانة خاصة في تاريخ الأدب الأمريكي الحديث...
- مقاطعاً أنا لا اجرؤ على قول ذلك لأن هناك عدداً كبيراً من الكتّاب الأمريكيين وقد كتبوا في مواضيع متنوعة.
لكنهم لم يكتبوا بالقدر نفسه عن المغرب وعن شمال أفريقيا؟
- طبعاً لا. ولكن ربما كان الأمر ثانوياً.
بل هو أمر مهم، ألم يقل صديقك غور فيدال في تقديمه لاعمالك القصصية الكاملة إنك تختلف عن الكتّاب الأمريكيين الكبار في أنك لا تعيش مثلهم في الولايات المتحدة الأمريكية: أكبر بلد في العالم، ولا تكتب عن أعظم الموضوعات الإنسانية: "التجربة الأمريكية" ومعنى ذلك أنك تكتب عن تجربة فريدة، ولا تقاسم مبدعي بلدك الأصلي مواضيعهم. وبذلك فأنت تجدِّد الأدب الأمريكي وتغنيه؟
- إني مُغْتَبِطٌ لأنني لم أكتب عن "التجربة الأمريكية" ضاحكاً وهذا أفضل. في الحقيقة إن الجواب عن هذا السؤال صعب جداً: فأنت تريد مني أن أكون أنا وفي الوقت ذاته أن لا أكون أنا!
فلتحاول. إن الأمر يتطلب تقمُّص دور قارىء.
- اعتقد أني سأوافق على معظم الأفكار الواردة في الكتب التي وقَّعها المدعو بول بولز. سأقول، وأنا أقرأها، نعم، نعم، هذه فكرة جيدة، ولكن لا يمكن أن أحكم على هذه الأعمال من زاوية الجودة والأصالة...
عندما استقررت في المغرب، ابتدعت طريقة يستتبعها آخرون وتتجلى في تسجيل نصوص من سُمّوا برواة طنجة أحمد اليعقوبي، العربي العياشي، محمد المرابط، عبدالسلام بولعيش. وترجمتها. وقد نشر هؤلاء خمسة عشر كتاباً شملت كل الأجناس الأدبية: القصة، والرواية، والسيرة الذاتية.
- لقد كان أحمد اليعقوبي أول من فتح عيني على الحكاية الشعبية المغربية وعلى أهميتها وذلك منذ سنة 1947 تاريخ تعرفي عليه. وأذكر ان أحمد شرع يحكي يوماً ما قصة، فتناولت مذكرة لتدوين الترجمة الإنكليزية المختصرة للحكاية وكان عنوانها "الرجل الذي حلم بسمكة تأكل أخرى"، وكان ذلك سنة 1953. وبعد سنتين من ذلك التاريخ اشتريت آلة التسجيل وبدأت رجلة تسجيل نصوص "رواة طنجة" وترجمتها ثم نشرها. انك تعرف التفاصيل يمكن أن ترويها مختصرة.
يجب أن نشير في البداية الى بعض بواعث نشاطك في حقل الترجمة. وأعتقد أنك شرعت تسجّلُ نصوص "رواة طنجة" وتترجمها تقديراً لتلك النصوص الفريدة!
- مقاطعاً الترجمة لا تعتبر عملاً شخصياً لأنها تخلو من عنصر الخيال ولذلك فهي نشاط يمكن ايقافهُ ثم استئنافه دون صعوبة تذكر. فالترجمة عملية تخلو من الابداع أي من الخيال لأن المترجم يلتزم معنى معيّناً يجب عليه أن ينقله ويشكِّله في لغة ثانية هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد اعتبرتُ تلك النصوص، منذ البداية، جزءاً من التاريخ الأدبي للمغرب يجب أن ينشر حتى نضمن له الذيوع وأن لا يتعرّض للضياع. وها هي تلك النصوص قد نقلت وتُنقل الى لغات عديدة مما يؤكِّدُ أهميتها.
من الملاحظ ان ثمة قرابة روحية بينك وبين "رواة طنجة" تعكسها نصوص الطرفين!
- ان الذين تنْعَتُهم أنت "برواة طنجة" كانوا يعبِّرون عن أفكاري الخاصة ولولا ذلك ما قُمت بترجمة أعمالهم. لقد أمضيت وقتاً طويلاً في انجاز تلك الترجمات. وكنت اعتقد ان هذا العمل يستحق الجهد الذي يبذل في انجازه لأني لم أكن اعتقد بوجود كتب كتلك التي ترجمتها. وكان يهمني، آنذاك، ان أتعرّف على وجهة نظر المغربي غير المتعلم الشعبي. لأن طريقة هذا الرجل الشعبي في التعبير، تختلف عن طريقة تعبير الأوروبي والامريكي على السواء. وهي طريقة تعتمد الإيجاز والصور البلاغية وتوظف الأمثال الشعبية... لقد كان ذلك الأمر جديداً بالنسبة إليّ وكان مفيداً جداً، لذلك واظبت على هذا العمل بدون كلَلٍ واستمررت فيه. ولعل كل ذلك يبرز تقديري الكبير لهذا النوع من الأدب.
هناك تكامل بين أدبك وأدب هؤلاء الرواة. موضوع الأدبين هو المغرب ولكن زاوية النظر إليه تختلف: نظرة خارجية يمثلها أدبك ونظرة داخلية يعتمدها أدب الرواة. ويبدو لي - وهذا أمر مهم تؤكده قراءة نصوصك - ان نظرتك الخارجية التي برزت في النصوص الأولى قد تحولت مع المعاشرة والمعاينة والاقامة في المغرب الى نظرة داخلية تنطلق من الملاحظة الداخلية.
- ان الأدبين يتكاملان بالتأكيد ثم أنني تطورت كثيراً فأصبح لي نظرة داخلية، أي أصبحت أفكِّر مثلما يفكر أولئك الرواة وهذا أمر مهم بالنسبة إليّ: إن تأثيرهم واضح عليَّ وخاصة تأثير محمد المرابط الذي ترجمت له اثني عشر كتاباً ونصوصاً متفرقة. لقد احتَضَنْتُ نظرة هؤلاء الرواة في البداية ثم احتضنتني نظرتهم فيما بعد ضحك.
قلت لي مرات وفي أوقات مختلفة ان مثابرتك على ترجمة نصوص "رواة طنجة" من العامية المغربية الى الإنجليزية تعكس غيرتك على التراث الشعبي المغربي وعدم رغبتك في ضياعه وتعكس خاصة اعترافاً بفضل المغرب عليك!
- كل هذا صحيح. وما زلت على رأيي لم أبدِّل تبديلاً لأن لا شيء تغيّر: المعطيات لم تتغيَّر وأنا أيضاً لم أتغيَّر. لقد تقدّم بي العمر ولكن ذلك ليس مبرِّراً لتغيير الآراء و... المعتقدات ضحك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.