معرض الكيف بجازان يسدل الستار على فعالياته بعد حضور فاق التوقعات واهتمام محلي ودولي    تغطية اكتتاب أرامكو للمؤسسات ب +45 مليار ريال    زلزال بقوة 5,9 درجات يضرب وسط اليابان    في بطولة غرب آسيا لألعاب القوى بالبصرة .. 14 ميدالية للمنتخب السعودي    المنتخب الوطني يواصل تحضيراته لمواجهة باكستان    الحجاج يشيدون بخدمات « حالة عمار»    الصدارة والتميز    أجمل من عطر منشم..!    39.7 مليون برميل مستويات الإنتاج.. ( أوبك+) تمدد تخفيضات الإنتاج لنهاية 2025    9.4 تريليونات ريال ثروة معدنية.. السعودية تقود تأمين مستقبل المعادن    أوبك+ تقرر تمديد تخفيضات الإنتاج الحالية حتى نهاية 2025    ..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    ماذا نعرف عن الصين؟!    الاحتلال يدمر 50 ألف وحدة سكنية شمال غزة    وصول الطائرة السعودية ال 51 لإغاثة الفلسطينيين    مزايا جديدة لواجهة «ثريدز»    ملاجئ «الأونروا» فارغة    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    حجاج الأردن وفلسطين : سعدنا بالخدمات المميزة    الأولمبي السعودي يستهل مشواره بمواجهة كوريا الجنوبية    الأزرق يليق بك يا بونو    الاتحاد بطل.. أخذوه وبعثروه    المملكة تستضيف بطولة العالم للراليات تحت مسمى "رالي السعودية 2025"    الكعبي.. الهداف وأفضل لاعب في" كونفرنس ليغ"    رونالدو يغري ناتشو وكاسيميرو بالانضمام للنصر    وزير العدل: دعم ولي العهد اللامحدود يضع على أفراد العدالة مسؤولية كبيرة    حجب النتائج بين ضرر المدارس وحماس الأهالي    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    سائقو الدبَّابات المخصّصة لنقل الأطعمة    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج دون تصريح    هذا ما نحن عليه    هنأ رئيس مؤسسة الري.. أمير الشرقية يدشن كلية البترجي الطبية    إطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق مدينة الرياض    جامعة نورة تنظم 20 حفل تخريج لطالبات كلياتها ومعاهدها    توبة حَجاج العجمي !    "طريق مكة".. تواصل تسهيل دخول الحجاج إلى المملكة    "فعيل" يفتي الحجاج ب30 لغة في ميقات المدينة    "الأمر بالمعروف" تدشن المركز الميداني التوعوي بمكتبة مكة    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    أمير نجران يشيد بالتطور الصحي    نمشي معاك    رائحة تقضي على النمل الأبيض    أمير منطقة تبوك يعتمد الفائزين بجائزة سموه للمزرعة النموذجية    أمير الشرقية يستقبل رئيس مؤسسة الري    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    الشورى: مراجعة شروط الضمان الاجتماعي المطور لصالح الأيتام وبعض الأسر    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    إدانة مزور شيكات ب34 مليون ريال منسوبة لجمعية خيرية    مسبار صيني يهبط على القمر    وصول الطائرة ال51 لإغاثة غزة    «إخفاء صدام حسين» يظهر في بجدة    المملكة تحقق أول ميدالية فضية ب"2024 APIO"    «أطلق حواسك».. في رحلة مع اللوحة    «طريق مكة».. تقنيات إجرائية لراحة الحجيج    فيصل بن مشعل يرعى حفل تكريم معالي رئيس جامعة القصيم السابق    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمثيل الخطاب القومي في شعر نزار قباني
نشر في الحياة يوم 04 - 05 - 1998

للخطاب القومي في الحياة العربية المعاصرة صور وتجليات بارزة، منها السياسي المباشر، ومنها الاعلامي والفكري، ومنها التمثيل الفني كما يتراءى في الشعر والسرد وبقية الأشكال الابداعية. وربما كان مصطلح "الخطاب" أنسب الكلمات المتداولة للإشارة إلى نوع الكتابة الشعرية السياسية والالماح إلى خواصها المتميزة، لأنه يجمع في انخطافة لغوية واحدة بين المرسل في المتلقى في فصل تواصلي حميم، فالخطاب يتجه دائماً الى الآخرين في حركة خارجية مسموعة، ويتم غالباً في لحظات "الخطوب" التاريخية، ويعمد إلى استثارة المكنون في الوعي الجماعي ليتجاوز العاطفة الفردية عزفاً على الشعور في طابعه القومي المشترك. من هنا فإن التمثيل الشعري له يمتلك فعالية بالغة لاتكائه على تاريخ عريق من الخبرة الجمالية وتفعيله لأقصى مستويات اللغة في التأثير، وكفاءته في تشكيل رؤية حاسمة للعالم كما تصوغه الكلمات في أوضاعها الدلالية. ولن نجد نموذجاً في الشعر العربي المعاصر قدم صورة كاشفة للضمير القومي وبلور رؤية فادحة له مثلما فعل نزار قباني.
لكن تحليل هذا الخطاب من منظور نقدي علمي محدث، لا يمكن أن يتراجع إلى منطقة التحليل المضموني أو الموضوعاتي المتروك، بل عليه ان يلتمس اجراءاته ومنهجه في ما أسفرت عنه التقنيات الجديدة لبحوث الشعرية، خصوصاً في سياقها التداولي الذي يسمح بالعناية المتوازنة بجميع عناصر التواصل في الخطاب الشعري. وهي عناصر تستوعب النص كما تحيط بدوائره المباشرة، فتشمل المرسل والمتلقي، وتتضمن زمن الخطاب ومكانه، وتحدد الفضاء الذي يتم فيه استقباله والعلاقات المتبادلة التي يمكن عقدها بين المشاركين من خلاله.
وما يهمنا إبرازه في هذا المجال بشكل واضح هو ان هذه العناصر التواصلية ذات أثر مباشر في كيفية استخدام وتوظيف اللغة الشعرية، فأدوار المرسل والمتلقي تتعلق بالضمائر الشخصية المستخدمة في الخطاب، والزمان والمكان ينعكسان في توظيف أزمنة الأفعال والأدوات وأسماء الزمان والمكان والاشارة والأحوال والظروف. واختيار الموضوعات التي يتم تناولها يتعلق بدرجة مشاركة المتواصلين في فضاء يجمعهم، كما أن العلاقة المتبادلة التي يمكن عقدها بينهم يعبر عنها عادة بأفعال خاصة مثل القول والأمر والاستفهام والتعجب، ومعنى هذا ان توسيع دائرة التحليل لتشمل الأبنية اللغوية النصية ومحددات تداولها هو الذي يضيء طبيعة الظواهر الشعرية ويكشف عن مدى فاعليتها الجمالية. على أن السمة المميزة لهذه العناصر التواصلية في الشعر هي تعدد الأدوار والأبعاد، فالضمائر - كما سنجد في القراءة النصية - لا تحيل إلا مقابلاتها الحرفية كما يحدث في الخطاب التواصلي المعتاد. والأمكنة والأزمنة لا تشير إلى مدلولاتها الأولى فحسب، بل تتراءى هذه الاشارات بأدوار تمتزج فيها الحقيقة بالمجاز والحسّي بالتجريدي، وتنتشر امكانات الفهم لهذه العناصر شعرياً لتجعل الشفرة الجمالية أكثر ثراء وانفتاحاً على التعدد الدلالي الخصيب.
وإذا كانت سلطة الخطاب الشعري متجذرة في تاريخنا القومي منذ كان الشاعر اللسان والعين الباصرة لأمته، وارتبط مجده بقدرته على بلورة الرؤية الجماعية في صيغ شهيرة وسعيدة، فإنها قد اختزلت أنواع الخطاب السياسي والفكري والثقافي وراهنت على وراثتها جميعاً. وعندما يأتي شاعر مثل نزار قباني ليبعث هذا الدور الذي ظنت الحداثة أنها قتلته فإنه يطمح إلى تمثيل الضمير القومي بكل أوجاعه وأحلامه، بقدرته على نقد الذات واستشراف المصير، محاولاً أن يجمع في نبرة واحدة عالية بين توقد الحس التاريخي والرغبة العارمة في تجاوزه وتقصيره، بين الاستغراق الجنوني في حميّا الابداع الجماعي والشعور الحاد بالعجز، بين انجاز الشعر الخلاق واحباطات الواقع البارد المهين.
شبكة الضمائر
إذا أجرينا مسحاً احصائياً لمجموعة القصائد السياسية لنزار تقع في مجلد كامل يربو عدد صفحاته على 650 صفحة، تتضمن اثنتين وخمسين قصيدة كبيرة، وجدنا ان توزيع الضمائر فيها يجري على النحو التالي:
أولاً، اثنتان وثلاثون قصيدة صيغت بضمير المتكلم المفرد، وعشرون قصيدة بنيت على جمع المتكلمين، لكن الفرق بينهما من الوجهة الدلالية ضئيل، لأن "أنا" الشاعر تتماهى في معظم الأحوال مع "نحن" الجماعية، وتتجاوز غالباً حدوده الفردية، لتلقي بظلها على "أنا" القارئ وتحتضنه، كما تتعمد أن تجعل من الذات القومية بؤرة مركزية لها، فتحتفظ بدرجة عالية من الغنائية غير الرومانسية. وتستمد حينئذ قوتها التعبيرية من التحديد الواضح لطرف الخطاب الأول، مع تغذيته بنسبة معقولة ومقبولة من الابهام الضروري عن طريق امتزاجه بضمير الجماعة وتراوحه بينهما. لنقرأ المقطع الأول من "هوامش على دفتر النكسة"، إذ يقول:
أنعى لكم يا أصدقائي، اللغة القديمة
والكتب القديمة
أنعي لكم:-
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة
ومفردات العهر، والهجاء، والشتيمة
أنعي لكم..
أنعي لكم..
نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة.
فالضمير الشعري هنا مزدوج، فهو فرد لا يعبر عن خصوصيته الفردية، يقف موقف الناعي في لحظة الفجيعة. وهو موقف مأثور في وظائف الشعر العربي، لكنه يعلن "وفاة" اللغة القديمة، وهي بطبيعة الحال ليست ملكاً له، بل هو بريء منها ويسندها الى الجميع "كلامنا" وهو يمارس أول فعل صريح في نقد الذات وصناعة الوعي الجديد حين يعلن انتهاء لون من الفكر بانقضاء هذه اللغة المهترئة، لكنه يقوم بتمثيلها وهو يدعو للقضاء عليها، ويتجلى ذلك في أمرين: أحدهما هو التعبير الحاد الموجع عن المستوى الدنيء الذي انحط إليه الخطاب العربي لغوياً وفكرياً، فالكلمات مثقوبة مثل الأحذية البالية، والدلالات منتهكة في عرض الشارع السياسي، فالهزائم تصور على أنها انتصارات، والديكتاتورية تتجسد في الزعامات. لكن المفارقة الأليمة هي ان الشاعر الحريص على التواصل مع جمهوره يستخدم اللغة التي يرفضها وهو يحاول التخلص من ألوانها الصارخة.
وثانيهما، أنه يعمد شعرياً إلى توظيف آليات الخطاب الشعري العربي الذي يريد ان يتجاوزه، فهو يتعمد المبالغة الفاضحة والتكرار الشديد، يسرف في دق طبول الايقاع وتشديد الصيغ الخطابية الرنانة. فالقافية هي التي تحكم ميزانه الشعري، وربما كان الحلم، أو الوهم، هو الذي يحدو كلماته بأن يحدث تغييراً حقيقياً في صلب الخطاب العربي السائد.
ثانياً، نجد أن سبع قصائد فقط هي التي تقتصر على ضمير واحد، غالباً ضمير المتكلمين، وخمساً وأربعين قصيدة تتضمن ضمائر أخرى، منها عشرة لضمائر الغياب، وثلاثون لضمائر المخاطب سواء كان فرداً أم جماعة. ومعنى هذا ان الصبغة الغالبة على هذا الشعر هي المخاطبة الحوارية المتعددة، مما يجعله يشف عن طابعه القومي، يغيبه حيناً، ويستحضره في معظم الأحيان، ولنقرأ نموذجاً لهذا الخطاب، مقطعاً من قصيدته "شعراء الأرض المحتلة":
شعراء الأرض المحتلة
يا من أوراق دفاتركم
بالدمع مغمسة، والطين
يا من نبرات حناجركم
تشبه حشرجة المشنوقين
يا من ألوان محابركم
تبدو، كرقاب المذبوحين
نتعلم منكم منذ سنين
نحن الشعراء المهزومين
نحن الغرباء عن التاريخ
وعن أحزان المحزونين
نتعلم منكم
كيف الحرف يكون له شكل السكين
ولأن نموذج التواصل في هذه القطعة هو أنتم/ نحن فهو يرتكز على النداء والتقرير، ويتلبس بالإطار العروضي الصارم بالرغم من محاولة التنويع الأخيرة في توزيع الكلمات على السطور دون اخلال بعدد التفاعيل. وهو يفتعل درجة من التواضع عندما يعلن، باسم الشعراء من غير الأرض المحتلة، أنه يتعلم منهم أدب المقاومة الذي يتخذ فيه الحرف شكل السكين، مع أنه وصفهم في القطعة ذاتها بأنهم يمتلكون نبرة مشنوقة، ومحابر مذبوحة. يفتعل التواضع لأنه - كفرد شاعر - يعرف عكس ما يقول، فمحمود "الدرويش" كما يسميه في هذه القصيدة، نقل عنه كثيراً من عناصر اسلوبه الأول. يكفي أن نتذكر انطلاقته الشعرية الأولى في قصيدة "سجل" ونقرنها بأبيات نزار عن "جميلة بوحيرد" وغيرها. لكن ليس المهم الآن تحديد الواقع الخارجي، وذلك لأن الخطاب الشعري ليس في حقيقة الأمر فعلاً من أفعال الكلام الفردي، بل هو تمثيل فني لهذا الفعل. ومن هنا فإن النص لا يتأثر بالعلاقة المتبادلة بين الشاعر والأصوات التي يحاورها والجمهور الذي يقرؤه بشكل محدد وحاسم. فالخاصية التمثيلية للشعر والوضع النهائي لشكله يؤسسان امكان تكرارهما بلا حدود. أي امكان قراءة الشعر والاستمتاع بجمالياته بما لا يحصى من المرات عدداً. ويمكن القول حينئذ بأن الشعر يتميز بتعدد المستويات التواصلية. وعدم الاعتراف بهذا التعدد هو الذي يفضي في بعض الحالات إلى اتخاذ سبل خاطئة في فهم الشعر، خصوصاً في ما أطلق عليه "وهم السيرة الذاتية" الذي لا يستطيع التمييز بين مستويات أدوار التكلم التي يمكن أداؤها بضمير الأنا. فتعدد المستويات هو الذي ينتج اللعبة التي يوظفها الشاعر في عوامل التواصل، كما ان تعدد المستويات في البنية اللغوية هو الذي يحدد طابعها الشعري الخلاق. والخطاب الشعري يتيح الفرصة لامكانات من التواصل يعجز عنها الخطاب اللغوي المعتاد بقيوده المحددة. لأن القصيدة مثلاً تقرأ باستمتاع ولذة من قبل جميع الناس حتى بعد كتابتها بأزمنة بعيدة، لأنها توسع منظور الضمير وتعدد مرجعيته في أفق مفتوح.
ايقاع الزمن
مرت عملية تشكيل صورة الخطاب القومي في شعر نزار قباني بعدد كبير من المراحل والتحولات، وتفاوت ايقاعها في البطء والسرعة حتى أصبحت تمثل موجات دافقة لكنها غير منتظمة، ترتبط بزمن الأحداث السياسية الكبرى من جانب، وبموقع الشاعر ومكانه في مراقبة هذه الأحداث من جانب آخر، كما ترتبط بشيء ثالث بالغ الأهمية هو هذا الفضاء المشترك الذي تسبح فيه توقعات المتسلقين لشعر نزار وتستشرف نفوسهم لمطالعة كيفية مواجهته للمواقف العامة حضوراً وغياباً، ومعنى هذا ان أبنية الخطاب اللغوية تتوافق مع سياقاته التاريخية في إشباع أو إحباط هذه التوقعات.
وبوسعنا أن نرسم صورة وجيزة لهذا المسار المتذبذب عبر رصده في حركاته الأساسية مداً وجزراً في خمس مراحل رئيسية كانت كما يلي:
1- كانت أول قصيدة قومية مهمة للشاعر تعبر عن صحوة الضمير العربي نقدياً وتدين غفوة المجتمع التاريخية قد كتبت على وجه التحديد في لندن عام 1954 بعنوان "حب وحشيش وقمر" وتلتها قصائد عن فلسطين والسويس والجزائر وكل ما كان يشغل الإنسان العربي في مرحلة اكتشافه ضميره القومي وتعميقه وعيه الوطني والانساني، وكانت كلها تبلور المعالم الأولى لخطاب العروبة شعراً في اتساق واضح مع التيار القومي التحرري، حتى في هذا الموقف الحاد من القوى الاقتصادية الصاعدة في البترول العربي لتوظيفه ضمن تيار هذا المد الجديد.
2- اعقبت ذلك منذ 1958 مرحلة تالية من "الغيبوبة المعاصرة" استمرت تسع سنوات، أي حتى النكسة، كاد يختفي فيها تماماً صوت هذا الضمير القومي إبان فورانه الشديد على الصعيد السياسي في سنوات التجارب المريرة للوحدة والانفصال بين مصر وسورية والعراق واليمن في عدد من الثورات والارتجاعات المضادة. ولم يصدر عن الشاعر في هذه الأثناء من إشارات المساهمة في تشكيل خطاب الأمة سوى بعض اللفتات الواهنة - ذات الطابع الشجني البعيد - في ما اطلق عليه القصائد الأندلسية التي تتراوح بين القلق التاريخي والرومانسية المتأخرة، وربما كانت قيود العمل الديبلوماسي من ناحية وصناعة أسطورة "شاعر المرأة" من ناحية أخرى، هما المسؤولان عن هذه الغيبوبة التي تمثل فجوة صارخة في بنية خطابه.
3- جاءت نكسة حزيران الموجعة لتمثل أفدح جرح قومي معاصر، فانهمرت قصائد نزار قباني في حركة كاسحة في ما يمكن ان نسميه "جلد الذات" عبر عدد ضخم من القصائد والمطولات، بعضها محدد التاريخ وملموس الوقائع، وبعضها مجهول الزمن تقية ومراوغة يصل عدده إلى أربع عشرة قصيدة، أولها "حوار مع عربي أضاع فرسه".
ونلاحظ هنا استفحال النزعة السادية في إدانة الآخر وتحميله ذنب الفاجعة، كما نلاحظ من ناحية أخرى بداية تبلور منظومة قيم جديدة في الخطاب القومي تجعل الخروج على طغيان السلطان ورفع الحرية الداخلية مؤشراً حاسماً في الاستراتيجية السياسية.
4- لا ينقطع هذا المد من العذاب الشعري إلا بالافاقة على فاجعة أخرى هي موت الزعيم وتبدد الحلم الجميل، فيكتب نزار قباني عدداً من المراثي اللاهبة، يكفر فيها - في ما يبدو - عن مرحلة الغيبوبة ويسد دينه للضمير العربي، مكرساً لوناً جديداً من الخطاب يتميز بعدد من الخواص الجمالية التي سنحاول الوقوف عليها في ما بعد.
وتأتي مرثية طه حسين لتكمل هذه الدورة، وينصرف الشاعر على مجموعة من المواويل الدمشقية والبغدادية بعد أن يلتبس في مخيلته نصر اكتوبر بإستعادة الفحولة واسترداد العافية الموقتة، لأن التشظي العربي في مقارفة السلم الأليم يفثأ طاقة الاحتشاد والتعبئة القومية بالرغم من وخزات الضمير الحادة في الحرب اللبنانية والشتات الفلسطيني.
5- وتأتي المرحلة النزارية الأخيرة في تمثيل الخطاب القومي لتقدم "رؤية من المهجر" تمتلك خصوصيتها في التباعد والتآكل، في الهجاء والنفي، في تضخم الذات الفردية والاستخفاف بكتلة الشعوب العربية ونقد - بل وإنكار - حركتها الحضارية، مما يعني الوقوع في مثالية جديدة مضادة لمثالية الحلم القومي تعزف على الأوتار ذاتها، وتشي بتهالك مكونات الخطاب القديم.
لأن الشعر ليس مجرد تواصل اعلامي، بل يتميز بشفرته الجمالية الخاصة، فلا بد من تحديد الغرض الاساسي في هذا التواصل، وهو انه خلال عملية تلقي الرسالة الجمالية تتشكل لدى المتلقي شفرة خاصة، مضافة الى الشفرات اللغوية والثقافية التي ما زالت حية عند بث الرسالة، تعتمد على الموروث المستقر في الوعي من ناحية، وتهدف لتوسيع مداه بابتكار انماط جديدة من البيانات الجمالية المستحدثة من ناحية ثانية، اعتماداً على امكان توظيف الاستعداد المتوفر لدى المتلقي في هذه اللحظة لتنمية قدراته في التقاط هذه البيانات الجديدة وفك شفراتها.
هذا الموقف هو الذي يسمح للمتلقي بتفسير المعلومات التي لم يسبق له معرفتها من قبل والمتضمنة في المادة الدلالية للرسالة. ومنذ اللحظة التي يتم تشغيل شفرة من هذا النوع الجمالي فيها فان الرسالة تتراوح في مساحات التوافق والتخالف مع الأعراف والنظم الثقافية السائدة لكن المشاركة في اعادة انتاجها تتوقف على درجة الالمام بهذه الاعراف والنظم. وفي حالة النص الشعري فان مطارحة النصوص الاخرى والخروج على تقاليد الكتابة السابقة هما من اهم الوسائل في توظيف البيانات الجمالية وفك شفرتها. علماً بأنها تتميز بأمرين لافتين:
أولهما: انها لا توجد مستقلة عن الادوات الناقلة لها في النص، بل تتشكل من مجموعة الاشارات اللغوية بحساسيتها المتراكمة.
وثانيهما: انه نادراً ما تكون معروفة لدى المتلقى منذ البداية، بل تكتشف خلال تلقي عناصر المعلومات التي تساعد على حل شفرتها. واذا كانت معروفة من قبل فان خلق علاقة جديدة ومدهشة لها بمعطيات الموقف الجديد يصبح مناط الفعالية الجمالية لها. ولنضرب مثلاً على ذلك من خطاب نزار قباني السياسي في علاقته مع الخطاب الديني من ناحية والخطاب الشعري السابق عليه من ناحية اخرى، وطريقته في توظيف التوتر الناجم عن مفاصل هذه العلاقة التوافقية غالباً، والتخالفية في احيان قليلة. وربما كانت مطارحة النصوص المقدسة باستثمار اشعاعاتها الروحية هي أولى خطوات نزار في هذا الصدد.
يقول مثلاً عن جميلة بو حيرد:
وامرأة في ضوء الصبح
تسترجع في مثل البوحِ
آيات محزنة الإرنان
من سورة "مريم" و"الفتح"
لكنه لا يلبث ان يأخذ مسافة نقدية، لا من النص المقدس، بل من مدى انطباقه على العرب المعاصرين ومسلمي اليوم عندما يخاطبهم بعد النكسة ساخراً مبرزاً المفارقات التاريخية في قوله:
جلودنا ميتة الإحساس
أرواحنا تشكو من الإفلاس
أيامنا تدور بين الزار... والشطرنج... والنعاس
هل "نحن خير أمة قد أخرجت للناس"؟
فيلقى بظل الشك على هذه العلاقة النصية بين خطاب اليوم والأمس، مستثمراً درجة الشيوع القصوى في العبارة القرآنية ليرسم صورة التناقض الحاد بين الواقع والتاريخ، بين الفعل والقول، بين المقدس والدنيوي...
والطريف في هذا الصدد انه يقوم بتطويع العبارة المحفوظة حتى تندمج في النسيج الشعري، فيخلق لها أولاً بيئة ملائمة لتجانس القافية بايراد مفردات الافلاس والنعاس، ثم يضيف اليها حرف التحقيق "قد" ليستقيم الوزن، فيمارس لوناً من تشعير النص وهو يقوم بتوظيفه، الى جانب صياغة موقف المفارقة المشار اليه. غير انه في سياق الاندفاع المحموم لادانة اشكال الخطاب القديم ايذاناً بمولد لغة جديدة بعد زلزال النكسة يعلن ثورة على "ملحقات" الخطاب المقدس وطريقة ممارستنا له اذ يقول:
من ربع قرن وأنا...
أمارس الركوع والسجود
أمارس القيام والقعود
أمارس التشخيص خلف حضرة الامام
يقول "اللهم امحق دولة اليهود"
أقول "اللهم امحق دولة اليهود"
يقول "اللهم شتت شملهم"
أقول: "اللهم شتت شملهم"
...
وهكذا يا ساداتي الكرام...
أدور كالحبة في مسبحة الامام
لا عقل لي... لا رأس... لا أقدام: الخ.
وهنا نرقب الشاعر وهو يقوم بتمثيل هذه الملحقات في تكرارها الأصم وآليتها المرهقة ليبرز الجانب المتصلب منها بعد ان غازل الطاقة المنبثقة عنها في حروب التحرير، غير انه في كلا الموقفين يستند الى معرفة القارئ المشبعة بهذه الطقوس كي يولد منها ملمحاً جمالياً جديداً بالتوافق معها تارة والتخالف المحسوب تارة اخرى؟ اذ انه لا يريد ان يجرح هذا الحس الديني الذي يتكئ عليه في الخطاب القومي، وحسبه ان يتباعد عنه في الخطاب الغزالي الموازي. ويطول بنا الحديث لو تتبعنا علاقة خطاب نزار قباني بالشعراء السابقين عليه والمعاصرين له. وحسبنا ان نشير الى ملمح يسير من صلته بشوقي في بلورة خطاب الأمة العربية والاسلامية في مطلع القرن - في قصيدته الهمزية، "افادة في محكمة الشعر" المؤرخة 1969 حيث يقول:
مرحبا يا عراق جئت أغنيك
وبعض من الغناء بكاء
فيذكرنا على الفور بقول شوقي:
ما جئت بابك مادحاً بل داعيا
ومن المديح تضرع ودعاء
لكنه يتصدى لنقض أدونيس بشكل مباشر عندما يقول:
نرفض الشعر كيمياء وسحرا
قتلتنا القصيدة الكيمياء
فيعلن تدابر الامارات الشعرية، ويشن الحرب على مخالفيه مستثمراً لحظة اليأس القومي لادانة الشعراء الآخرين وتحميلهم مسؤولية الاحباط، فيخلط عامداً بين الشعري والسياسي المباشر محاولا اعلاء نصه الواضح فوق النصوص الاخرى المضادة له.
من قتل الزعيم الى وفاة العرب:
لا بد لخطوات التحليل المعرفي لعمليات التواصل الجمالي من مقاربة منطقة مهمة هي الآثار العاطفية للتأويل الادبي، لأن هذه المنطقة هي التي تحتضن حاجاتنا وأشواقنا وأذواقنا المكنونة في الأدب، ومن دون وسيلة منظمة للكشف عن بواعثها النصية واستجاباتها العضوية ستظل أبنية التواصل مستغلقة وغير مفهومة، ويظل ادراكنا لها مفتوحاً بشكل واضح. ولأن مبعث هذه الآثار يتمثل أولاً في استراتيجية الاختيار، من المنظور الى الملفوظ، فان علينا ان نتوقف عند ذروتين في الخطاب القومي النزاري، لنشهد كيفية تحقيقه لهذه الاستراتيجية البالغة التأثير على القراء حتى اليوم. اللحظة الأولى هي موت عبدالناصر في مطلع السبعينيات، وقد اصبحت الآن من منعطفات التاريخ العربي المعاصر الحادة، فهل الشعر الذي قيل فيها عندئذ فقد بمرور الوقت أهميته الوجدانية وفعاليته العاطفية؟ يتوقف ذلك على نوع الشعر وحمولاته، على رؤيته وصيغه وكلماته. ولنقرأ مطلع القصيدة الأولى من مرثيات الزعيم التي كتبها نزار:
قتلناك... يا آخر الأنبياء
قتلناك...
ليس جديداً علينا
اغتيال الصحابة والأولياء
فكم من رسول قتلنا...
وكم من امام ذبحناه وهو يصلي صلاة العشاء...
فتاريخنا كله محنة...
وأيامنا كلها كربلاء...
ولنلاحظ معالم الاداء اللغوي في أوضاعه الشعرية بالنسق التالي:
أولاً: يسند الكلام الى ضمير الجماعة، فصوت القصيدة يعبر مباشرة عن الوعي القومي، وهو بمثابة الاعتراف بالشراكة بين المتكلم والمخاطبين بين الشاعر والقراء، وهو اعتراف شديد الخطورة، من الدرجة الأولى، لأنه يقع على النفس ويكشف عن المشاركين، وهو يحمل منطقياً بطريقة محكمة مبرراته المعقولة، فاذا كان هناك من شيء حقيقي مشترك بين العرب المسلمين فهو تاريخهم الذي يسجل بداية حضورهم على مسرح الحوادث، وهو تاريخ مشاكل تماماً لما يحدث الآن من فتنة وجرائم.
ثانياً: لا يتوسط الخطاب في اختيار مفرداته الساكنة، بل يبلغ أقصى حدته ومبالغته التعبيرية. فالشعب العربي لم يرهق عبدالناصر بمسؤوليته، بل قتله واغتاله وذبحه، وهذا الزعيم ليس مجرد حاكم مثل الآخرين، بل هو نبي، على وجه التحديد بديل لآخر الأنبياء. اختيار الكلمة الشعرية المستفزة المثيرة لأعمق مكنونات النفس الجماعية صنعة واعرة، فهناك في الثقافات الغربية يتحدثون بشكل طبيعي عن "قتل الأب" كمركب نفس، اما قتل النبي فهو مركب انثروبولوجي مختلف وصاعق، تبوء بإثمة الجماعة الى يوم القيامة. كيف يتأتى للشاعر ان يتخذ هذا الوضع من تفعيل الموروث الديني الحيّ وهو يجرحه برفق في الآن ذاته؟
ثالثاً: يوظف الشاعر بطريقة منظمة خاصية جوهرية في الشعر العربي، هي التكرار المتراكب، ونعني به الاضافات المتتالية للكلمات والصيغ بما يسمح بتأكيد المقول من ناحية وتجاوزه بالتنمية من ناحية ثانية فعندما يتكرر الفعل الاول - قتلناك - يعني نفي المجازية عن الصيغة الاولى، ومن ثم تصبح مفردات: الاغتيال والذبح تراكباً تكرارياً. وعندما ينتقل في مضمار المقدس من الانبياء الى الصحابة والاولياء والأئمة فانه يؤكد ويتجاوز بذكر وقائع محددة في الزمان والمكان.
رابعاً: يتم إشباع توقع القراء بالقرار الموسيقي المعتمد على التوازي والتكرار بشكل منتظم، فالقوافي: أنبياء، اولياء، عشاء، كربلاء كافية بامتدادها لتحقيق هذا الاشباع، وتكرار "كم" الدالة على الكثرة وعلى هامش التعجب، وتوازي الصيغتين الختاميتين: تاريخنا... أيامنا بما يستخلص العام من الخاص، وينتزع الحكمة من التاريخي بأسمائه المنقوشة في الوجدان الجماعي، كل ذلك يشعل البيانات الجمالية للنص حتى تصبح ملموسة في متناول يد جميع القراء، يتذوقونها باستمتاع، وينفعلون لها باستغراق.
وما دمنا نتحدث بمناسبة هذا المقطع عن معجم نزار قباني الشعري في حدته وسخونته واختياراته الفائقة التأثير، فلا بد ان نشير الى تهمة رددها كثير من النقاد عن محدوديته وضيق مساحته، لأن البحث الأسلوبي الاحصائي الذي يتذرع بوسائل القياس الكمي لمدى تنوع المفردات قد أثبت ان نزار قباني من اكثر الشعراء العرب المعاصرين اتساعاً وتنوعاً وخصوبة في معجمه، وسوف يتأكد ذلك بشكل قاطع عندما تنشر البحوث التي يجريها بعض تلامذتي في آداب عين شمس عن هذه الظواهر الاسلوبية، لكن ما يعنينا الآن فيها هو هذا الوهم الذي تخلفه في نظر القراء من انها محدودة، وفي تقديري ان "خداع الحدس" في هذا الصدد يعود الى البروز الشديد واللمعان المعشى لبعض المفردات الشعرية التي يتكئ عليها نزار في مساراته العديدة بما يخطف انتباه القراء وينحصر في ذواكرهم، مما يعد مؤشراً ايجابياً على نجاح تواصله الجمالي مع جمهوره. ولننتقل بسرعة الى مرثية اخرى أقل سياسة وأجمل شعراً، تلك التي خاطب بها طه حسين إثر موته في عام العبور قائلاً:
ضوء عينيك... أم هما نجمتان
كلهم لا يرى...
وأنت تراني
لست أدري من أين أبدأ بوحي
شجر الدمع شاخ في اجفاني
كتب العشق يا حبيبي علينا
فهو ابكاك مثلما ابكاني
... ... ...
ارم نظارتيك، ما أنت أعمى
انما نحن جوقة العميان...
وإذا كنت في دراسة سابقة لشعر نزار قباني قد انتهيت الى تحديد الخاصية الاستراتيجية المهيمنة على كل مستوياته، وهي الاغراق في الحسيّة فانني اضيف اليها الآن ملمحاً بارزاً يتمثل في الشجاعة الواضحة في الاستثمار الجمالي للنزعة الحسية هذه، لا يخفيها ولا يتوسل غيرها. سواه من الشعراء يتفادون تبئير رؤيتهم عند عيني طه حسين، لكن نزار، مثله في ذلك مثل كل قراء العربية، الذين ينطق بلسانهم، لا يرون سواها. وهو يلعب عليها بمفارقة قريبة ميسورة، لكنها جميلة مقبولة. ولولا شيخوخة شجر الدمع التي تذكرك بمحالات الاستعارة عند أبي تمام لكانت هذه المقاطع من أعذب ما كتبت في المرثيات الحديثة، لكن تأمل معي فعل الطلب في هذا البيت الاخير "ارم نظارتيك" كي يخلص منه الى اتمام مفارقة العمى والبصيرة بلسان الجمع العربي حتى تدرك حركية المشهد وخطابيته، وسهولة تأثيره في المتلقى بوضعه الاستفزازي الطريف.
بقي من العناصر التداولية التي لم نختبر اثرها في شعرية نزار عند تمثيله الخطاب القومي عنصر المكان، فهو المتمم للضمائر والزمان والفضاء الوجداني المشترك، اذ لا يقل اهمية عنها في تكييف الخطاب الشعري وتحديد ابعاده، بل هو الذي سيشكل رؤية الشاعر في الآونة الاخيرة عند مقامه في المهجر ويغلق الدائرة التي بدأها بقصيدته الأولى المكتوبة في زيارة عابرة - غير مقيمة - الى لندن.
وسنأخذ نموذجاً لهذا العامل قصيدته المدوية اللاذعة "متى يعلنون وفاة العرب" اذ ان عنصر المكان فيها هو المهيمن على منظورها الشعري بالرغم من اعتمادها على صيغة الاستفهام الزماني، وعندئذ نلاحظ على الفور عدة اشياء لافتة:
فهي أولاً تشير الى مسافة بارزة من التباعد المقصود عن موضوعها، يتجلى في تقنية مزدوجة تعتمد على تضخيم الذات الشاعرة فردياً وتقزيم الآخر الجماعي، تصبح "الأنا" في كفة تعدل، ان لم ترجح، جميع العرب الآخرين الذين يخرج بهم في غياهب الغياب. يقتضي هذا خلق مسافة اخرى وجدانية يتحول فيها التوحد والتماهي مع القوم الى السخرية المريرة منهم، بل والنفي الشديد لوجودهم عندما يفترض تحولهم الى جثة تنتظر من يعلن نهايتها في الوقت المناسب، وفي تقديري ان مقام الشاعر الطويل بين الغرباء، وامتصاصه التدريجي لسمومهم العنصرية المبثوثة في كل ذرة من وجودهم، وحماسه اللاهب المثالي لفكرة التحولات الحضارية بالطفرة المفاجئة، وانسلاخه الشديد عن ايقاع الحياة في داخل الوطن العربي بحركته البطيئة الموجعة، كل ذلك هو الذي نقله من ممثل للخطاب القومي العربي الى شاهد على تفككه، يائس من اعادة بنائه، نادب على خسارته وهو يقول:
أنا منذ خمسين عاماً
أحاول رسم بلاد تسمى - مجازاً - بلاد العرب
رسمت بلون الشرايين حيناً
وحيناً رسمت بلون الغضب
وحين انتهى الرسم، ساءلت نفسي:
إذا أعلنوا ذات يوم وفاة العرب...
ففي أي مقبرة يدفنون؟
ومن سوف يبكي عليهم؟
وليس لديهم بنات... وليس لديهم بنون
وليس هنالك حزن
وليس هنالك من يحزنون؟
ومع ان الشاعر يتكئ بالضرورة على التسميات المجازية للعروبة وأمكنتها، لا بالمعنى الذي يقصده في هذا الخطاب من نزع الملكية وتسليم قيادتها للقوى العالمية المسيطرة، وانما بمعنى رصد تحولات منظومة القيم العربية في التحرر والتقدم والحضور العالمي، وهي المنظومة التي لم تكف عن التبلور في الخطاب القومي الجديد، خطاب "ما بعد الكولونيالية"، مع انه يفعل ذلك بدأب اسطوري مدهش، إلا ان وهن الجسد الشعري لنزار، ومرارة الروح التي تعصف احياناً بلفتة، تلف قصائده احياناً بهذا الرذاذ الطفيف، المضمخ دائماً بعطر العشق، وشبق الممارسة. لكنه يبقى على رغم من ذلك نموذجاً للشاعر الذي صدق قومه، ورأى معهم وتقدم خطواتهم، والتفت يقرعهم عندما توانوا عن ملاحقته لأنهم لا يستطيعون نقل خيامهم كي يزرعوها في "الهايدبارك"، فلا بد ان يقيموا جنتهم على ارضهم الشاعرة الغالية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.