إن مقالة السيد جاد الحاج التي نشرت في الصفحة الاخيرة من "الحياة" عدد 23 شباط/ فبراير 1998، تعليقاً على الحفل الذي أقمناه بمشاركة الموسيقار فوزي سايب في بيروت مساء 21 شباط، تستدعي بنظرنا رداً على شكل تعليق نقدي يتناول نصاً استنقادياً تضليلياً في ميدان الموسيقى. لا مشكلة في ان تنشر الصحف العربية انطباعات المتمثقفين من غير الملمين بالمفاعيل الموسيقية حيال الاعمال الموسيقية، فيكتبون مثلاً: "لا أحبّ سماع فلان...". لكن ان تتغلّف تلك الآراء بمظاهر النقد الفني الموسيقي من خلال استخدام عبارات "طنانة" قد تبدو للقارئ وكأنها مفردات تقنية موسيقية فعلية توهم بأن مستخدمها ضليع في ميدان الصنعة النغمية، فتخوّله إطلاق الاحكام المنهجية والتأريخية العامة وتلفيق الوقائع، وصولاً الى اعتبار الذواقة في احد البلاد العربية انهم في غاية السذاجة، وذلك على متن صحيفة محترمة يقرأها مثقفو الوطن العربي، فإن ذلك يستتبع أكثر من ملاحظة صوناً لمصداقية خطاب أهل الضاد في المجال الموسيقي. أولاً - اختلاق الوقائع: لجأ السيد جاد الحاج الى تحوير الوقائع الموضوعية، إذ قال: "كي تتحوّل مهارة عازف مدعاة لصلب أربعمئة ضحية قعوداً..." وذلك في حين ان قاعة الأسمبلي هول في الجامعة الاميركية في بيروت كانت مكتظة في تلك الامسية بالناس أي أن عددهم تجاوز السبعمئة والخمسين - راجع تقرير الناقدة عناية جابر في جريدة "السفير" في 23 شباط - وقد عبّر السامعون بحرارة فائقة عن غبطتهم من خلال التطييب والتصفيق في مراحل النشوة الإطرابية والوجدية المتكررة والناتجة عن العزف، وقد حيّوا فوزي سايب ونداء ابو مراد وعلي وهبي وقوفاً وتصفيقاً طويلاً في نهاية الحفل. ولا أظنّ بأن مثل هذا الجمهور اللبناني الرائع "مازوشي" فيستلذّ عذاب صلبه قعوداً ويشكر صالبيه بمثل هذه الحماسة على تسببهم بآلامه. ويبدو ان "الزيق" في الواقع قد صدر عن نشاز نقدي مثير حقاً للاستغراب. ثانياً - الجهل الموسيقي: قد نسلّم جدلاً بأن السيد الحاج في عجالة استنقاده يبرر التزوير المذكور بحاجة ملحة الى تبسيط كاريكاتوري للأمور، وصولاً الى "توعية القارئ". لكنه في نهاية حديثه يتكلم عن "الارتباك الثقافي المرتبط باختلال القيم". فهل الكذب اصبح قيمة ثابتة في معجم السيد جاد الحاج؟ ولو تغاضينا عن ذلك مرتقبين تحصيل معلومات موسيقية مثيرة تثبت خطأ الناس الذين يحبون فنّ نداء ابو مراد وضلالهم، لوجدنا المعطيات الفنية التي "يكشف عن اسرارها" السيد الحاج مثيرة... للشفقة! فالسيد جاد الحاج - في مرحلة تغليف كلامه بمظاهر العلم الموسيقي - يحاول أولاً ان يتحدث عن نداء ابو مراد وكأنه اجرى في الحفل المذكور "مقاربة ادائية للمقامات التركية ياكاه" بحسب قوله، في حين ان لا وجود لمصطلح "ياكاه" بالألفين في الموسيقى، بل ان لفظة "يكاه" بالألف الواحدة تعني باللغة الفارسية "الدرجة الاولى" في السلّم الموسيقي، وهي ايضاً - واستطراداً - اسم لأحد المقامات في النطاقين التركي والعربي. ولا ندري كيف يجعل السيد جاد تلك التسمية الجزئية والمحصورة شاملة بكل النظام المقامي التركي، وكيف يختزل مجمل العزف العربي وكأنه عزف لمقامات تركية. وإن كانت بعض التسميات مثل لفظة "حجاز" العربية و"سيكاه" الفارسية... مشتركة بين الايرانيين والاتراك والعرب فان ذلك لا يعني ان المسمى واحد وان العرب يعزفون تركياً بمجرد ولوجهم لمقامات اسمها أعجمي، وهي في الواقع مقامات عربية من حيث معيوشها الموسيقي وبالمقابل فالاتراك لا يتعرّبون موسيقياً حينما ينغّمون في مقام "حجاز" لمجرد كون "حجاز" لفظة عربية. وعلى كل حال فإننا لم نستخدم في حفلتنا المذكورة اية جملة موسيقية قد تنضوي تحت لواء مقام "يكاه". ويبدو ان الزميل نصير شمة أعلن انه عزف في حفلته البيروتية منذ سنة مقاطع من مقام "يكاه" فسمعه السيد الحاج و"استنتج" من جراء ذلك ان كل المقامات العربية والتركية هي "ياكاه" كما يطلق الهنود على مقاماتهم تسمية "راجا" أو "راغا". فتخيّلوا ان يكتب احد المثقفين: "إن كل الشعر العربي منظوم على بحر "الطاويل" الأفغاني لأن الأفغان طوال القامة"! لكنه أمر مستحيل في مجال الادب العربي، فهل ان حرمات الموسيقى مستباحة الى هذه الدرجة؟ ولا يكتفي السيد الحاج بهذا القسط من "عدم الدراية"، إذ يحاول ان يقارن بين اداء الزميل العوّاد نصير شمة وبين اداء نداء ابو مراد الكماني، وكأن نهجيهما واحد، في حين ان نداء ابو مراد ونصير شمة متفقان على التباين في النهج الموسيقي بينهما وعلى عدم الجدوى في المقارنة بين نتاجهما. ونصل الى الذروة حين يظنّ جاد الحاج انه يحطّ من قدر أداء نداء ابو مراد الموسيقي اذ يقول: "بل تراه يكاد يحوّل آلة الكمان الى ربابة كي يستمد منها ما ليس فيها في الاساس". وهو لا يعلم انه يمدحنا في ذلك اذ ان جل ما فعلته المدرسة الكمانية العربية التي ننتمي اليها عزفاً وتجلياً - الا وهي مدرسة حسن الجاهل وابراهيم سهلون وانطون وسامي الشوا في عصر النهضة العربية - هو انها اقتبست وطوّعت آلة "الفيولون" الاوروبية وحوّلتها - من خلال عزف نغمي عربي بجدارة وبصفاء - الى "كمان"، أي إلى آلة شرقية من حيث العزف، وهي بذلك ردّت تلك الآلة الاوروبية الى أصلها العربي وهو الرباب مثل الجوزة العراقية او الرباب الأندلسي. واننا في عزفنا نُنسي السامع انه يستمع الى آلة غربية فيشعر بأنه في حضرة النغم الشرقي على آلة عادت الى مشرقيتها، في حين ان هناك من يحوّل آلة العود من خلال عزفه المتغرّب الى آلة "تطنّ" وكأنها جيتار او ماندول. وهو خيار آخر نحترمه. لكن يبدو ان فكرة تعريب "الفيولون" لا تروق لجاد الحاج. ويتابع السيد جاد تنظيره في الموسيقى قائلاً: "فالمقام في أصوله عود وإيقاع ومنشد وتخت اقلّه خمسة عازفين". ويُثبت من خلال ذلك عدم فهمه لمعنى المقام، كمن يقول: "اللغة العربية في أصولها قلم وحبر وقرطاس"! في حين ان المقام هو المنظومة اللغوية النغمية التي تتألف وتتآلف الالحان العربية المشرقية من تسلسل درجاتها السلمية المقامية. ونظن بأن السيد الحاج يقصد في ذلك ان الاداء العربي التقليدي يرتكز على عود وايقاع وتخت... في حين ان تجربتنا الموسيقية تستلهم روح المقام ولا تسجن نفسها في حرفية التقليد التراثي، وهو على نقيض ما حاول شرحه السيد الحاج وهو يتخبط في لجج مفاهيم لا يدرك فحواها ولا يسيطر على مقاديرها. ثالثاً: الاستهتار بذوق ذواقة لبنان: ولا يكتفي السيد جاد الحاج بهذا القسط من "التذوق" بل انه يقوم باعلان اعتباره مجمل الذواقة اللبنانيين جهلة من حيث تبنيهم لنداء ابو مراد "ظاهرة" ومثالاً للابداع الموسيقي "في مجتمع ما بعد الحرب" فيقول: "حيث تنتفي المرجعيات ويتبدد التراكم الذوقي"... فهل يعني بذلك أن علمه الموسيقي "الياكاهي" هو البديل عن المرجعيات المنتفية، وان حدسه الفني بات هو الملجأ حيال الذوق المتبدد؟ وهل يعتقد - بعد "حدث" 21 شباط في الأسمبلي هول - ان الحضور الذين "صلبهم" جاد الحاج والذواقة الذين ازدراهم في نصّه العتيد سيصدّقون في المستقبل كتاباته؟ لا بدّ ممّن يقول اخيراً لجاد الحاج ان لا ضرورة لتضحياته الكريمة.