لا بدّ ممن يقول أخيراً لنداء أبو مراد ان تجواله "النغمي في حدائق مقامات الموسيقى العربية الكلاسيكية" ناهيك عن وعود التجلّي والانتقال الروحي وما اليها من عبارات متأدبة يطالعنا بها كلما جاء يقدم احدى حفلاته، لا تتحقق إلا في فرضيات ذهنية وطروحات انشائية كالتي تكرّم بها ممثل النادي الثقافي العربي خلال تقديم سهرة أول من أمس على مسرح اسامبلي هول في الجامعة الأميركية في بيروت. وبعد خطاب النادي اتحفنا نداء نفسه بخطاب آخر قال فيه انه سيقدم السهرة لذكرى خمسة أشخاص في مقدمهم ميخائيل نعيمة ؟ كما أشار انه والعوّاد التونسي فوزي سايب سيرتجلان ما تجود به القريحة من دون تحضير مسبق، يرافقهما علي وهبي على الرّق. وكان متوقعاً ان يؤدي ذلك الارتجال الى نقلنا - نحن جمهور بيروت المتعطشة الى كل شيء جميل، المتمظهرة من أجل ان تبدو جميلة بأي ثمن - نقلنا الى رحمة عالم سحري سوف ينسينا جلودنا وأجسامنا، وبناء عليه ربطنا أحزمة الأمان مستعدين للاقلاع. زيق زيق زيق، طن طن طن... مقام! "فَش قام؟" يقول التوانسة تعبيراً عن تساؤل حاد حول أمر مرفوض، "فَش قام؟"، كي تتحول مهارة عازف مدعاة لصلب أربعمئة ضحية قعوداً، ما بقي لديهم، من شدة ما خضعوا للانقطاع وعدم التواصل وأصابهم التجهيل، سوى ان يعتبروا "الزيق والطن" أصولاً وأصالة ما دام الدكتور نداء دكتوراً فيهما. في الواقع لا شيء جديداً أو مثيراً أو جذاباً في مجرّد أداء مقاربة للمقامات التركية ياكاه كما سبق أن أشبعها مقاربات الموسيقي العراقي نصير شمة. ونداء أبو مراد لا يصيب جزءاً مما أصابه شمة. بل تراه يكاد يحوّل آلة الكمان الى ربابة كي يستمدّ منها ما ليس فيها في الأساس، فالمقام في أصوله عود وإيقاع ومنشد وتخت أقلّه خمسة عازفين، وما استطاعه نصير شمة في اختراق التركيبة الأصولية فرادة مغلقة استمدت تميزها من مناخ ثقافي عام، لا أثر ولا رافد له في بيروت ما بعد الحرب الأهلية. صراحة ما يقدمه نداء أبو مراد لا يتعدى شطارة متواضعة في أقصى الاحتمالات، وما تحويلها الى "ظاهرة" سوى جزء من الارتباك الثقافي المرتبط باختلال القيم في مجتمع ما بعد الحرب، حيث تنتفي المرجعيات ويتبدد التراكم الذوقي، ويبدو الجديد المدعي "روعة" لأن الجمهور يعاني حال عطش الى أصالة ضائعة.