تقع مدينة عانة على الضفة الغربية لنهر الفرات، وتبعد عن بغداد بحوالى 350 كلم إلى الشمال الغربي منها. وهي من المدن التاريخية القديمة المهمة، إذ ورد اسمها في النصوص المسمارية وذكرت بهيئة "خانات" Kha- na-at، وكانت مركزاً مهماً من مراكز الدولة الآشورية في أعالي الفرات، وعرفت بأنها أحد معسكرات هذه الدولة التي أنشأها الملك الآشوري توكولتي ننورتا الثاني 890-884 قبل الميلاد. ويذكر تافرنيه في كتابه "العراق في القرن السابع عشر" أن كلمة عانة وردت في الكتابات الاغريقية بلفظة "أناتا"، و"آنات" بالكتابة التدمرية، و"عانات" بالسريانية، و"عانات" أيضاً باللغة الآرامية، إذ تعني بهذه اللغة "بيت المعز". وجاء في كتاب "المنازل الفرثية" باللغة اليونانية لأسيدورس الكرخي الذي يعتبر أقدم رحالة زار العراق، وهو أيضاً أحد قدماء المؤلفين الذين عاشوا في القرن الأول قبل الميلاد، حول عانة: "إنها مرحلة مهمة على الفرات بين المنازل الفرثية". ولأهمية المنطقة بنى مُعين، أحد امراء المناذرة، ديراً ترهب به لفترة تقدر بسبع سنوات، وذلك في عهد الملك الساساني سابور الثاني 309-379م. ويذكر موسيل في كتابه "الفرات الأوسط": "نظراً إلى أهمية منطقة عانة وموقعها الحصين، فقد مرّ بها القائد الروماني تراجان سنة 155م. ويبدو ان الامبراطور الروماني جوليان كان قد حاصر منطقة عانة سنة 363م وأحرقها وهرب أهلها منها، وان سفن الامبراطور قد غرق قسم منها لاصطدامها بموانع حجرية في نهر الفرات". وذكرت عانة في كتابات الكثير من المؤرخين والرحالة العرب الذين وصفوها وصفاً جغرافياً دقيقاً، منهم ابن حوقل في كتابه "صورة الأرض"، إذ يقول: "إنها مدينة في جزيرة قد أحاط بها الماء، وقرية حسنة". وجاء في "معجم البلدان" لياقوت الحموي: "إن عانة تعني جماعة من حمر الوحش. وعانة: بلد مشهور بين الرقة وهيت يعد في أعمال الجزيرة، وجاء في الشعر عانات كأنه جمع بما حوله، ونسبت العرب إليه الخمر. وهي مشرفة على الفرات قرب حديثة النورة وبها قلعة حصينة، وقد نسب إليها يعيش بن الجهم العاني، ويُقال له الحدثي أيضاً. وقال محمد بن أحمد الهمذاني: كانت هيت وعانات مضافة إلى طسوج قضاء الأنبار، قلما ملك "أنوشروان" بَلغه أن طوائف من الأعراب يغيرون على ما قرب من السواد السهول الخضراء إلى البادية فأمر بتجديد سور مدينة تعرف بآلوس كان سابور ذو الاكتاف بناها وجعلها مسلحة نقطة حراسة لحفظ ما قرب من البادية، وأمر بحفر خندق من هيت يشق طف البادية إلى كاظمة مما يلي البصرة وينفذ إلى البحر وبنى عليه المناظر والجواسق ونظمه بالمسالح ليكون ذلك مانعاً لأهل البادية عن السواد، فخرجت هيت وعانات بسبب ذلك السور عن طسوج شاذ فيروز لأن عانات كانت قرى مضمومة إلى هيت". وجاء في "المرشد إلى مواطن الآثار والحضارة" لطه باقر وفؤاد سفر: "إن اسم عانة على ما يظهر يعتريه بعض الغموض ولا يعلم معنى اسم عانة على الوجه الدقيق، وهل له صلة باسماء آلهة عبدها الساميون في بلاد الشام. وهل ان هذه الآلهة كانت قرينة الاله السامي "أيل". وأرض عانة محصورة بين نهر الفرات ومجموعة التلال المخيمة على ضفة النهر، وتكثر في هذه المنطقة أشجار النخيل والفواكه، وتتبع عانة منطقة قديمة تعرف باسم جزيرة "لباد"، التي تتكون أرضها من تلال تتخلها بعض الوديان الضيقة التي تحيط بها من الجهتين الغربية والشرقية وتؤلف منطقة منيعة بحكم موقعها وطبيعة أرضها. فهي قريبة من بادية الجزيرة المحصورة بين نهري دجلة والفرات. ويعتبر موقع عانة من المناطق الاستراتيجية المهمة التي تربط العراق ببلاد الشام". وجاء في كتاب "الخراج" للقاضي ابي يوسف: "ان خالد بن الوليد كان قد مرّ على عانة وهو في طريقه إلى بلاد الشام لنجدة الجيش الإسلامي بقيادة ابي عبيدة الجراح. ويبدو أنه قد حاصرها وحاول فتحها، فطلب حاكم عانة الصلح فصالحه واعطاه ما أراد على أنه لا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة واشترط عليهم ان يضيفوا المسلمين ثلاثة أيام". وجاء في "الكامل في التاريخ" لابن الاثير: "ان عانة كانت خاضعة إلى الدولة العباسية، وكان المتوكل العباسي قد ضمها إلى ولده المنتصر بالله مع المقاطعات الأخرى بما فيها الثغور الشامية والجزيرة وديار مصر وربيعة والموصل وهيت والأنبار والخابور وكذلك افريقيا والمغرب". ويذكر القزويني في كتابه "آثار البلاد وأخبار المعارف"، وكذلك المعلم بطرس البستاني في "دائرة المعارف": "ان عانة استخدمت في ما بعد معتقلاً في العهد العباسي وذلك لبعد المنطقة عن العاصمة العباسية بغداد، وكذلك لطبيعة موقعها الحصين". وجاء في "الكامل في التاريخ" أيضاً "ان عانة خضعت للحكم الأتابكي حيث سير أتابك زنكي عسكراً إلى مدينة عانة فملكوها". وحظيت مدينة عانة باهتمام الرحالة الأجانب في تجوالهم في بلدان الشرق الأدنى وتكلموا عن موقعها وطبيعة أرضها، منهم الرحالة والمستشرقة الانكليزية المس بيل التي زارتها العام 1908م وتكلمت عن جزيرتها الحصينة وما تحتويه من آثار وأشجار النخيل والفواكه، ثم أشارت إلى بيوتها وبعض خرائبها القديمة واثارها البارزة ومنها مئذنة عانة الشهيرة. أما أشهر المعالم الاثرية والعمرانية في مدينة عانة فهي: من أهم المعالم الإسلامية البارزة في مدينة عانة مئذنتها الشهيرة. وكانت تقع في جزيرة لباد المعروفة بجزيرة القلعة الواقعة وسط نهر الفرات أمام بلدة عانة الحالية، وذلك قبل أن يتم نقلها إلى موقعها الجديد قرب مدينة الريحانة عانة الجديدة للمحافظة عليها. وتعتبر هذه المئذنة من المآذن الجميلة بتصميمها المعماري المتميز. أما تاريخ بناء المئذنة فغير معروف ويعتريه بعض الغموض، ولم تذكر المصادر التاريخية شيئاً عن ذلك، وليس فيها وفي أطلال مسجدها كتابة تذكارية تشير إلى تاريخها. واستناداً إلى عناصرها المعمارية ومقارنتها بالعناصر المعمارية في مشهد الإمام محمد الدري في مدينة الدور ومشهد الأربعين في تكريت، يمكن ان تنسب المئذنة إلى الربع الأخير من القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي. تهدم المسجد الذي انشئت له هذه المئذنة وتحول إلى ركام، ولكن بعد التحري عن الموقع تكشفت بقايا جدرانه وعلى ذلك رسمت صورة تخطيطية له. تتميز مئذنة عانة بشكلها المثمن المنشوري الذي يجلس على قاعدة مربعة الشكل وجسمها ورقبتها مثمنان أيضاً ورشيقان. يبلغ ارتفاعها عن مستوى سطح الأرض 27 متراً، يخترق جسمها سُلّم حلزوني يؤدي إلى حوضها. وهي مشيدة بالحجر غير المنتظم الأبعاد والجص، وكُسيت بالجص أيضاً. وجسم المئذنة مقسم عرضياً إلى ثمانية أقسام، يشغل كل وجه من الوجوه الثمانية في الأقسام الثمانية، نافذة مرتبة فردية وزوجية بالتناول عقودها مفصصة، وتمتد هذه التشكيلة إلى الرقبة. وتتميز عقود الأقسام بكونها مدببة في صف ونصف دائرية في الصف الآخر. أما قمة المئذنة فهي أصغر حجماً من جسمها وتغطيها قبة صغيرة الحجم. ونظراً إلى وقوع مئذنة عانة الأثرية ضمن منطقة الغمر، فقد تمت عملية نقلها كما أشرنا وذلك بعد تقطيعها. مسجد الخليلية ومئذنته المثمنة هذا المسجد لم يبق منه اليوم سوى بعض خرائبه ومئذنته المثمنة التي تشبه مئذنة عانة إلى حد بعيد. ويقع على وجه التحديد قرب الضفة اليسرى لنهر الفرات على مسافة 8 كلم تقريباً إلى الجنوب الشرقي من عانة. ومن المحتمل ان هذه المنطقة التي يقع فيها المسجد ربما تعود الى عانة أو قد تكون امتداداً لها على الضفة المقابلة من الفرات، إذ أنها امتداد في السكن لجزيرة "تلبس" التي كانت موقعاً حصيناً خلال العصور القديمة. ومن خلال التنقيبات الاثرية في المواقع التي تحيط بمسجد الخليلية عثر على بعض اللقى التحف الاثرية المنتشرة على السطح، ويستدل من ذلك على ان الموقع كان مستوطنة كبيرة في عصور إسلامية مختلفة. وما تزال بعض أسس هذا المسجد وبقايا جدرانه المشيدة بكسر من الحجر غير المنتظم والجص ظاهرة في الموقع. لم تذكر المصادر التاريخية شيئاً عن مسجد الخليلية، ولكن من خلال التنقيبات الاثرية تبين ان مخططه على شكل مستطيل تقريباً، طول ضلعه الشرقي 17م والشمالي 80،10م وطول ضلعه الغربي 10،11م، وينحرف هذا الضلع بزاوية قائمة إلى الناحية الشرقية بمقدار 50،3م فيؤلف قاعدة المئذنة ثم ينحرف بزاوية قائمة أخرى نحو الجنوب أي نحو جدار القبلة بطول 35،6م. ويضم جدار القبلة بقايا محراب يقع في منتصفه تماماً، وعرضه 82 سم وعمقه 03،1م بهيئة نصف بيضوي. وارتفاع بقايا جدران المسجد الأربعة تتراوح بين 30سم و60سم وسمكها 33سم، أما مدخله فيقع في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد ويبلغ عرضه 86سم. وتدل بقايا العقود المتساقطة من المصلى على أن عقوده كانت مشيدة من كسر الحجر والجص. وقد سقط هذا السقف بمرور الزمن نتيجة عوارض طبيعية وبسبب عدم الصيانة. ومن الآثار الباقية للمصلى يستدل على أنه كان يحتوي على رواقين، ويبدو ان المسجد توسع في ما بعد، فاضيفت إلى قسمه الشمالي ساحة مربعة طول ضلعيها 10مx80،10م. أما مدخل المسجد فيقع في هذه الزيادة في الزاوية الجنوبية الغربية. ومئذنة مسجد الخليلية ما زالت بقاياها قائمة إلى اليوم وتقع في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد وتحتل طرفاً صغيراً منها. وشيدت بكسر الحجر والجص على غرار مئذنة عانة، وتتألف من قاعدة مثمنة طول كل ضلع منها 25،1م، ويحيط بقاعدتها من الخارج غلاف على شكل مكعب ارتفاعه 50،1م وطول ضلعيه 30،3مx05،3م. ويرتفع على هذه القاعدة جسم المئذنة المثمن ويتألف كل وجه من أوجه هذا المثمن من مستطيلات بشكل مشاكٍ غير نافذة، وفي داخلها عقود نصف دائرية. أما ارتفاع بقايا هذه المئذنة في الوقت الحاضر فيبلغ 45،6م. وسُلّم مئذنة الخليلية يقع في داخلها، وهو على شكل عمود مربع الشكل طول ضلعه 44سم ويدور حولهُ سُلم حلزوني على غرار سُلم مئذنة عانة. جامع مشهد يعتبر هذا الجامع من المباني الاثرية في عانة، ويبعد حوالى 7كلم غرب مدينة راوة. ويشتمل على بقايا مسجد، فيه عدد من القباب شيدت في مراحل زمنية مختلفة، مثل قبة عماد الدين زنكي التي بنيت العام 589ه وقبة أبو ريشة والقبة العثمانية. وقامت المؤسسة العامة للآثار والتراث بترميم وصيانة هذا الجامع، كما اعيد بناء بعض جدرانه، وتم ترميم أرضية القبة العثمانية والأقواس المقابلة للمحراب وتقوية أسس القبة العثمانية بالخرسانة وكسوتها من الخارج والداخل بالجص. ومن المواقع الأثرية الأخرى المحيطة بمدينة عانة: "خربة الدينية" الواقعة إلى الشمال الغربي من عانة على بعد 35كلم تقريباً، ويرجح ان البابليين بعد عصر حمورابي هم الذين أسسوها. وكذلك موقع "كفرين" الذي يبعد حوالي 15 كلم إلى الجنوب من عانة على الضفة اليسرى لنهر الفرات، و"حويجة الكرابلة" التي تقع في وسط نهر الفرات إلى الشمال من عانة بحوالى 3كلم، و"جزيرة تلبس" على بعد 12كلم إلى الجنوب من عانة. * باحث في العمارة الإسلامية من العراق.
