لا أحد في موقع يُحسد عليه في المعركة الجارية على مكانة دولة فلسطين في الأممالمتحدة. الكل في إحراج والبعض في معضلة مكلفة. كبيرة المُحرَجين هي الولاياتالمتحدة، وأكبر الخاسرين هما فلسطين وإسرائيل معاً – إذا أُسيء التصرف أو خسرت الرهانات. أوروبا بدورها لا تُحسَد لأنها تقف على حافة الازدواجية السياسية والأخلاقية. الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون يقع تحت الرقابة المشددة الآن وعليه أن يثبت ان مسيرته نحو الحق والعدالة والحرية تُطبّق أيضاً على فلسطين، لا سيما انه جعل من تلك المسيرة شعار حملته الانتخابية لولاية ثانية عندما تبنى «الربيع العربي» وراهن عليه. رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يقع في غاية الإحراج بعدما امتطى حصان زعامة القضية الفلسطينية الى عقر دار جامعة الدول العربية هذا الأسبوع لينافس قيادات عربية تريد لنفسها زعامة القضية الفلسطينية لغايات مماثلة تقع في خانة الطموحات الشخصية أو الوطنية. العرب كافة يتربعون على الإحراج لأنهم أصحاب وعود وتعهدات لكنهم إما يتوقفون عند الوعود والتعهدات أو ينفذونها مرحلياً وموقتاً. رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قد يكون الرجل الجالس على قمة هرم الإحراج وصعوبة القرار. أما رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو فليس في موقع يُحسَد عليه على رغم هرولة الغرب الى إنقاذه من ورطة دولة فلسطين. فهو حشر نفسه في التهديد بالانتقام حتى من مجرد الاعتراف بدولة فلسطين عبر قرار للجمعية العامة. انتقامه سيكون، حسب التهديدات التي يسربها، ممتداً من احتمال ضم الضفة الغربية عسكرياً الى احتمال رمي خيار المفاوضات في سلة المهملات. واقع الأمر انه يخاف أكثر ما يخاف ان تكون لدى دولة فلسطين إمكانية اللجوء الى آليات العدالة الدولية في وجه آلية التفوق الإسرائيلي العسكرية فيما الغرب يفاوض على حساب فلسطين وإسرائيل معاً، بدعم وبزخم من اليقظة العربية المدعومة دولياً. الشرعية الدولية حماية لإسرائيل من المحاسبة، أما الكونغرس الأميركي فلا يأبه بأي حرج أخلاقي أو سياسي أو حتى بما يهدد المصلحة الوطنية القومية الأميركية. فهو في حال إفلاس تام لا يفكر بنتائج سياساته الساذجة والمؤذية. لقد كرّس نفسه أداة لحكومة بنيامين نتانياهو وبسياسة عمياء ليست في مصلحة الولاياتالمتحدة ولا في مصلحة إسرائيل، وهو يفترض ويقنع نفسه ان قطع المساعدات المالية عن السلطة الفلسطينية يلقنها درساً ويشكل أداة ردع للفلسطينيين. حان وقت الخيارات الاستراتيجية الحاسمة للجميع. بداية الخيارات حل الدولتين، قيام دولة فلسطين الى جانب دولة إسرائيل، عبر المفاوضات الجدية والصادقة بهدف التوصل الى هذا الحل. حان زمن التدقيق في صدق الالتزام بهذا الخيار، لأن الخيارات الأخرى باتت متاحة، ليس لجهة الخيار العسكري، وانما لجهة خيار امتداد «الربيع العربي» الى فلسطين وإسرائيل معاً، بدعم وبزخم من اليقظة العربية المدعومة دولياً. واضح ان السلطة الفلسطينية عند مفترق مهم هذا الأسبوع لأن ذهابها الى الأممالمتحدة ينطوي على ضرورة الاختيار بين الاستمرار في مفاوضات عقيمة تحت عنوان «عملية سلام» عمرها عقدين لم تحقق للفلسطينيين إزالة الاحتلال، وبين مسار جديد قوامه تجميد المفاوضات كأمر واقع وتبني الأسلوب الإسرائيلي القائم على بيع كلام معسول نحو مبدأ المفاوضات مقترناً بإجراءات عملية تفرض أمراً واقعاً تلو الآخر يلغي منطق التفاوض. الولاياتالمتحدة معنية مباشرة بمثل هذا الخيار لأنها نصّبت نفسها الوكيل الأول ل «عملية السلام» ولمصير النزاع العربي - الإسرائيلي. حقيقة الأمر ان الولاياتالمتحدة كانت دائماً وسيطاً غريباً في هذه المعادلة، لأنها الشريك والحليف لطرف من طرفي النزاع، وبالتالي، لربما كانت دائماً المشكلة وليس الحل. وهناك اليوم من يدعو الى إخراج الولاياتالمتحدة من خانة الوسيط والراعي لعملية السلام لأنها منطقياً غير مؤهلة لهذا الدور في رأيه، وانما هي العرقلة في طريق المفاوضات طالما هي مكبلة بتحالفها القاطع مع إسرائيل. المواجهة التي قد تحصل في الأممالمتحدة في شأن عضوية فلسطين أو الاعتراف بدولة فلسطين، تضع الولاياتالمتحدة في الواجهة. انها مواجهة للسياسة الأميركية التي تضع مستقبل فلسطين في موازين التحالف الأميركي – الإسرائيلي وموازين الانتخابات الأميركية حيث إسرائيل عنصر محلي وحاسم. ولأن الولاياتالمتحدة عاجزة عن التأثير في إسرائيل، بغض النظر ما إذا كانت الإدارة الأميركية ديموقراطية أو جمهورية أو ان كانت الحكومة الإسرائيلية يمينية متطرفة أو مزيجاً من الليكود والعمل، يقول البعض أن الأوان قد حان لاستراتيجية سلمية تنطلق من اعتبار الدور الأميركي عرقلة وليس وسيطاً أو مسهِّلاً للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. إذا وقع القرار الفلسطيني على هذا الخيار، يجب أن يرافقه الوعي التام لإبعاده وإفرازاته ويجب أن تكون هناك استعدادات للتعايش معه وضمانات للبديل. فالولاياتالمتحدة، مهما تحالفت مع إسرائيل وأعفتها من المحاسبة، تبقى عامل ردع لها يُؤخذ في الحساب قبل الخوض في مغامرات عسكرية أو إجراءات قسر وإبعاد جماعي يرى بعض الإسرائيليين بأنها الحل الوحيد للمعضلة الديموغرافية داخل إسرائيل نفسها بصفتها دولة يهودية. والاستغناء عن الدور والدعم الأميركيين لقيام دولة فلسطين ليس بقرار سهل أو حكيم بالضرورة، ثم انه قد يوطّد العلاقة العضوية بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل ويحشر أميركا في زاوية عُزلة تجمعها مع إسرائيل. من ناحية البديل عن الدور الأميركي، سيكون على الفلسطينيين التدقيق في ذلك البديل، عربياً أو أوروبياً أو تركياً أو إيرانياً، إذا وقع الخيار على المواجهة والاستغناء عن الولاياتالمتحدة. فأوروبا لن تستخدم الضغوط التي تملكها مع إسرائيل، أي العقوبات الاقتصادية، وأوروبا لا تسابق أميركا على رعاية عملية السلام كما فعلت في الماضي. تركيا لن تكون قادرة على فرض الحل بالتفاوض ولن تكون جاهزة لخوض حرب مع إسرائيل من أجل فلسطين، فرئيس الحكومة رجب طيب أردوغان قد يتمتع بما يوصف به بأنه «باشا» العرب، لكنه لن يغامر بمصلحة بلاده العليا من أجل فلسطين مهما خدمت طموحاته للزعامة الإقليمية أو الزعامة السنّية، كذلك إيران فهي لن تدخل حرباً مباشرة مع إسرائيل من أجل فلسطين وستكتفي بالحروب بالوكالة عبر لبنان عندما يخدم ذلك طموحاتها الإقليمية. أما الدول العربية المتنافسة على زعامة القضية الفلسطينية، فإنها قد تتعهد بتوفير الأموال البديلة عن الأموال الأميركية – وربما الأوروبية أيضاً – لكنها لن تتبنى استراتيجية دعم مستدام لفلسطين في موازناتها السنوية. بيع الكلام سهل وله وقع منعش على الآذان إنما هذا لا يساعد الفلسطينيين في التخلص من الاحتلال ولا في مواجهته بعصيان مدني ما لم تقدم الدول العربية كفالات وضمانات بعيدة المدى وتنفذ حقاً التعهدات المكدسة بتمويل السلطة الفلسطينية. بالتالي، على السلطة الفلسطينية التفكير العميق وهي تتوجه الى الأممالمتحدة هذا الأسبوع سعياً وراء دولة فلسطين. فإذا كانت الأولوية للمفاوضات، عليها اختيار استراتيجية تحسين ظروفها في إطار التفاوض. أما إذا كان الخيار البديل عن المفاوضات قرارها، عندئذ يمكن ان تتبنى استراتيجية التصعيد والمواجهة بدءاً بالتوجه الى مجلس الأمن سعياً وراء العضوية الكاملة. فاللجوء الى مجلس الأمن يعني الطريق السريع الى الفيتو الذي توعّد به الرئيس باراك أوباما والى مواجهة مكلفة لكل من السلطة الفلسطينية والإدارة الأميركية، مع اختلاف النسب. فالفيتو الأميركي سيحصد غضباً في العالمين الإسلامي والعربي وقد يغذي الرغبة بالانتقام، عكس ما تعتقد أوساط أميركية بناءً أولاً على مرور الفيتو الأميركي الأخير على مشروع قرار المستوطنات بلا ضجة ولا انتقام، وثانياً، على افتراض انشغال الربيع العربي بالأولويات المحلية وليس بالقضية الفلسطينية، إنما ماذا بعد الضجة العاطفية دعماً للفلسطينيين واحتجاجاً على السياسة الأميركية؟ هوذا السؤال الذي لا تتوافر إجابة أوتوماتيكية عليه في هذه الأجواء. الإدارة الأميركية نصبت لنفسها فخاً في تعهدها معارضة سعي الفلسطينيين الى الاعتراف بدولة فلسطين عبر الأممالمتحدة، على رغم مخاطبة الرئيس الأميركي نفسه الجمعية العامة السنة الماضية مبشراً بقيام دولة فلسطين ومتمنياً الترحيب بها أثناء هذه الدورة. فحتى مجرد التوجه الى الجمعية العامة للحصول على قرار يصنّف فلسطين «دولة غير عضو» أو «دولة مراقبة» في الأممالمتحدة تعتبره الإدارة الأميركية مؤذياً وتحاربه باعتباره ليس أقل سوءاً من التوجه الى مجلس الأمن سعياً الى عضوية كاملة. بهذا الموقف زجّت إدارة أوباما نفسها في خانة العزلة والإزدواجية في وقت دقيق وحرج من علاقتها بالتغيير العربي. فإدارة أوباما تدفع بمحاسبة النظام الليبي والنظام السوري في المحكمة الجنائية الدولية على جرائم حرب وربما جرائم ضد الإنسانية، لكنها ترفع درع الحماية للنظام الإسرائيلي من أية محاسبة حتى بعدما أكد أكثر من منظمة حقوق إنسان أميركية دولية، وأكثر من تحقيق ان إسرائيل وحماس معاً ارتكبتا جرائم حرب أثناء عملية «الرصاص المصبوب»، في فترة طلبت السلطة الفلسطينية عام 2009 من المحكمة الجنائية الدولية التدقيق فيها. المدعي العام في المحكمة الجنائية، لويس مورينو – أوكامبو المعروف بحماسته للإدعاء على القيادات العربية في السودان وليبيا وربما سورية، أصابته نوبة صمت عندما تعلق الأمر بتجاوزات القيادة الإسرائيلية. إذا أحسنت القيادة الفلسطينية الخيار فلعلها تستفيد من «الذهاب» الى الأممالمتحدة بالكف عن كل هذه البلبلة وتناثر القرار الفلسطيني والمزايدات العربية والتركية والإيرانية عليه، وتبني استراتيجية حكيمة. مثل هذه الاستراتيجية ينطلق من البناء على الاهتمام العالمي بما ستقرره القيادة الفلسطينية في شأن مصير الدولة الفلسطينية، أولاً، من خلال تجنب مجلس الأمن في هذا المنعطف والتوجه فوراً الى الجمعية العامة بقرار يعكس اعتراف أكثر من 126 دولة بدولة فلسطين ويمهّد الطريق لانضمام فلسطين، بصفة «الدولة» المراقبة، الى المحكمة الجنائية. إسرائيل تتعهد بالانتقام من نتيجة كهذه لأنها تعتبر نفسها فوق المحاسبة ومحصنة من أية محاكمة. انما بساطة قرار كهذا ستحرجها وستقطع الطريق على استخدامها القرار حجة أو ذريعة لغايات قد تكون في ذهنها. أما إذا قررت قطع المفاوضات لأن مركز فلسطين تعزز في الأممالمتحدة من «مراقب» بامتيازات الى «دولة مراقبة» حقوقها أقل من حقوق الدولة العضو، فليكن. عندئذ تكون إسرائيل واضحة في ما تريد حقاً بدلاً من بيع كلام حل الدولتين، وسيكون على الولاياتالمتحدة عبء الاستحقاق. المسألة، في نهاية المطاف، تقع بين سعي الفلسطينيين للجوء الى العدالة في وجه التجاوزات العسكرية لإسرائيل وبين سعي إسرائيل لقطع الطريق على العدالة بإجراءات تهدد بها، وتشمل دفن خيار التفاوض وتفعيل الخيار العسكري.