كان في مقدور سعاد العامري أن تعيش وتعمل في أي مكان في العالم. بل كان باستطاعتها أن تصنع لنفسها مكانة مرموقة عبر مهنتها وثقافتها، وأن تنام على وسادة مريحة من دون خوف ولا قلق. إلّا أنها اختارت الطريق الصعب، لا لكونها تهوى تعذيب نفسها، بل لأن نداء الدم أحياناً أقوى من إغراء الرفاهية. سعاد العامري مهندسة معمارية درست في جامعة بيروت الأميركية وفي جامعتي ميتشيغن وإدنبرة. عام 1948 نزح والداها من فلسطين مع من نزحوا بسبب إرهاب العصابات الصهيونية. كانت محطتهم الأولى عمان. المحطة الثانية بالنسبة إليها، بيروت والدراسة في الجامعة الأميركية خلال السنوات الذهبية التي عرفها لبنان وعاشتها الطالبة سعاد بكل ما فيها من حرارات الكفاح ونوافذ المعرفة ووشائج الاتصال والتواصل مع تيارات الطليعة في العالم. في تلك السنوات تشربت روحها نسيم الحرية وتكونت قناعاتها وارتسمت أولوياتها بوضوح لا يقبل الشك: أنا فلسطينية، لاجئة، مسؤولة عن شرطي الإنساني وقضية شعبي. لم يكن واضحاً آنذاك أي مسار ستسلكه العامري على ضوء تلك القناعات الى أن قررت زيارة رام الله كسائحة عام 1981. تلك الزيارة أشعلت الضوء الأخضر أمامها. مواجهتها مع موظفة الهجرة والأمن في مطار اللد جعلتها تغير أمرين أساسيين في حياتها: الأول مكان إقامتها، والثاني مسارها المهني. ربما كانت سعاد العامري، إلى جانب اهتماماتها العلمية والأكاديمية تهوى الكتابة والمطالعة، غير أن الانصراف الكلي الى مهنة لم تكن تتوقعها كان مفاجأة لها بقدر ما فاجأ ذويها ومعارفها. ويبدو ذلك واضحاً في كتابها الأول بالإنكليزية: «شارون وحماتي». «تطردوننا من يافا ثم تعجبون كيف ولدنا في مكان آخر!» تلك كانت الكلمات الأولى التي خرجت من فم العامري وهي أمام ضابط الأمن في مطار اللد. لم تكن في مزاج يؤهلها للتعاطي مع الأمر بصورة أقل صراحة، إن لم نقل فجاجة. إنها الساعة الرابعة والنصف صباحاً والوقت صيف عام 1995 الحار. وبعد خمس ساعات من الطيران من لندن كانت متعبة تستعجل لقاء سائق يدعى إبراهيم مختص بنقل الفلسطينيين من اللد الى رام الله. متوترة بما فيه الكفاية وازداد توترها عندما وضعت مراقبة الجوازات ورقة زهرية اللون في جوازها الفلسطيني. اللون مهم هنا. الزهري يعني مزيد من التحقيق أما الأبيض فيعني تسهيل المرور من دون إعاقة: «آه كم كنت بحاجة الى ورقة بيضاء هذه المرة فلم أكن أبداً في مزاج زهري». كانت مشكلة ضابط الأمن العام ان مكان ولادة سعاد العامري وفق جواز سفرها هو دمشق. أراد أن يعرف لماذا دمشق. لكن العامري لم تكن في المزاج المناسب لشرح تفاصيل نزوح أسرتها بعد النكبة. وقع والدها في حب أمها عام 1940: «ما إن دخل فناء منزل أسرتها في دمشق القديمة وأدرك كم كان والدها ثرياً حتى شحب حلمه بالزواج بتلك المرأة الطويلة ذات العينين الخضراوين. غير أن الحلم تحقق قبل ان تبدأ معاناة النكبة. «عام 1978 مات أبي بنوبة قلبية في براغ. كان يحضر مؤتمراً للكتاب هناك وكان إميل حبيبي آخر من راه حياً. كلا، لم أكن في المزاج المناسب لأخبر الضابط الإسرائيلي أن أمي كانت تذهب الى دمشق لتلد في كنف أسرتها كلما حملت، فالتفاصيل الشاقة المتعلقة بهذا الموضوع ما كانت إلا لتزيد في تعقيد الأمور وإطالة التحقيق». وتذهب سعاد العامري في ربط تفاصيل طفولتها وشتات أسرتها بعبثية الأسئلة التي واجهتها في مطار اللد الى أن أوصلها العبث الى حد جعل الضابط يفقد أعصابه: «ما كان سبب زيارتك لندن؟». أصرت العامري على هذا الجواب تكراراً لأنها لم تكن أيضاً في مزاج مناسب لتخبر الضابط الإسرائيلي عن رحلتها الى اسكتلندا مع عدد من أصدقاء دراستها. لم تكن تريد إقحام أسماء أولئك الأصدقاء في مسألة لا تعني أحداً في إسرائيل. وبقي هذا الإصرار مستمراً حتى أدارت ظهرها للمحقق ومشت نحو مخرج المطار من دون شور ولا دستور. واستقرت سعاد العامري في رام الله بعدما تزوجت مواطناً ما زال يعيش في أرضه على رغم الاحتلال ومشقاته. أسست مركزاً للمحافظة الهندسية على الأبنية التراثية أطلقت عليه اسم «رواق». ثم انخرطت في السياق الأكاديمي لجامعة بير زيت كما شاركت في الوفود الفلسطينية الى واشنطن على رأس مجموعة من النساء الفلسطينيات والإسرائيليات. وجاء كتابها الأول شاهداً على يوميات العيش والمفارقات اللامعقولة التي أصبحت جزءاً من حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال. صحيح أن محور الحكاية الواقعية يكمن في المضايقات التي تصيب حماة العامري البالغة من العمر 92 سنة والتي كانت تسكن بالقرب من مركز إقامة أبو عمار ما جعلها تخضع لأنواع من «التعذيب» النفسي روتها كنتها بكثير من الطرافة والفكاهة. لكن لعل ما حفز الناشرين في 19 بلداً على ترجمة الكتاب هو ذلك الجرح الضاحك في سطوره وبزوغ الفكاهة من أسوأ الظروف والمواقف، وهنا مثل نموذجي عن حس الطرافة لديها: «يخرج الكابتن يوسي ويعود دقائق حاملاً سيجارة مالبورو وكوباً من القهوة الإسرائيلية الموحلة. لم أفهم تماماً كيف يستطيع الإسرائيليون احتساء تلك القهوة الرهيبة. قيل لي إن الجيش لا يملك الوقت الكافي لغلي القهوة مع الماء. لذا، يسكبون الماء الحار فوق حبوب البن ويشربون وحلاً. طبعاً لا يملكون الوقت، لأنهم مشغولون بمضايقتنا ليلاً ونهاراً. فلو توقفوا لاستطاعوا أن يعيشوا حياةً أفضل وأن يشربوا قهوةً جيدة من دون وحل. انظروا الى الطليان والأتراك والفرنسيين: كلهم أدركوا أن شرب القهوة الجيدة أفضل من احتلال بلاد الناس». في كتابها الأخير: «ليس لديك ما تخسره سوى حياتك» تروي سعاد العامري واقع العمال الفلسطينيين الذين يجرى تهريبهم الى الداخل الإسرائيلي وإعادتهم تحت جنح الظلام في ظل ظروف لا يحسدون عليها، أفضل ما فيها أن يكسبوا لقمة عيش محدودة، والأسوأ أن يقبض عليهم الإسرائيلي فيسوقهم الى السجن أو يقتلهم بحجة التسلل... والإرهاب طبعاً. تنكرت سعاد العامري في زي رجل عامل وانضمت الى مجموعة من أولئك الشباب كانوا ينتظرون نقلهم الى ورشة في أحد الأيام قبل طلوع الفجر. واعتمدت العامري في وصفها هذا الموقف وغيره نقل الحوارات والحالات النفسية كما هي بأقل قدر ممكن من التدخل، فجاءت شهادتها وحكاية العمال تشريحاً دقيقاً لقعر التشبث بغريزة البقاء في أحلك الظروف وأكثرها إذلالاً وبسالة على السواء. رجال، أرباب عائلات، يعيشون على شفير القدر بصورة يومية، ثانية بعد ثانية، فكأن الموت صدى لدقات قلوبهم. ومع ذلك تراهم يبحثون في أمور عادية مثل شرب القهوة والشاي وتدخين النرجيلة ومباراة كرة القدم ومسألة إقفال أو عدم إقفال ذلك المقهى الذي أصبح امتداداً لبيوتهم وموئلاً يلجأون إليه هرباً من عواصف الحياة الزوجية ومصاعب الشغل. حتى كتابة هذه السطور ما زال «ليس لديك ما تخسره سوى حياتك» في قمة الكتب الأكثر مبيعاً في البلدان الناطقة بالإنكليزية وعلى غرار «شارون... » تجرى ترجمته الى لغات أخرى. ترى متى نبدأ بترجمة أعمال مؤلفينا الى العربية قبل أن يترجمها الأجانب؟