كلما قرأتُ في كتاب الله تعالى، وتدبرتُ معانيه، ودققتُ النظرَ في رسمه وهجائه، راعَني كيف أهملَ النحاةُ، واللغويون، والمجمعيون، والبلاغيون شأنَ هذا الكتاب المقدس المعصوم، بالاتكاء على ما هو غير معصوم ولا مقدس من كلام الناس. فللقرآن سمته الخاص، وطريقته العجيبة، وهديه الرباني، وآدابه الفاضلة، ونفحاته العامرة، ورسمه المعجز، وعلومه التي تجود بنفسها لو أخلص لها المتدبِّر المخلص الخاشع الصابر. فليس هناك كتاب لا يجرؤ إنسان على مجرد لمسه إلاَّ على طهارة ووضوء، كالقرآن الكريم! فهذا الكتاب»لا يمسه إلاَّ المطهَّرون» (سورة الواقعة: 79). وليس هناك كتاب أيضاً كالقرآن له طريقة مغايرة لطرائق البشر في الكتابة والرسم والإملاء، فكتابة القرآن توقيفية يجب التمسك بها كما هي، ولهذا أفتى العلماء بوجوب الالتزام بالرسم القرآني الذي وضعه سيدنا عثمان بن عفّان رضي الله عنه عندما وحَّد المؤمنين على مصحف واحد جامع وأحرق ما عداه من مصاحف الصحابة، لكيلا تختلف الأمّة. ولذا، فقد رفض الأزهر الشريف محاولة العلاّمة حفني بك ناصف في أوائل القرن العشرين، عندما قام بكتابة القرآن الكريم طبقاً لقواعد رسم العربية الحديثة، طلباً للتيسير، فهاجت عليه الناس، وصودر مصحفه المزعوم. يقول الرازي: «إن كل حرف، وكل كلمة، وكل حركة في القرآن الكريم، لها فائدة». وقال البيهقي في «شُعَب الإيمان»: «مَن كتب مصحفاً، ينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف». وروى السخاوي بسنده، أن مالكاً سئل: «أرأيتَ من استكتب مصحفاً، أترى أن يكتب على ما استحدثه الناس من الهجاء اليوم؟»، فقال: «لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكَتْبة الأولى...». وقال أبو عمرو الداني: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل: الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ، مثل: «أولوا»، فقال: «لا يغيّران». وقال أحمد بن حنبل عن ذلك: «تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو، أو ألف، أو ياء، أو غير ذلك». وقال الإمام إبراهيم حمروش شيخ الأزهر الشريف الأسبق في بحثه «رسم المصحف» الذي ألقاه أمام مؤتمر مجمع الخالدين بالقاهرة، في 26 كانون الأول (ديسمبر) عام 1949م: «وأما العز بن عبد السلام، فقد قرر أن كتابة المصحف على خلاف الرسم المقرر موقعة في التشكك. هذا، وفي سنة 1937م قدم إلى لجنة الفتوى بالجامع الأزهر اقتراح خاص بطبع المصحف على أساس الرسم الكتابي العادي المتبع الآن، فأفتت اللجنة بأنها ترى لزوم الوقوف عند المأثور بين كتابة المصحف وهجائه. وبنت ذلك على أشياء، منها أن المسلمين درجوا على كتابة المصحف برسمه الخاص من غير نكير، ومنها أن علماء الرسم لم يتفقوا على أوضاع في ما هو متبع الآن، ولا يزال رسمهم عرضة للتغيير والتبديل، وقد صار اليوم موضع شكوى وتفكير، ومنها أن الأئمة في جميع العصور المختلفة درجوا على التزام الرسم العثماني في كتابة المصاحف، ومنها أن سد ذرائع الفساد -مهما كانت بعيدة- أصل من أصول الشريعة الإسلامية التي تبنى الأحكام عليها، وما كان موقف الأئمة من الرسم العثماني إلا بدافع هذا الأصل العظيم، مبالغة في حفظ القرآن وصونه. ذلك ما بدا لي أن أعرضه عليكم، والرأي لكم»، فوافق المؤتمر بعد سماع هذا البيان على أنه لا ضرورة للنظر في تغيير رسم المصحف القائم الآن على أساس المصحف العثماني. في حين، قال عبد العزيز الدباغ في كتابه «الإبريز»: «رسم المصحف سر من أسرار الله المشاهدة، وكمال الرفعة، وهو صادر من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمر الكُتّاب من الصحابة أن يكتبوه على هذه الهيئة، فما نقصوا، ولا زادوا على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وما للصحابة ولا لغيرهم في رسم المصحف ولا شَعرة واحدة، إنما هو توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها، لأسرار لا تهتدي إليها العقول. وهو سر من الأسرار خصَّ الله به كتابه العزيز من دون سائر الكتب السماوية... وكما أن نظم القرآن معجز، فرسمه أيضاً معجز، وكل ذلك لأسرار إلهية، وأغراض نبوية، وإنما خفيت على الناس، لأنها أسرار باطنية، لا تدرك إلا بالفتح الرباني، فهي بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة التي في أوائل السور، فإن لها أسراراً عظيمة، ومعاني كثيرة». ونقل السيوطي في كتابه «الإتقان» عن القاضي الباقلاني في كتابه «الانتصار» قوله: «والذي نذهب إليه أن جميع القرآن، الذي أنزله الله وأمرنا بإثبات رسمه، ولم ينسخه ولا رفع تلاوته بعد نزوله، هو هذا الذي بين الدفتين، الذي حواه مصحف عثمان، وهو لم ينقص منه شيء ولا زيد فيه، وأن ترتيبه ونظمه ثابتان على ما نظمه الله تعالى ورتبه رسوله صلى الله عليه وسلم من آي السور». وقال السيوطي: «إن القاعدة العربية تنص على أن اللفظ يكتب بحروف هجائية مع مراعاة الابتداء والوقف عليه». وقال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه نقلاً عن ابن أبي داود: «أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، أول من جمع كتاب الله». والسؤال المهم هو: هل كان رافضو الرسم العثماني المأثور التوقيفي، يتصورون كتاباً صادراً عن إله هو ربّ القُوَى والقُدَر، وهو مكتوب بلغة البشر العادية، المليئة بالقصور، والعجز، والسهو، والركاكة، والفجاجة، فأين الإعجاز والتحدي إذاً؟ وأقول: فلو لم أنشأ في بيئة إسلامية، وكنت أعرف العربية بلسان أهلها المبين، وعُرض عليّ القرآن الكريم، لعرفت أنه من لدن حكيم خبير، بسبب إعجاز رسمه وكتابته، التي خرجت عن ناموس البشر في الكتابة والهجاء، إلى طريقته المدهشة، التي تحوي من الأسرار ما يجعل العقول تفكر، والأفئدة تؤمن، والأرواح تكشف من جلال لفظ الله ورسمه ما عنت له رقاب الخلائق، كل الخلائق. وصدق الإله العظيم القائل في كتابه الخالد: «كتابٌ أُحْكِمَت آياته ثمَّ فُصِّلتْ من لدن حكيمٍ خبير» (سورة هود: 1).