كشف الاستفتاء الذي أجرته بريطانيا الشهر الماضي واختارت فيه الخروج من الاتحاد الأوروبي، جانباً مخيفاً لكنه كان أيضاً مخفياً إلى حدّ كبير في المجتمع البريطاني وهو كره الأجانب، وتحديداً من يُنظر إليهم بصفتهم مهاجرين. في الواقع، اعتبر هذا المجتمع لعقود من أكثر المجتمعات الأوروبية انفتاحاً على المهاجرين الذين تُركوا يعيشون تقاليدهم الدينية والاجتماعية كما يشاؤون، وباتوا مع الوقت يشكّلون جزءاً لا يتجزأ من فسيسفاء المجتمع البريطاني الحديث. وعلى رغم أن أحداثاً ذات طابع عنصري كانت دائماً موجودة ويُحكى عنها في الإعلام وتشكو منها الجاليات المهاجرة، إلا أن المفاجأة جاءت مباشرة في الأيام القليلة التي تلت صدور نتائج الاستفتاء، أي الجمعة 24 حزيران (يونيو). فخلال أسبوع واحد فقط من صدور هذه النتائج سجّلت الشرطة البريطانية ارتفاعاً بحدود 400 في المئة في نسبة التقارير المقدّمة عن شكاوى من اعتداءات عنصرية ضد الأجانب، الذين غالباً ما كان يُطلب منهم الرحيل و «العودة إلى بلدانهم». والحقيقة أن الإخافة من الهجرة والمهاجرين كانت واحدة من العناصر البارزة في حملة معسكر الخروج من الىتحاد، والتي جادلت بأن ترك هذا التجمّع الأوروبي الذي يضم 28 بلداً وما لا يقل عن 500 مليون نسمة، سيسمح لبريطانيا بأن «تتحكم» في حدودها وبمن يعبر من خلالها، في حين أن بقاءها جزءاً من الاتحاد يُرغمها على استقبال أعداد لا تحصى من الأوروبيين. والمقصود هنا تحديداً اليد العاملة الفقيرة التي تأتي غالباً من أوروبا الشرقية (مثل رومانيا وبلغاريا وبولندا) للعمل في السوق البريطانية. وصبّت إحصاءات حكومية صدرت خلال حملة الاستفتاء في خانة دعاة «الطلاق» مع الاتحاد الأوروبي، إذ أظهرت فشلاً ذريعاً لتعهّد حكومة المحافظين بخفض أعداد المهاجرين إلى بريطانيا إلى «حدود عشرات الآلاف» سنوياً. فبدل أن تأتي الأرقام لتُظهر تراجعاً في أرقام «الصافي» من المهاجرين (أي أولئك الذين يأتون للإقامة والعمل في البلد مع أعداد الذين يتركون بريطانيا للإقامة والعمل خارجها)، أظهرت الأرقام الحكومية أن سكان بريطانيا زادوا 330 ألف مهاجر في العام 2015. وينقسم عدد هؤلاء مناصفة تقريباً بين مهاجرين من أوروبا وآخرين من بقية أنحاء العالم. وعلى رغم أن حملة الخروج ركّزت على سلبيات العمالة الأوروبية الفقيرة التي تأخذ مكان العمال البريطانيين، وعلى الضغط الذي يسببه هؤلاء العمال المهاجرين مع أسرهم على قطاع الصحة العامة والمدارس الحكومية والسكن، إلا أنه كان واضحاً أيضاً أن جزءاً آخر من قادة حملة ترك الاتحاد كانوا مهتمين خصوصاً بالتخويف من الهجرة الآتية من البلدان المسلمة. فقد عرض نايجل فاراج، زعيم «حزب الاستقلال» وأحد قادة حملة الخروج، لوحة دعائية ضخمة لحشود من المهاجرين الآتين إلى أوروبا عبر البلقان، خلال أزمة النزوح السوري، وكتب عليها عبارة «نقطة عدم الاحتمال» (أي أنه لم يعد يمكن احتمال قبول مهاجرين جدد). وأثارت هذه اللوحة الدعائية فوراً أزمة داخل معسكر الخروج وتبرّأ منها كثر نتيجة تحريضها العنصري الواضح ضد المهاجرين، وتحديداً أصحاب البشرة السمراء أو الحنطية، مثل الذين ظهروا في لوحة «نقطة عدم الاحتمال». وكانت هذه اللوحة، كما يبدو، سبباً أساسياً في انسحاب الليدي سيدة وارسي (الزعيمة المسلمة في حزب المحافظين) من معسكر الخروج من أوروبا واتهامها له بالعنصرية. وترافقت حملة فاراج مع توزيع ملصقات أخرى تحذّر في شكل علني من «الأخطار» التي يشكلها المسلمون على تركيبة المجتمع البريطاني. فقد وزّعت قيادية بارزة في حملة ترك الاتحاد على حسابها على «تويتر» ملصقاً تظهر فيه امرأة شقراء وسط بحر من النساء اللواتي ارتدين التشادور الإسلامي الأسود. وتقول المرأة الشقراء على الملصق الذي يشير إلى أن هذه هي «بريطانيا في العام 2050»: «لماذا تركت هذا يحصل يا جدي!»، في تحريض واضح على المسؤولين البريطانيين المتهمين بالعجز عن وضع حدّ لهجرة المسلمين إلى المملكة المتحدة، والتي يتصور الملصق الإعلاني أنها ستصير بلداً مسلماً بعد عقود قليلة (يشكّل المسلمون حالياً أقل من 3 ملايين شخص من أصل 65 مليون بريطاني). واضطرت هذه القيادية في معسكر الخروج إلى الاستقالة بعد انفضاح توزيعها للملصق على «تويتر». وقبل أيام قليلة من الاستفتاء، إغتال متطرّف عنصري النائب في حزب العمال جو كوكس التي كانت تدافع عن المهاجرين، لا سيما السوريين، وهو أمر قد يكون أحد دوافع قتلها لأن المتهم بالجريمة قال خلال مثوله أمام المحكمة رداً على سؤاله عن إسمه «الموت للخونة»، في إشارة واضحة إلى اعتباره كوكس خائنة لبلدها بسبب سياساتها «المتساهلة» مع المهاجرين. وبعد أسبوع فقط من ظهور نتائج الاستفتاء، قالت الشرطة البريطانية إن التقارير التي تصلها عن جرائم الكراهية قفزت إلى أكثر من 400 في المئة خلال أسبوع واحد. وأعلن مجلس قادة الشرطة أن 331 حادثة كراهية أبلغ عنها، ما يمثل خمس مرات المعدّل الأسبوعي لهذا النوع من الجرائم والبالغ 63 جريمة كراهية أسبوعياً. وبيّن تحليل لهذه التقارير أن الحوادث الجديدة تعكس تزايد العداء الموجّه للجاليات المهاجرة منذ الاستفتاء. وفي مناطق بريطانية، أبلغ مهاجرون عن تعرّضهم لإساءات لفظية وتعليقات سلبية على وسائط التواصل الإجتماعي بما في ذلك استخدام لغة عنصرية ضدهم. كما سجّل توزيع منشورات معادية للمهاجرين، وفي أحيان قليلة سُجّلت اعتداءات جسدية ضدهم. وفي إحدى الحوادث الشهيرة التي حصلت في الأيام الماضية، سألت راكبة من أصل آسيوي سائق سيارة التاكسي عن سبب تصويته لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي، فردّ قائلاً: «كي أتخلّص منكم جميعاً وترحلوا من هنا». كما سجّلت التقارير حادثة في مدرسة بريطانية تجمّع فيها طلاب حول زميلتهم المسلمة، وقالوا لها: «إرحلي من هنا، فقد صوّتنا للخروج». لكن الاعتداءات العنصرية لم تستهدف المسلمين وحدهم بالطبع، بل شملت شرائح واسعة من مجتمعات أوروبا الشرقية خصوصاً. إذ أوقفت مجموعة من هؤلاء في محطة قطارات في لندن وطلب منهم أن يعودوا إلى الدول التي جاؤوا منها. وفي ضاحية هامرسميث في غرب لندن، خطت رسومات عنصرية على جدار المركز الثقافي البولندي، بينما هتف متظاهرون عبارات غاضبة أمام مسجد في برمنغهام. وفي مدينة نيوكاسل، رُفعت شعارات تحض بريطانيا على «البدء في ترحيل» المهاجرين. هل كل ذلك يعني أن بريطانيا لم تعد ذلك المجتمع المعروف بتسامحه مع المهاجرين الأجانب، وأن العنصرية كانت دائماً موجودة في شكل كامن إلى أن جاء الاستفتاء ليُخرجها من قمقمها؟ إذا ما تراجعت حالات الاعتداءات العنصرية بعد مرور وقت على الاستفتاء، فإن ذلك سيعني أن الحملة ضد المهاجرين مرتبطة تحديداً ب»فورة انتصار» معسكر الخروج من أوروبا. لكنها إذا ما استمرت فإنها ستعني أن كثراً من أبناء الجاليات المهاجرة سيفكرون فعلاً في حزم حقائبهم والرحيل.