يستحقّ كتاب الراحل صلاح حزيّن «غُسَان قلبي» موقعاً خاصاً بين نصوص السيرة العربيّة، ليس فقط للجهرِ عن ألمٍ شخصيٍّ لصاحبه في الحكيِ الشديدِ الحرارةِ، بل أيضاً لرفدِ سردِه عن هذا الألم بإحالاتٍ رائقةٍ إلى ما هو عام، وإلى آلامِ آخرين، وبل وآلامِ شعوبٍ وأممٍ أيضاً. وكذلك، بإحالاتٍ عميقةٍ إلى الإنسانيّ الواسع، وهو يحكي عن جوانيّة السارد المؤلف. وتتجاور هذه كلها مع تأملاتٍ وشذراتٍ في التاريخ والسياسة والطب والفنون والآداب وعلم النفس والدين والتقاليد. وعلى قلّة صفحاته (98 من القطع المتوسط)، يتركُ الكتاب أثراً عميقاً لدى قارئِه، لاستثنائيّة الحالة التي يتحدّث عنها في فصوله السبعة، وهي غيبوبةُ نجلِ الكاتب السارد بين الموت والحياة، بعد إصابتِه في دماغِه في حادث سيّارةٍ مفزع، وعدم إفاقته منها. يضاعِف من ذلك أنّ كاتب النص صلاح حزيّن، والد الشاب المتحدّث عنه، تُوفي في الصيف الماضي، بعد مكابَدةٍ مع مرض السرطان الذي باغتَه بُعيدَ مُصابِه في نجله، وكان قد نشر فصولاً من الكتاب في «أخبار الأدب» المصرية، ونشره أصدقاء للكاتب الراحل، قبل أسابيع، عن منشورات مركز أوغاريت الثقافي في رام الله. وإذ يتبدّى أن الكتابَ غيرُ مكتملٍ تماماً، فإنّ القاصة حزامة حبايب التي كتبت مقدمةً له نجحت في تهيئتِه للقراءة، وجعلت الفصل الأخير أولاً، وهو لم يُنشر سابقاً، لأنّ الموتَ كانت له الكلمة الأخيرة في النص كما في الحياة، على ما رأت حزامة التي أخبرت قرّاء الكتاب أنّ موت صلاح سبقَ يقظة ابنه غَسّان. يكتشف عارفو نوح حزين (وهذا الاسم الحقيقي غير الشائع لصلاح) في الكتاب أنه ذو قدرة مكينةٍ في السرد المحكم، وربما كان عليه أن يلتفت إليها فينجز نصوصاً سردية وروائية رائقة. وفي أرشيفه نصّ طويل عن عين كارم، بلدته في فلسطين، عنوانه «البلدة التي لم أزرها»، ونشر في «الكرمل» في 1998، وهو عملٌ مركبٌ في سرده، ينهض على التذكّر وبث الوجدانيّ والشخصيّ، يفيدُ من حكاياتِ الناس ومروياتهم ماضياً وحاضراً. وكتب الراحل في السبعينات قصصاً قصيرة، آثر عدم نشرها وأتلفها، وذلك في أثناء مُقامه في الكويت حتى 1990 وعمله في صحافتها. وظلّ مُنصرفاً إلى كتابة المقالة والبحث الأدبي والنقد والدراسة، وتوجه إلى الترجمة عن الانكليزية، وقد نقل إلى العربية روايتي جوزف كونراد (قلب الظلام) وهوراس ماكوي (إنهم يقتلون الجياد... أليس كذلك؟). كما كتب الاستطلاع الصحافي المصور، وله فيه منجزٌ مهم، فقد نشر استطلاعاتٍ في «العربي» الكويتية التي عمل فيها. ويعكف أصدقاء له على جمع دراساتٍ له في الأدب الإسرائيلي في كتاب، وهو الذي كان زاهداً في إصدار الكتب، على وفرة ما كتبَ ونشر. وإذ عُرف بثقافته الرفيعة في غير شأن ومسألة، في الموسيقى والسينما مثلاً، وكذا في الاقتصاد (عمل سنواتٍ مراسلاً اقتصادياً ل «الحياة» في عمّان)، فإن صلاح حزين في «غُسَان قلبي» يؤشر إلى حيويّة سرده المثير الذي يشفّ عن سعةٍ في العبارة واللغة، وعن براعةٍ في التجوال مع قارئه بين قضايا غير قليلة، وفي غير بلد، في الكويت والعراق ولبنان والأردن مثلاً، فيما هو في غرفةٍ في المستشفى، وفي أثناء العبور من الحزنِ الغميق إلى صلابة الروح، وأحياناً في المرور على شيءٍ من الظرف المخدوش بالجروح، وذلك كله في تسامٍ رفيع، يُؤالف بين السماويّ والأرضيّ، بين المُتمنّى والواقعي، وبين انكساراتِ النفس وتعاليها، بين الدمعِ الغزير والابتسامات العابرة، بين مفارقاتٍ وفيرة اجتمعت في الكتاب في أناقةٍ وإلفةٍ لُغويتين، ينجذب إليهما قارئ الكتاب وهو يغالب شحناتٍ شعورية عاليةٍ من التورط في الحالة الخاصّة لكل من الأب وابنه، أي لسيرتي الاثنين اللتين تكتبان في النص المثقل بالحرارة اللاذعة. غُسَانُ القلب صميمُه وأعمقُ نقطةٍ فيه، قرأ صلاح المفردة خطأً أنها غَسّان في رواية جمال ناجي «ليلة الريش»، وصحّحها له نجله غَسّان في دردشةٍ بينهما، وعرّفه بالمعنى المعجمي لها. يكتب صلاح أنّ الأمرَ صدمه، إذ يصحّح له نجلُه العشريني في اللغة العربية التي يعتبر نفسَه ضليعاً بها، وهو الكاتب والصحافي. تبقى المفردةُ في بالِه، لتصيرَ لاحقاً في عنوانِ كتابهِ السردّي عن ولدِه الذي زامله في جريدة الحياة، لمّا صار من مراسليها وكتّاب صفحات المنوعات فيها، وتدرّب فيها في بيروت. وكان شاباً ذا ذائقة في القراءة والكتابة، ومتيّماً، مثلاً، بموسيقى بافاروتي الذي لمّا مات، وضعَ صلاح قرصاً مدمجاً لبعض أغنياته، كان قد أحضره غسان من بيروت، في غرفة الابن الغائب عن إدراكِ أيِّ شيء، ولمحَ صلاح دمعةً في طرف عين ابنه اليسرى، وسأل «هل كان غسّان المُضنى بنفسه، السادرُ في عالمهِ الخاص، حزيناً على رحيل مغنيه الأثير؟!». كان غسّان يقرأ رواية وليم فوكنر «الصخب والعنف» في ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، في الأسبوع الذي وقع فيه الحادث الرهيب، في اليوم السابق لبدء الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006، وكان يقودُ سيارته لإيصال السينمائي ميشيل خليفي إلى الحدود مع فلسطين. من تلك البداية، يروحُ غَسّان حزين ووالده إلى منعطفٍ حادّ في حياتيهما، يُصاب الشاب بحالةٍ مرضيةٍ نادرةٍ جداً، قرأ بشأنها صلاح بالإنكليزية كثيراً، وراسل مستشفياتٍ وأطباءَ في العالم بشأنها، وعَرف أنها «الحالة الخُضارية الدائمة»، وهي حالة فقدٍ عميقٍ لوعيٍ يكونُ فيها المصابُ حياً، لكنّه غيرُ مدركٍ حالته والوضعِ الذي فيه، إذ يفقدُ الدماغ وظائفه العليا، ومنها الوعيُ وإدراكُ الذات. ويعرفُ صلاح أن نجل الرئيس الإسرائيلي الأسبق عيزرا وايزمان أصيب بها في حرب 1973. يكتب تفاصيل عن هذا المرض، بعد طوافٍ في الكتابة عن طفولة غسّان ويفاعته، ومُقامه في غرفةٍ في مستشفى في عمّان، يتابع زوارٌ فيه على شاشات التلفزيون في غرفهِ الحرب على لبنان. يذهب صلاح بقارئه إلى تلك الحرب، وإلى حكاياتٍ عن تقتيلِ مستمرّ في العراق، وعن فلسطين ووعي نجله بها، وعن الكويت وصحافتها وناسِها، وعن صداقاتٍ وتجاربَ مع الموت والأحزان والفقد، وعن الأردن وحوادث السير فيها. ويكتب أيضاً عن تجربتِه مع البكاء، حين كان يَعْصى عليه الدمع، وأنه أراد مرّة أن يبكي، ثم انفرد بنفسه ليشهقَ في نشيجٍ طويل، (في محلها عنونة وليد أبو بكر كلمته على الغلاف الأخير للكتاب «عصي الدمع»). ويتيحُ المقطع في الكتاب عن هذه التجربة الزعمَ أنّ «غُسَان قلبي» عملٌ سرديٌّ بالغُ الصدق في كتابته الحزن الخاص، وفي تعبيرِه عن عجز الذات البشرية أمام حالةٍ برزخيةٍ نادرةٍ بين الحياة والموت، حين يكون الإنسان ميتاً يشبه الحيّ وحياً يشبه الميت. ولعلّ التباس النص إن كان سيرة الابن أم سيرة الأب يجعل له وقعاً خاصاً، لا سيما أنه يُختتم بعبارة آسرة: «بعد سبعة أشهر بالتمام من خروج غسان من المستشفى، أبلغني الأطباء أنني مصابٌ بسرطان القولون. وهكذا، وجدت نفسي أسيرَ انتظارين، انتظار يقظة غسان وانتظار موتي». انتظر صلاح حزيّن المُعجزة، لكن نجله بقي سادراً في غيبوبته «الخضارية» وما زال، ومضى هو إلى موته، بعد أن تركَ كتاباً له موقعه في نصوص السيرة، ضمّنه حميميّةً إنسانيّةً رفيعة، وهو يكتب الألم والحزن والفقد والفجيعة، وجعل قارئه يُحدّق كثيراً في الحياة وتصاريفها ومفاجآتها، وأيضاً في ثراءِ كتابةٍ سرديةٍ مشغولةٍ بالألم، تعبُر منه إلى كل أحاسيس الإنسان وأوجاعه، أياً كان مطرحُه... وكيفما كان مُصابه ربّما.