بدأت تظهر أخيراً ملامح ركود اقتصادي عالمي، لم تسلم منه الاقتصادات الكبرى، ما أقلق صانعي القرار والخبراء، ودفع مجلة «الايكونوميست» إلى تخصيص عدد كامل عن كيفية مكافحته. ومحاولة معرفة أسباب هذا الركود المتوقع تساعد الحكومات في مواجهته بطريقة أكثر فاعلية. ولكن الآراء تتضارب بين من يعتبر أن السبب يتمثل في عملية التحول التي يشهدها الاقتصاد الصيني، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، من الاعتماد على الصناعة والصادرات سبيلاً وحيداً للنمو، إلى اقتصاد مبني على الاستهلاك والخدمات. ولكن الاقتصاد الصيني لا يبدو أنه يتحول بل يتراجع، في ظل تسارع وتيرة هروب رؤوس الأموال، ما أجبر الحكومة على التدخل لحماية عملتها، فأنفقت الصين في سنة نحو تريليون دولار من احتياطها من العملات الأجنبية، ليتراجع إلى 3.2 تريليون دولار. ولكن لا يبدو أن هذا الإنفاق نجح حتى الآن في وقف التراجع، فنسبة نمو الناتج المحلي مستمرة بالانخفاض، ومعظم القطاعات الصناعية ينكمش. ويؤدي تراجع اليوان الصيني إلى تقلص قدرة الصينيين على الاستهلاك، ما يعني أن بكين غير قادرة بالضرورة على تحويل اقتصادها للاستهلاك، ما يعني أيضاً أن الدول التي شهدت نهضة اقتصادية على مدى العقد الماضي، بسبب شراهة الصناعات الصينية لموادها الأولية، مثل البرازيل واستراليا وجنوب أفريقيا وروسيا، قد لا تجد سوقاً صينية لمنتوجاتها تعوّضها عن انخفاض الاستيراد الصيني من المواد الأولية. ويلقي بعض الاقتصاديين باللوم على الحكومات الغربية، التي نفذت سياسات التيسير الكمي، ما أدى إلى هروب رؤوس الأموال من الدول النامية. ولكن هذه نظرية غير مفهومة، إذ إن إغراق السوق بالسيولة في أوروبا والولاياتالمتحدة، وخفض الفائدة إلى معدلات وصلت إلى أقل من صفر في بعض الدول الأوروبية، لا يشيان بأن التيسير الكمي هو سبب هروب الأموال من آسيا إلى أوروبا والولاياتالمتحدة، حيث السيولة متوافرة، والفائدة شبه منعدمة. ووسط التضارب في الآراء، يطلّ بعض الاقتصاديين الغربيين، يتصدرهم الوزير السابق رئيس جامعة «هارفرد» الفخري لاري سمرز، الذي يعتقد أن الاقتصاد العالمي يمرّ منذ مطلع العقد الماضي بما يسمى «الركود المزمن»، وهي نظرية وضعها الاقتصادي آلفين هانسن في ثلاثينات القرن الماضي، وتنص على أن الاقتصادات في الدول الصناعية تمر بمرحلة انعدام الوزن بسبب اتجاه للتوفير والابتعاد عن الإنفاق، استهلاكياً وعلى صعيد الاستثمارات. ولدعم نظرية الركود المزمن، تمكن مراجعة التاريخ الاقتصادي الحديث، فأزمة «نمور آسيا» في تسعينات القرن الماضي، أجبرت الصين ودولاً أخرى، بينها روسيا، على العمل على بناء احتياطات ضخمة من النقد الأجنبي، بلغت في حالة الصين نحو 4 تريليونات دولار، وفي روسيا نحو 350 بليوناً. وكان بناء الاحتياطات يعزى إلى أنه يمنح للدولة التدخل لحماية عملتها الوطنية من الانهيار خلال الأزمات، لتفادي أي تكرار محتمل كالذي أصاب دول «نمور آسيا». وشهد العقد الماضي محاولات مشابهة في الدول النفطية، التي استفادت من ارتفاع أسعار الطاقة بسبب انفلات الاستهلاك الآسيوي، وعملت على تفادي أزمة ثمانينات القرن الماضي، فبنت الدول النفطية صناديق سيادية ضخمة، تستثمر أموالها في قطاعات، تكون في معظم الأحيان مالية ومحافظة. ووسط الإحجام عن الإنفاق على مدى العقد الماضي، انحصر النمو العالمي بإنفاق المستهلكين الأميركيين، الذين أنعشوا المعامل الصينية، والتي أنعشت بدورها اقتصادات الدول التي زودتها بالمواد الأولية. وساهم العالم في تغذية المستهلك الأميركي أكثر من طاقته، فراحت الدول تبتاع ديوناً أميركية مبنية على فقاعة المنازل، التي أدى انهيارها إلى أزمة عام 2008. ومع حلول عام 2009، استبدلت الدول إنفاق المستهلكين الأميركيين بإنفاق حكومي، فارتفعت نسبة الدَين العام إلى الناتج المحلي من 41 إلى 74 في المئة في الولاياتالمتحدة، ومن 47 إلى 70 في المئة في أوروبا، ومن 95 إلى 126 في المئة في اليابان، فيما غرقت الحكومات المحلية والصناعات الصينية في دَين معظمه في السوق السوداء وخارج السجلات الرسمية. وساهمت كل هذه الديون في وقف انهيار عام 2008، وعودة النمو عالمياً، إنما بمعدلات ضئيلة غير تلك التي يتوقعها اقتصاديون على أثر الأزمات. ومع نفاد أموال الديون، عادت الاقتصادات العالمية إلى التأرجح. ويرى سمرز ان ما يزيد الطين بلة، التحولات التي تعزز فرضية التوفير بدلاً من الاستثمار. فتمركز الأموال في يد قلة تقلص من عدد المستهلكين وحاجاتهم، وشيخوخة السكان في أميركا والصين وأوروبا تدفع الغالبية إلى التوفير، واقتصادات المشاركة القائمة على شركات مثل «أوبر» وغيرها، قلصت حجم الاستهلاك، كما ساهم تطور تكنولوجيا المعلومات السريع في رفع البطالة ودفع الشركات إلى الإحجام عن الاستثمار في أحدث التكنولوجيا، بانتظار التكنولوجيا الأحدث منها. وكتب سمرز على موقع مدونته «أضع احتمالات حدوث ركود في الولاياتالمتحدة بنسبة 1 الى 3 العام المقبل و1 الى 2 في العامين المقبلين». وأضاف: «مع أن أفق التيسير الكمي ما زال متاحاً، إلا أن مجلس الاحتياط الفيديرالي سيحتاج إلى خفض الفائدة بنحو 400 نقطة لمواجهته». وختم سمرز بالقول إن من الصعب تحليل الوضع الاقتصادي أثناء حدوثه، ولكن «إن نجح مجلس الاحتياط في رفع الفائدة في شكل كبير من دون أن يؤدي ذلك إلى إبطاء النمو، ومع ارتفاع التضخم إلى 2 في المئة، سأتوصل إلى نتيجة مفادها أن فرضية الجمود المزمن كانت مبالغة سببها الاضطراب في قراءة الفرق بين العوامل الدورية والمشاكل الطويلة الأمد».