في زحمة الحياة وضغوطاتها، يتوق كثير من الناس إلى لحظة فراغ يلتقطون فيها أنفاسهم، ولكن المفارقة العجيبة أن من يملكون هذا الفراغ- خاصة من الشباب- لا يدركون قيمته، فيُهدر فيما لا ينفع، وربما فيما يضر. الفراغ ليس فراغًا إلا في عقول من لا يعرف كيف يملؤه. فهو مساحة ذهبية يمكن استثمارها في التعلم، أو التطوير، أو الراحة المنتجة، أو في بناء علاقات أسرية واجتماعية صحية. وفي مجتمعاتنا اليوم، يعاني كثير من الشباب من غياب البرامج التوجيهية، التي تساعدهم على استثمار أوقات فراغهم؛ بما يعود عليهم وعلى وطنهم بالنفع. وهنا يأتي دور الأسرة أولاً، ثم المدرسة، وأخيرًا المؤسسات المجتمعية والحكومية، لتقديم البدائل: من دورات تدريبية، إلى ورش عمل، إلى فرص تطوعية، إلى دعم المبادرات الشبابية. إن المجتمعات التي تصنع الفرق هي التي ترى في وقت الفراغ فرصة لا تهديدًا، وتزرع في أبنائها ثقافة البناء في أوقات السكون، لا الاتكالية وانتظار المجهول. الفراغ في حقيقته اختبار، فمن أحسن استغلاله، تقدم، ومن أهمله تأخر. فهل نكون من الفئة الأولى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ". رواه البخاري. هذا الحديث الشريف يختصر نظرتنا الخاطئة للفراغ، ويُذكّرنا بأنه نعمة قد تنقلب نقمة إن لم نحسن استغلالها. في زمن كثرت فيه وسائل التسلية واللهو، وقلّت فيه المبادرات الجادة، أصبح الفراغ يُملأ بما لا ينفع، بل أحيانًا بما يُفسد الفكر والأخلاق. ترى شبابًا يجلسون بالساعات أمام الشاشات بلا هدف، بينما الوقت يمر، والعمر يُهدر، والفرص تضيع. الإسلام لم يأتِ ليضيّق على الإنسان، بل علّمنا كيف نعيش حياة متوازنة. حياة نملأها بذكر الله، وطلب العلم، والعمل الصالح، وصلة الرحم، وخدمة المجتمع. كل لحظة فراغ هي فرصة لرفع الدرجات، وكسب الحسنات، وتحقيق الذات. من المهم أن ندرك أن الفراغ لا يعني "عدم العمل"، بل هو فسحة للاختيار: إما أن تُملأ بطاعة، أو تُملأ بمعصية. ولا حياد في ذلك، فالزمن لا ينتظر أحدًا. فلنربِ أبناءنا على أن الفراغ أمانة، وأن استثماره مسؤولية، وأن أعمارنا هي رؤوس أموالنا الحقيقية. ومن أراد الفوز في الدنيا والآخرة، فليبدأ من وقته… قبل أن يُسأل عنه.