إنما المتقاعدون حقول تستبدل محصولها لتستمر تعطي السنابل بعد أن أعطت الورود، لكن قضية التقاعد وحقوق المتقاعدين لم تنضج ولم تتبلور في الوعي العام إلى الآن ولم تصل بعد لأن تصبح قضية حقوق. ولم تتجاوز كونها قضية إعلامية يلوكها الرأي العام، يتم تداول هذا الموضوع كحالات فردية أو كردود أفعال لا أكثر. ولذلك بقيت قضية المتقاعدين بعيدة عن تعاطف وتفهم المؤسسات الاجتماعية والإنسانية، مثلما بقيت بعيدة كذلك عن استثمار المؤسسات الاقتصادية بهم فيهم ولهم. تبدو فكرة تأسيس بنك المتقاعدين حاجة اجتماعية ملحة مثلما هي ضرورة اقتصادية متزايدة، في ضوء عدم كفاية معاشات المتقاعدين مقارنة بارتفاع مستوى المعيشة التي أثقلت كاهل المتقاعدين وعائلاتهم منذ سنوات، ناهيك عن أن ما يفوق نصف المتقاعدين لا يملكون مساكنهم، ويسكنون بالإيجار، ما أضاف عليهم أعباء فوق الأعباء التي يكابدونها جراء تدني معاشاتهم وارتفاع مستوى المعيشة، فضلا عن حاجتهم الصحية الماسة للتأمين الصحي والرعاية الصحية. بنك المتقاعدين المقترح ليس بديلا عن المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية ولا هو بديل عن المؤسسة العامة للتقاعد، فلهاتين المؤسستين أدوار وأهداف مختلفة عن دور وهدف البنك. ففي البنك، يحمل المتقاعدون والموظفون الحكوميون وموظفو القطاع الخاص أسهم هذا البنك، بنسبة 1% يدفعها العامل والموظف من دخله لمدة عشر سنوات ويطرح الباقي للاكتتاب العام ويؤسس وفقا لنظام الشركات وهي تعطي الأولوية للعمل في هذا البنك للمتقاعدين وأبنائهم وبناتهم الراغبين والقادرين على العمل ويرسم سياساته لخدمة المتقاعدين والمتقاعدات بإعطاء أولوية العمل به للمتقاعدين ولأبنائهم حسب الكفاءة والقدرة. من المهم أن يتم تشريع نظام لهذا المشروع ومنحه القدر الكافي من الاستقلالية عن القطاع الحكومي والقطاع الخاص وأن يكون تحت مظلة القطاع الثالث، أو المجتمع المدني، ليتمكن هذا البنك من أداء دور اقتصادي اجتماعي، يرسم سياسته مجلس إدارته. ولطبيعة هذا النوع من البنوك، فمن الطبيعي والضروري أن يقدم هذا البنك كافة المنتجات البنكية المتعارف عليها من تمويل وتوفير وادخار وتأمين. هذا النوع من البنوك لا يتوقف عند أعمار المستفيدين أو طبيعة عملهم أو حجم رواتبهم. الفكرة ليست خيالية، وقد تمت دراستها من قبل كما أسلفت في مقال الأسبوع الماضي، وبالتأكيد هي بحاجة إلى مزيد من الدراسات المستفيضة والمتعمقة والمقارنة وقد تكون بحاجة إلى سن تشريعات جديدة، لكن المهم أكثر هو أنها تنسجم تماما مع التوجهات الجديدة للدولة في التحول الوطني... السعودية 2020، فعلى سبيل المثال، سيجد هذا البنك في هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة بابا رحبا يحلق من خلاله بتطلعات فئات كبيرة وكثيرة من أبناء وبنات الوطن. كما أن هذا البنك سوف ينقل المستفيدين نقلة نوعية يتجاوز بهم الرعوي إلى التنموي وهو المنهج الذي أعلنت عنه وزارة الشؤون الاجتماعية مؤخرا ويبدو أنها ماضية به. على الجمعية الوطنية للمتقاعدين أن تبادر وتقوم بربط العربة بالحصان وأن تعمل على إحياء هذا المشروع وهي التي عرفته حق المعرفة منذ بداياته، مستغلة بذلك الانفتاح الذي تبديه وزارة الشؤون الاجتماعية للانطلاق به إلى أفق أرحب. لقد شارف عدد المتقاعدين على عتبة المليون أو ربما تجاوزها، وهو رقم يزداد بوتيرة عالية في المجتمع السعودي، في المقابل تواجه المؤسسة العامة للتقاعد ومؤسسة التأمينات الاجتماعية تحديات جمة قد تبدأ بصعوبات إدارة استثماراتهما ولا تنتهي بالمطالبة بدمجهما وردم الهوة بين نظاميهما لصالح المتقاعدين، الذي ترجح كفته لصالح مؤسسة التأمينات ومن يتعاملون معها. إن حل أزمة المتقاعدين في مجتمعنا وتحسين مستواهم يعني إسهاما مباشرا في حل أزمة الإسكان والفقر والبطالة والتأمين الصحي، ويعد إسهاما غير مباشر في تحسين مستوى التعليم ومستوى الخدمات الصحية والاجتماعية والغذائية. نسبة كبيرة من المتقاعدين يتركون عملهم في الخدمة المدنية أو العسكرية أو القطاع الخاص وهم على درجة عالية من العطاء والخبرة. ويخسر تجربتهم المجتمع مرتين: مرة لعدم استفادته من خبراتهم وتجاربهم، ومرة حين يتسبب لهم بأمراض نفسية واجتماعية وصحية ناتجة عن الإحباطات وعدم التقدير والوفاء.