يتساءل الكثيرون عما إذا كان ثمة من صلة واضحة بين عمر الشاعر أو الفنان وبين نتاجه الإبداعي. وهو تساؤل مشروع بالطبع؛ لأن الروح لا تستطيع أن تنجز مهمة التحليق في الفضاءات الشاهقة للتخييل اللغوي واللوني والإيقاعي دون أن تستند إلى جسد فني ومعافى وبعيد عن الترهل والتلف. لذلك، ثمة من ينحاز دائما إلى الأعمال الأولى للشعراء والكتاب والفنانين، بوصفها الأعمال الأكثر التصاقا بحيوية الكائن الإنساني وانفجاره التلقائي البعيد عن النمذجة والتكلف والحذلقة. هذه المقولة لا تنسحب على الشعراء والكتاب وحدهم، بل على المغنين والموسيقيين أيضا، وليس من قبيل الصدفة المجردة أن يجيبك شخص ما لدى سؤالك إياه عن هذا الشاعر أو ذلك الموسيقي أو المغنى بأنه يفضل أعماله القديمة على المتأخرة؛ لأنها تمثل وفق رأيه نضارة الصوت أو حيوية اللغة والموسيقى. وليس صدفة أيضا أن يقول شخص ما إنه يحب أغنيات أم كلثوم وعبدالوهاب وفيروز وعبدالحليم حافظ الأولى، أو يقول آخر بأنه يفضل الأعمال الأولى لأدونيس أو محمود درويش أو محمد الماغوط أو أنسي الحاج، حيث كانت اللغة أكثر طراوة وطواعية وصلة بالقلب. وربما كان نزار قباني يترجم على طريقته هذه الفرضية حين اعترف في إحدى مقالاته بأنه مدمن على متابعة زاوية «بريد القراء» في الصحف اليومية؛ لأنها تمثل طزاجة الكتابة ومراهقتها المتصلة بالشهوة والشغف وفوران الحاس. وكان زياد الرحباني بدوره يؤثر اختيار الممثلين الهواة في مسرحياته المتميزة؛ لأنهم يكونون حسب رأيه أكثر حيوية وصدقا وبعدا عن «التكلس» وآفات الاحتراف. على أن نصف الحقيقة لا ينبغي أن يحجب نصفها الآخر، حيث يفضي تقدم السنين إلى تعميق التجربة ومراكمة الخبرات والنفاذ المطرد إلى مجاهل النفس البشرية. وإذا كانت بواكير الشعراء والمبدعين تتغذى من الاندفاع الغنائي واضطرام الدم في العروق، فإن أعمالهم اللاحقة تسترشد بالحكمة والتأمل وامتلاك المهارات وحنكة التأليف. ومع ذلك، فإن ما ينطبق على الشعر لا ينطبق على الرواية، حيث يندلع الأول من هبوب الحياة العاصف، وتتكئ الثانية على التذكر والترجيع واستعادة الحيوات المنقضية. وكما لكل مبدع لغته وبصمته ومنسوب موهبته المختلف عن الآخرين، فإن له في الوقت ذاته قممه وسفوحه وفصوله الإبداعية الملائمة.