قبل خمسة عشر عاما نعت صحيفة (عكاظ) في عددها رقم 11239 بتاريخ 25 مايو 1997م وفاة أحد طلاب العلم المتميزين ومن أوائل دفعته بكلية طب الأسنان بجامعة الملك عبدالعزيز (الدكتور بديل محمد نور بخاري - رحمه الله) إثر حادث مروري أليم، وأفردت لذلك النعي عنوانا مؤثرا في قلب صفحتها الأخيرة: «بديل .. يودع أسرته وكليته»، حيث رحل حين ذاك وهو على أعتاب التخرج بامتياز، وقد أشار حينها الكثيرون ممن يعرفون ذلك الشاب الفذ -رحمه الله- بأنه اعتاد على حصد المركز الأول طيلة مراحل دراسته، وأن الوطن فقد برحيله أحد أبنائه الذين توسمنا فيهم أملا جميلا نحو مستقبل زاهر بالعطاء. وفاة هذا الشاب -الذي أسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته- كانت مجرد حالة وفاة عابرة ضمن أكثر من أربعة آلاف شخص فقدوا أرواحهم خلال ذلك العام نتيجة للحوادث المرورية التي تسببت أيضا في وفاة أكثر من 138 ألفا وإصابة أكثر من مليون فرد خلال ال 36 عاما الماضية، وذلك حسب الإحصاءات الرسمية الصادرة من مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات، أما الإحصاءات الصادرة من منظمة الصحة العالمية (WHO) فقد أشارت إلى أن المملكة سجلت العام الماضي أعلى نسبة وفيات في حوادث الطرق في العالم العربي ومن ضمن أعلى عشر دول على المستوى العالمي بمعدل 49 وفاة لكل 100 ألف من السكان، وأن حجم الخسائر المادية حسب ما نشرته «عكاظ» بتاريخ 18 أبريل 2011م تجاوز ال 13 مليار ريال سنويا. وفي منتصف العام 2010 شرع المسؤولون عن الشأن المروري نحو تطبيق نظام «ساهر» لضبط الحركة المرورية آليا عبر الكاميرات الرقمية، وأشاد حينها عدد كبير من مسؤولي الأجهزة المرورية بهذا النظام، حيث أشار حينها اللواء عبدالرحمن المقبل مدير مرور الرياض سابقا (مدير الإدارة العامة للمرور حاليا) خلال شهر سبتمبر 2010 بأن إحصائيات المتابعة لنتائج «ساهر» الصادرة من وزارة الصحة وهيئة الهلال الأحمر أظهرت انخفاضا في عدد الوفيات بنسبة 38 في المائة. ولكن الإحصاءات «الرسمية» التي صدرت عن العام الماضي 2011 (بعد مرور عام على تطبيق نظام «ساهر») أتت بنتائج أكثر سلبية بل والأسوأ في تاريخ الحركة المرورية في المملكة، حيث ازدادت نسبة الحوادث المرورية اضطراديا وحصدت 7 آلاف و153 حالة وفاة، وبلغ عدد الحوادث أكثر من 544 ألف حادث بمعدل 64 حادثا كل ساعة و20 حالة وفاة يوميا. هذه النتائج الوخيمة نتجت عن تراكمات سلبية كبيرة في الشأن المروري، والتي تركت لنا جرحا غائرا لم نتحرك لعلاجه بالشكل الذي يوقف هذا الهدر الهائل في الأرواح والممتلكات، وليس القصد أن نظام «ساهر» كان حلا فاشلا ولكنه ربما لم يكن حلا كافيا لكبح الحوادث المرورية التي باتت وأصبحت وأمست ماكينة للقتل اليومي. ولو نظرنا للشأن المروري بعمق لوجدنا أن الأنظمة المرورية برمتها لم تحدث أنظمتها خلال 40 عاما سوى مرة واحدة فقط، حيث صدر النظام المروري قبل الأخير بمرسوم ملكي في الثاني من يناير عام 1972م واحتوى على 210 مواد نظامية وظل يطبق على مدى 36 عاما حتى صدر النظام المروري الجديد بموجب المرسوم الملكي رقم م/85 بتاريخ 26/10/1428ه واللائحة التنفيذية الصادرة بتاريخ 3/7/1429ه، واشتمل على 79 مادة، وبناء على هذه المواد تم تطبيق نظام «ساهر». وفي مقابل ذلك، في الغرب يتم تحديث القوانين والأنظمة المرورية باستمرار نظرا للتغيرات والمستجدات التي تطرأ على الشأن المروري باستمرار، وفي دولة مثل الولاياتالمتحدة وهي من أكثر الدول انضباطية وصرامة في تطبيق القوانين المرورية، نجد أن دليل أجهزة مراقبة المرور MUTCD الصادر من هيئة إدارة الطرق FHWA يحدث مرة كل خمس سنوات منذ عام 1988، وقبل ذلك حدثت القوانين المرورية كل سنتين أو ثلاث سنوات ونفس الأمر ينطبق على إدارة القيادة وتراخيص المركبات في المملكة المتحدة (DVLA) التي جددت أنظمتها المرورية عشرات المرات منذ تشريع قانون المرور البريطاني عام 1919م. ويجب أن ندرك وجوب تطبيق القوانين المرورية بصرامة من دون أي «عاطفة» بدءا من مرحلة الحصول على رخص القيادة التي تعتبر اللبنة الأساسية في ضمان انضباط الحركة المرورية، ونستشهد بالفتاة البريطانية التي فشلت في تجاوز اختبار رخصة القيادة لأكثر من 90 محاولة حسب ما نقلته الدايلي ميل 18 مارس 2011، ولكنها لم تقترب من الرقم القياسي للسيدة «تشا» من كوريا الجنوبية التي تجاوزت امتحان رخصة القيادة بعد 960 محاولة. لذلك نحن بحاجة إلى تطوير المنظومة المرورية بشكل عام (أنظمة وقوانين، وآليات تنفيذ وتطبيق، وتقنيات مساندة، وغيرها)، وربما بحاجة إلى أن نستنسخ الأنظمة المرورية المتقدمة حول العالم، وربط هذه المنظومة بالمؤسسة القضائية من ناحية وشركات التأمين من ناحية أخرى كما يفعل الغرب، حتى نضمن تطبيق عقوبات نظامية رادعة وحساب قيمة التأمين اعتمادا على السجل المروري للسائق. لذلك.. حوادثنا المرورية يجب أن تدفعنا إلى «الاستنفار» بعد أن أصبحت أحد أكبر مسببات الوفاة في المملكة وربما الأكثر ألما ومأساوية، وعليه أعاود أنا والكثيرون من أمثالي التساؤل بحرقة: متى يُكبح الانفلات المروري؟! [email protected] @TrueFact76