أشعر بالفقد لتلك الأيام التي عشناها في القرية القديمة، قال في نفسه وهو ينبش في أوراق رثة، تشبه تجاعيدها الكثيرة وألوانها المنهكة ملابسه التي قرر أخيرا أنها تحتاج إلى أن ترتب خارج الدولاب.. داخل حقيبة، كان النهار في نهايته الحمراء، يسبح في هياج الروتين الساكن أعماق المدينة. فتح نافذة الغرفة المطلة على فسحة الهامش. أخذ يراقب تلك الصغيرة التي تلعب بالدراجة، أمام البيت. جمالها الصغير وروعة الأفق الذي يتلاعب هواؤه بشعرها الداكن لم يخف ذلك الانزعاج المرسوم على وجهها كلما أخفقت في إكمال حراكها بالدراجة، بسبب الحجارة المبعثرة على طبقة الإسفلت. يضحك كلما يرى هذه الصغيرة كفاتحة مساء، كأنها رسالة سماوية لباب ذاكرة كبلتها الحياة بالتحفز والانتظار، «هي البراءة إذن ..ما فقدنا بضياعها الجمال الحقيقي». مرت برهة، ولم يجد نفسه إلا وقد حملته تلك الساقان النحيلتان إلى قبضة الدراجة الصغيرة. ضحكاتها بدأت تتصاعد حين سقط على وجهه وهو يحاول أن يعلمها كيف تتقي تربص الحجارة العشوائية. طرق الليل آذان اليقين، كان الوقت قد ارتكن حظه على محمل التغاضي، أكمل اللعبة.. وعاثت أجمل الذكريات التي مازال يحتفظ بها في ذهنه، بينما يدها الصغيرة تلملم تلك الحجارة من طريقه، تتسارع الخطوة والضحكات. ينظر إلى شباكه المفتوح، «كم كان كلاما أحمقاً.. هذا الذي كنت أتحدث به لصديقي، ليس الهروب إلى الغربة حلا لمأزق البطالة»، كانت الأرض الشاسعة تحت قدميه تقول له الكثير، أما حروف الصغيرة فآثرت أن تمضي بعد التعب إلى حضن البيت، صوت الأم القلقة والسيارات البعيدة تداخلا بأفكاره فجأة. أخذ يلوح في الهواء ويتخيل هذا الجدار حي ويفهم ما أعرفه الآن، لماذا لا أرسم خطا طويلا وآخر متعرجا هناك، صفوف من الكراسي وأرجوحة هنا.. لم يشبه الأمر كما اعتاد ذلك النوع من الثرثرة التي تنتهي بنوم أو سخرية جاره القريب. لكنه بدأ يهاجر بعيدا عن تلك الابتسامة الكئيبة التي ظللت ملامحه لأربعة سنوات بعد التخرج من الجامعة وتعلم هندسة الحدائق. الآن صارت عنده فرصة مضيئة كي يجعل عيد بداية السنة مغايرا لسكان الحي. نضجت تفاصيل الفكرة، وتكاثرت أيدي أصدقائه الذين فرحوا بالحديقة التي بدأ بتخطيطها كي يلعب الأطفال وتعود العصافير المهاجرة لأغصان المكان. منى مرسل (مكةالمكرمة)